المؤتمر نت - .

السبت, 17-يونيو-2006
خالد الحمادي -
أروى :اليمن غني بالموروث فقير بالتوثيق
مؤسسات اليمن المعنية بالتراث الشعبي غائبة مع أنه ليس لدينا ما نقدمه سوي ثقافتنا!



اهتمت كثيرا بالتراث الشعبي اليمني منذ نعومة أظفارها، تجوّلت في طول البلاد وعرضها لاقتناء نوادره، تعمقت في أغواره وفي جواهره، وأخيرا باعت كل ما تملك من قطعة ارض ومن ممتلكات ثمينة لإنشاء دار للتراث الشعبي، كتعبير عن عشقها لهذا المخزون الكامن في أعماق الأرض اليمنية الغنية بالتراث والناطقة بالحضارة. إنها الكاتبة والباحثة اليمنية أروي عبده عثمان.

تختزل أروي في ذاكرتها الكثير من الكنوز التراثية من خلال أبحاثها الطويلة ودراساتها الميدانية، ولكنها لم تقف أمامها مقيدة اليدين، بل حولتها إلي مشاريع ناطقة من خلال العديد من المنجزات التي حققتها خلال الفترة الماضية علي الرغم من تقاعد المؤسسات الرسمية المعنية بهذا الشأن.

في هذا اللقاء الذي خصّت به القدس العربي ، تطرح أروي عبده عثمان همومها واهتمامها بهذا المخزون اليمني، وتشرح دوافع لجوئها وتخصص نشاطها بهذا النوع الثقافي الأصيل في بلد غني بالتراث لكنه مهمل لهذه الكنوز.
هنا نص اللقاء:

ما هو جديد الكاتبة والباحثة أروي عبده عثمان؟

علي صعيد الكتابة القصصية، هنالك مجموعات ما زالت حبيسة الأدراج، أما الكتابة الصحافية فقد توقفت عنها بسبب انشغالاتي في بيت الموروث الشعبي، وعلي المستوي البحثي هنالك كتاب جديد هو (قراءة في السردية الشعبية اليمنية + 70 حكاية شعبية) وهو مقدمة لموسوعة أطلس الحكاية الشعبية، التي يتحقق فيها الحلم الأول، وهو تكوين فريق عمل لمسح مناطق البلاد لإعداد موسوعة أطلس للحكاية الشعبية اليمنية، لكن يبقي هذا مجرد حلم، لأن تحققه مرهون بالدعم من أية جهة تتبني هذا المشروع الثقافي الكبير.. كما أني علي المستوي الشخصي ما زلت أنقح في كتابي الجديد (سؤال المرأة في المحكي الشعبي ـ وداعاً وريقة الحناء) الذي اشتغلت عليه في مكتبة الإسكندرية عن طريق اليونسكو بالمنحة المقدمة للمرأة والسلام والجندر. وأما علي صعيد بيت الموروث الشعبي المتحفي الذي أسسته وأديره، فقد اعددنا له ديكورات تراثية وعرضنا مقتنياته بشكل يتناسب مع منهجية البيت، وتبقي الغُصّة أن هناك أشياء تراثية كثيرة مخزونة لم نتمكن من عرضها بسبب ضيق المبني، كالأزياء، الكتب، الأواني .. وغيرها.

يضاف إلي جديدنا أننا قمنا بإصدار اسطوانة سي دي من أغاني النساء (ملالة) وهي أغانٍ شعبية بدأت تختفي بسبب تأثير جماعة المد الإسلامي المتطرف والمتعصب الذي يعتبر ليس فقط صوت المرأة عورة، بل الوجود كله عورة.

