الإثنين, 19-يونيو-2006
المؤتمرنت :هشام سعيد شمسان -
مقاربة الدلالة في قصيدة (على شفاه الوقت)
(1)
يمثل الشعر لدى فيلسوف مثل " هيدجر " : الإنسان ، واللغة ، والوجود ، والكينونة ، ومثل هذه المقولات لديه هي على سبيل الحقيقة غير القابلة للقياس البلاغي ، ولكننا – هنا - مضطرون لأن نتعامل مع هذه المقولات تعاملاً ينظر إليه على سبيل المجاز . باعتبار أن الشعر هو مزيج من العقل والعاطفة والذات ، وهو – أخيراً – خلاصة لتجربة(ما) ، يلتقي فيها ثنائي " الداخل ، والخارج " .
وفي التجارب الشعرية الحديثة كثيراً مانجد انفصالا بين التجربة ، والنص الداخلي – أو المكون الداخلي – وهذا عائد في أساسه إلى أن معظم ما يكتب لاقصدية من ورائه سوى نشدان الجمال الذي لايحقق مزية التاثير في المتلقي ، أو متعة التذوق التي نبحث عنها. ولكننا بالمقابل لانعدم الأمل بوجود شعراء يعيدون إلينا ابتسامة الشعر بعد شحوبه ، وشباب القصيدة بعد هرمها متجاوزين – بذلك - كل مقولات الحداثة الولائية " إلى حداثة تجمع بين حداثة الإبداع ، واصالته معاً ..
وأمامنا - هنا - يقف شاعر من أولئك القلة،وبكل ثقة يتقدم قائلاً: هاأنذا .
إنه الشاعر الوديع / " جميل المفرح " الذي يلج إلى القصيدة من بوابة الشعر (1)
(2)
تنتمي القصيدة التي اختارها الشاعر عنواناً لديوانه الأول – إلى التفعيلة العروضية. وتتألف من ستة مقاطع يربط مابين مقطع وآخر لازمة أساسية تتكرر في جميع المقاطع ، وفائدة هذه " اللازمة " التكرارية – التنبيهية – أنها الحبل الذي يصل بين المقطع ، وأخيه ليتواشج المعنى ، فلا تنقطع وحدة المعنى الكلي للنص ، والذي بدونها يفقد النص أهم العلامات الاستدلالية . وكان شاعرنا قد نشر هذا النص – سابقاً – على هيئة ترتيبية ( بصرية ) أخرى ، تعتمد على الشكل ( المتوازي ) ، والمسمى – خطأ – بـ(التدوير ) محاولاً – بذلك – مجاراة بعض النصوص التي تعتمد هذا التوزيع الشكلي ؛ إلا أنه عدل من وجهة نظره تلك ، وقد ضمها ديوانه الأول . منتقلاً بها إلى التوزيع الحر للتفعيلات ، والجمل ، والعبارات الشعرية ونؤكد – هنا – على أن القصيدة ظلت محتفظة بمائها ، ووضعها الجمالي السابق ، فلم يؤثر فيها التبدل التوزيعي؛ لأن التدوير ظل قائماً في النص - مع تفكيك التوازي - وكأن الشاعر إنما أراد أن يقول : ليس التدوير بالتوازي ، وحسب .
(3)
وباعتماد الشاعر على التفعيلة العروضية أساساً لجميع قصائده ، فإنما يثبت بذلك تفوقاً على كثير من أبناء جيله . أولئك الذين يتركون شعرهم عارياً من التأثير المطلوب (2)بسبب من اهمال التفعيلة عن جهل بها ، أو ضحالة في الثقافة الشعرية لـ" أن الوزن الشعري هو وسيلة – لاغابة – لبناء المعنى لإحداث التأثير العاطفي المطلوب أو المناسب " (3).
وإذا ماانتقلنا إلى البنى الداخلية للنص سنجد بان القصيدة في فكرتها العامة هي اقتراب من رثائية إشفاقيه . قطباها الشاعر والضمير (ك) – المخاطب الغائب . وما بينهما تقع العلامات الإشارية الشاهدة.:

" قطر سنينك
أيها الشاقي
كتقطير الثواني
في إناءات الزمان .
المستتب على مداك ..
أما تزال على شفاة الوقت
تحصى كم قضيت ،
وكم تبقى منك .. "
إن أول مايقابلنا هو الفعل " قطر " وهو " مورفيم " الامر الذي يدل لغة على الطلب ، والوجوب .. ولكن مبدأ الوجوب " ينتفي هنا تماماً؛ ذلك ان الموقف يقتضي المشاركة الوجدانية ، لا الطلب على حقيقته . ولذلك فهو أمر " مواساة " يدل به الشاعر على العدد الكبير من السنين . أما الفراغ الذي يحدث بين قطرة وأخرى فهو ليس سوى الأعمال ، والذكريات التي تصاحب الإنسان ، وتتخلل فراغات العمر . كما يحمل التقطير معنى " المائية " وليست سواه العمر الذي أشبه الماء نقاء . وكما أشبهه في لا إمكانية الإمساك به . واختار " الشاعر " علامة " الشاقي " ليشير بها إلى دال في الداخل ، ومدلول في الخارج ، وهو إنسان يتشامخ في العظمة كما الجبل ( الشاقي ) في ارتفاعه وطوله.
ولنتأمل في الجملة الاستفهامية" أما تزال على شفاه الوقت تحصي؟"(4) والتي أفادت معنى تحسريا واضحا وإشفاقا عجيبا من الشاعر على المخاطب الغائب يعكس حباً ممزوجاً بالعطف على المحبوب . ثم تجئ الأداة "كم " مفسرة وشارحة . وثمة فارق دلالي بين الاستفهام بالهمزة ، ثم الاستفهام بـ( كم ) وهو فارق بلاغي محض هنا . ولكن الجامع بينهما هو هذا التوجع الإشفاقي.
وإذا كان الشاعر قد استعمل " كم " في المقطع السابق للاستفهام المحض فإنه ، في المقطع الثاني ، يحاول أن ينقل نفس الأداة إلى حقل آخر في الدلالة ، وهو إفادة التكثير بإخباريتها :
" قطر سنينك
من هنا
تبت يدا التاريخ
كم أنساك نفسك
تحت قيظ الوعد " .
كما نلاحظ انه في قوله " أنساك " لم يحاول ان يسند الفعل " أنسى " إلى اليد ، بالرغم من أنها الدليل الأوحد على المشبه المحذوف – الأصل – وإنما أسنده إلى " التاريخ " لأنه المعني الأول بتغييب الأنا ، والدليل الأكبر الذي يقع تحت طائلة المساءلة ، أما اليد فهي أداة البطش وبه تتحرك ، لابها يتحرك ..
ومن الملامح اللغوية – التي ترتبط بالدلالة وثيقاً : أن الشاعر من خلاله نصه يتكئ على حرف " الكاف " أكثر من اتكائه على بقية الحروف ؛ مركزاً أكثر على ضمير المخاطب الغائب كما في نحو ( سنينك ، مداك ، منك ، عليك ، نومك ، عرتك ، انتمائك ، كيانك ، نفسك ، عمرك ، سماك ، فيك ، انتظارك …. الخ ) وفي هذا تأكيد على وان شخصية المخاطب الغائب كانت محوراً أصيلاً في ذات الشاعر ؛ تمحور حولها ، فأضحت لصيقة به ابتداء وانتهاء ..
حيث ظهر هذا الحرف موزعاً على خمس منازل :
الأولى : جزء من رابط حرفي أو اسمي نحو.. كم ،كل ..
الثانية : ضمير في أسماء نحو :" نومك / كيانك / نفسك …
الثالثة : ضمير في أفعال نحو :" عرتك / أنساك …
الرابعة : ضمير في رابط حرفي نحو : منك ، فيك ، عليك ،…
الخامسة : جزء من لفظ موحد نحو: كن ، الكيان ، تكون …
أما عدد ظهوره التقريبي فهو خمس وأربعون مرة. يلي ذلك حرفا الصفير " السين ، والشين ، واللذان ظهرا أربعا وثلاثين مرة على التقريب . وكان لتوالي هذين الحرفين في جميع المقاطع فائدتان :
الأولى : إحداث تلون إيقاعي يتوالى بين أجزاء النص الستة .
الثانية : إحداث صوت ما . إذا ماربط بنوع الشعور المثار في النص كان أشبه بصفير الرياح التي يصاحبها خريف الموت ، واستدعاءات المنية ..
وإذا ما انتقلنا إلى " اللازمة " التي تكررت ست مرات ، وحاولنا أن نقيم معها حوارا أو علاقة استدلالية؛بترتيبها وفق نظام معين سنجد الترتيب الآتي :
- قطر سنينك أيها الشاقي ..
- قطر سنينك .. من هنا .. تبت يد التاريخ "
- قطر سنينك ، طال نومك واقفا..
- قطر سنينك .. لاتخف …
- قطر سنينك .. لاتدم ...
- قطر سنينك .. هاهي الأجراس تنذر .. " .
ولنفترض – الآن – قراءة – معينة أرادها الشاعر ، وهو يحاول استنطاق المخاطب من خلال النظام الترتيبي السالف .
لنتأمل هذه القراءات التأويلية :
¨ إبتداء الشاعر ببيان صيرورة المخاطب التشامخية ؛ لكنه بالمقابل يؤكد على حالة من الإشفاق عليه ؛ لإصرار الغائب على رفض الحاضر ، وتجاوزه إلى الماضوية .
¨ بَعثُ حالة من التشارك السببي لمحاولة الوصول إلى فضاء من الوجدانية بتجسيد للتاريخ ، ثم توبيخه ، بجعله سبباً في انهزامية الذات المخاطبة .
¨ الوصول إلى تهدئة الذات الغائبة ، بإرشادية اللامباشرة من النصح للمحبوب .
¨ وأن ثمة (ما) يمكن الانتماء إليه لتحقيق جمالية العبور من الماضي إلى بعض حاضر " مازال في التاريخ " منه كثير احْتباء .
¨ تجريد الذات الغائبة من انهزامها الكلي ، والتأكيد على الحاضر، لاجئا – شاعرنا – إلى التحذير من إمكانية الفناء لحضور أصوات الأجراس التنبيهية . ولكن يحدث أن ينكسر الشاعر وتنتصر الأجراس ، ويضحك الفناء أخيراً (5).





الهوامش:

(*) صدر ديوانه الأول ،على شفاه الوقت. ، عام 2001م ،الهيئةالعامةللكتاب.
(1) في استفتاء أجرته مجلة افكار الأردنية في عددها (151) 2001م حول أهم الأسماء المبدعة في الوطن العربي في مجال الشعر ، والقصة ، والنقد ، جاء اسم شاعرنا ضمن قائمة الاستفتاء كأحد أهم الشعراء في اليمن . وبغض النظر عن الطريقة التي تم بها الاستفتاء ، أو المعايير التي ارتكز اليها ، يكفي أن شاعرنا كان واحداً من الأسماء المتذكرة ، لاسيما وهو ينشر في صحف ومجلات عربية عدة .
(2) استطيع أن اقول بأن جميل مفرح من الشعراء القلائل الذين يمتلكون جميع مفردات العمل الشعري : ومنها التفعيلة العروضية –أهم أدوات الشاعر المجيد- ؛ إذأن التخلي