ما هي ملامح الكتاب الجديد الذي تعتزمين إصداره قريبا؟

هو عبارة عن مدخل بحثي للحكاية الشعبية اليمنية كالتعريف بها، ومعالجة موضوع المؤثرات الداخلية والوافدة علي الحكاية، كالهجرات والتنوع الطبيعي ومؤثرات أخري، ثم التطرق بلمحة سريعة إلي حكايات الريف اليمني، حكايات المدن، حكايات الرجال والنساء وإلي المرأة والحكايات الشعبية، كما أطللنا من خلاله علي بعض سمات الحكاية الشعبية اليمنية ومميزاتها وتصنيفها إلي حكاية اجتماعية، حكاية حيوانية، حكاية الألغاز والحكاية المرحة أو الحكاية الفكهة وحكاية الجن وحكاية المعتقدات الشعبية، ثم خلصنا إلي بعض معوقات توثيق الحكاية الشعبية، كالجهود الفردية المحدودة وندرة التمويل وبدائية أدوات التسجيل وعدم إدراك الرواة لقيمة ما يحملونه من كنوز، وتأثير الثقافة السلفية التي تري أن صوت المرأة عورة، والظروف المعيشية السيئة لأهالي الريف وتأثير النزعات العصبية، والتسجيل الرديء لبعض الحكايات الشعبية. أما القسم الثاني للكتاب فهو عبارة عن 70 حكاية شعبية من كثير من المناطق اليمنية، فيما الجزء الأخير يحتوي علي صور من الحياة التقليدية اليمنية.

ما سر اهتمامك بالتراث الشعبي اليمني إلي هذا الحد؟

هذا لم يعد سرا، فالتركيز علي مفردات التراث الشعبي في كتابتي الأدبية ومشروعاتي الشخصية لا أقحمها أو أفتعلها، بل تأتي طواعية وقد سئلت هذا السؤال كثيراً، فحتي كتابتي السياسية لا بد أن تستخدم أو توظف حكاية شعبية، معتقداً، مَثَلا، غنوة، وبعد ذلك أقوم بإسقاطها علي القضية التي أتحدث عنها، ربما كان مردّ ذلك إلي تكويني في بيئة شعبية جعلتني أسيرة الشعبي بشكل عام، غنوة، طقس شعبي، حكاية أو رقصة، أحس بأني أمام سحر لا يوصف، يتملكني بطريقة سحرية لا أستطيع وصفها، أجد أني أمام الصدق المطلق وأمام الحياة بكل بساطتها والانغماس في تفاصيل الطبيعة أمام الروح المتداخلة التي تذهب في تفاصيل حياتنا اللاهثة، فمثلما تتملكني رقصة في أقصي شمال البلاد أو جنوبه شرقه أو غربه، بنفس القدر تتملكني رقصة الفلامنكو أو الأغاني الريفية للعالم أجمع. هؤلاء المغمورون في زحمة الأشغال الشاقة المؤبدة في الحقل أو علي الرحي أو الرعي والتحطيب لا ينسون إيقاعات الحياة الجميلة، ستري نغمات العصافير تداعب المعول وخرير الماء يفتق التربة ويفتق روحهم المجهدة، إنهم يستمتعون بطعم الطبيعة، حلوها ومرّها.. لا يمكن أن يمر هلال القمر دون أن يتغنوا به ولا يمكن أن تلوح الشمس دون لثمها بقبلة الصباح، ولا يمكن أن يصيح الديك دون كلمة عرفان من ربة الحقل ورب المنجل؛ ربما هذا كله هو الذي جعل كتابتي تحتفي بالشعبية.

وماذا عن دوافعك لتأسيس بيت الموروث الشعبي الذي أنشأتيه وتديرينه بإمكانياتك المتواضعة المحدودة؟

الذي شجعني وأجبرني علي المضي في هذا المجال، كل ما تحدثت عنه سابقاً، ثم ان الكثير من الناس الذين يعشقون التراث ويحسون بأن آيات الجمال والفرح بدأت تخبو وتموت، كل إنسان رأي أن مؤسسات الدولة المعنية بتنمية ثقافة الحياة عبر التراث الشعبي وغيره غائبة ومغيبة، عن الحياة أصلا ولو ظهرت فلن تأتي إلا بما تبصقه الأفواه في (متافل) القات، والرغاء الأخضر القاتل للحياة.

وأيضاً من خلال البحث في قضايا التراث كنت منذ الإطلالات الأولي مسكونة بمصطلحات الخوف، بل الجزع من تهالك أشكال التراث الشعبي، فبدأت أرغي ـ أنا الأخري ـ بمصطلحات الهوية الحامية، الخصوصية، الغيرية، الذوبان، الحماية والمحافظة.

أصبحت لا أختلف عن ذلك الحارس أو العكفي (العسكري) الذي يحس بأنه الضرورة، فلن نستطيع أن نعيش من دونه ومن دون ظلاله الوارفة، حارس البلاد والعباد وقبلها حارس النفوس والعقول، مثل هذه الثقافة لم تفرز إلا ثقافة صدام، فهي لم تختلف كثيراً عن مصطلحات القومجية، ثقافة الشمول، والشعاراتية المفروغة منها، حتي كُتب لي السفر إلي مكتبة الإسكندرية لتأدية بحث من قبل اليونسكو.. بدأت القراءات الجديدة البعيدة عن التوتر الناجم عن مشاغل الحياة اليومية والفواتير والإيجارات والتهديد بإغلاق بيت الموروث الشعبي، الطفل الذي سيموت في مهده، والمؤسسات الرسمية القائمة تتفرج، ولم تصحُ بعد من انسطال (القات)، لعدم إيفائنا للايجارات تخبو قليلاً قليلاً، وأصبح التوحد بالكتاب فقط.

عندئذ قرأت ما لم أقرأه في حياتي بدأت أعرف من خلال الكتابة الجديدة أن التراث يجدد نفسه، وأن الهوية مصطلح ضيق يتوه في مطبات التخلف التي تغرقنا، وان الهوية متجددة بلغة التسامح والحوار مع ثقافة الآخر، وأن التميز في منابع الثقافة الشعبية لا يأتي إلا عبر الانفتاح والتلاقح، وليس اختزال الثقافة الشعبية في ثقافة واحدة، تكون مهيمنة ونافية للتعدد والاختلاف والتعايش والتثاقف مع الثقافات الأخري. هذه القراءة الجديدة لم تغير فقط اهتمامي بالتراث الشعبي، بل وبكتاباتي السياسية والاجتماعية التي كانت ملغومة بثقافة الطّماش (المفرقعات) والمباشرة، بدأت أركز علي البحث واقتنعت بأن التغيير ليس فقط بتغيير آليات الثقافة التقليدية، بل وبتجاوزها أيضا.

وما هي أهداف وغايات بيت الموروث الشعبي؟

أهداف وغايات بيت الموروث الشعبي ودوائر اهتمامه تتركز حول توثيق التراث الشعبي اليمني، وخصوصاً التراث الشفاهي أو الأدب الشعبي كألوان الغناء الشعبي، الحكايات، الأمثال، النكت، الألغاز، السير والأساطير الشعبية وكذا توثيق العادات والتقاليد الشعبية كتقاليد دورة الحياة وتقاليد الزراعة والمناسبات الاجتماعية والدينية، كما توثيق المعتقدات والمعارف الشعبية كالمعتقدات الخاصة بالسحر والأحلام وأضرحة أولياء الله الصالحين.. الخ. كما يسعي البيت إلي توثيق التراث المادي كالأزياء الشعبية، المصوغات، طرق الزينة، النقوش، الوشم، الألعاب الشعبية، الرسوم والفنون الشعبية، بالإضافة إلي الحفاظ علي الهوية المفتوحة علي التفاعل والتثاقف مع الآخر، وخلق قاعدة شعبية ورأياً عاماً بأهمية الموروث الشعبي وحمايته وطرق المحافظة عليه وإعداد الكوادر المؤهلة القادرة علي التعامل مع الموروث الشعبي وقضاياه وإشكالياته وإيجاد قاعدة معلوماتية وتصنيفية لأشكال الموروث الشعبي وجعلها في متناول الباحثين والدارسين.

كما يهتم بيت الموروث الشعبي ليس فقط بالتعريف بهذا الموروث، بل أيضا بالتوثيق جمعا وتدويناً، دراسة وتحليلاً، ومتحفية بيت الموروث الشعبي لا تقصد تسييح الثقافة، أو نشر ثقافة التسيح، وما يستهوي السيّاح بعد نزع محتواه الإنساني، ولكن كل قطعة لها دلالة ثقافية إنسانية، تحكي عن الإنسان المبدع الخلاق في تحويل الجدب إلي لوحة من لوحات الجمال عبر معوله، عبر إشاراته وتهويماته، تناقضاته وفلسفته البسيطة لتفسير الواقع والظواهر التي يعجز عن تفسيرها، فيخلق لها تفاسير فوقية ميتافيزيقية لها طعم الأسطورة، وشجن الخرافات اللذيذة. ونحن في اليمن ليس لنا ما نقدمه سوي ثقافتنا، لا نملك أي منتج فاعل ومؤثر سوي المنتج الثقافي الجميل.

يقال بأن اليمن بلد غني بتراثه الشعبي، لكنه فقير بتوثيقها، وهو ما أسهم في نسيانها، ما رأيكم؟

نعم أوافقكم الرأي في أن اليمن غني بمورثاته، لكنه فقير بتوثيقها، فما زلت أردد المثل الشعبي القائل (جوهرة بيد فحام) وهذا ينطبق علي ثقافتنا الرسمية والشعبية في هذا الصدد، فهناك مخزون ثقافي إنساني خام، لكن لا يؤخذ منه سوي الفقاعات، ثقافة الومضة، ننتقي ما يناسب الولائم والاحتفالات الرسمية أكانت وطنية أو دينية، شكل غنائي كالبالة، والزامل، تحشر داخله ثقافة السلطة وثقافة التمجيد والتدليس (التطليس)، أو تصبغ بايديولوجيات دينية ثورية ديماغوجية طافحة بلغة القتل والعنف وسيلانات من المحرمات والانغلاقات المدمرة وفي الأخير يـبقبق الإعلام الرسمي فيطلق عليه اسم تراث!!، الأخطر من ذلك هو ما نجده الآن عبر مؤسسات رسمية تركز علي الواحدية في الشكل التراثي ليختزل بقية الأشكال الأخري.. ما زالت ثقافة (العوجة) الواحدية الصدّامية هي التي يجب أن تسود، وتقصي مهمشة التراث البغدادي، والتراث الكردي، والأشوري..الخ، يحدث هذا عندنا في اليمن، فثقافة البَرَع يجب أن تختزل كل أشكال التراث في تهامة أو حضرموت، أو عدن أو ريمة...الخ من المناطق، فـ(بـُرّعت) رقصة الشبواني، والشرح اللحجي، ورقصة أم قحفة، وتراث الأخدام، التراث الزاخر بالحياة، لا نعرف عنه شيئاً، وتراث البحر والصحراء أيضاً لا نعرف عنهما شيئاً، في ظل (واحدية البرع) المليئة بكل أنواع العنف، فهي رقصة الحرب تقتل بجانبها رقصات الحب واللوعة والاشتياق للحبيب، لأمزان السماء، للندي وتغاريد الكناري، وفي الأخير يأتي الاعلام الرسمي فيطلق علي كل هذا أنه تراث شعبي، ويضيف محشراً أنه مصطلح فلكلوري، ليصبح التقرير مسبوغا بالفكرية، والمنهجية..الخ.

كل من الجهات الرسمية والدينية تلتقي في مجري إفراغ جمالية الكلمة والمعني وتشويه للحن من محتويات الخيال والصدق وأكرر الصدق في تراثنا الشعبي. وهناك جهات (سماسرة التراث) بدأت تحس من خلال تهريب ذاكرة البلاد، وتسييح الثقافة عبر المخطوطات والآثار، فتأخذ الشكل الفلكلوري، ليستهوي السياح، بل وتكذب عليهم بثقافة مزيفة من أن ذلك التقليد أو تلك القطعة لها آلاف السنين، وهي في الأصل قطعة عمرها لا يتعدي الأسبوع بين الفرن الحارق والرمال الحامية، وقليل من (الطنافس)، فسماسرة التراث مافيا لا تقل خطورة عن مافيات القتل في أي مكان. ولقد سخّر إعلامنا لهذا النوع من الثقافة الاستهلاكية السريعة التي تتفق مع سياسة التسطيح والربح السريع حتي لو قلعوا سماء البلاد، وقلبوا البحر ورشّوا بهارات الزمن ليصبح تحفة.. سماسرة التراث لا يبـــعون التاريخ فقط ولكن يبيعون الناس أيضا، يبيعون ذاكرة الإنسان، وجدانه وأحلامه بأبخس الأثمان، لقد رأيت بأم عيني أناســاً ينزعون القمريات الرخامية ويبيعونها بورقة خضراء، رأيت ذلك، وأحس بغصة أن تباع تحف نادرة، تباع أمام الملأ في سوق الملح (صنعاء القديمة) بثمن بخس، لقد نزعوا النوافد والأبواب القديمة والحلي، وحتي جدران المنازل، حتي الهواء لم يتركوا له حاله، إنهم الآن يعتلفون القات ليقرطسوا الهواء، ويقولوا عنه إنه هواء من عهد حضارة سبأ، وإن الملكة بلقيس لمسته واستنشقته وصنعت منه تاجاً عظيماً.. يحدث هذا في بلدي اليمن.

القدس العربي
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 19-أبريل-2024 الساعة: 04:42 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/31795.htm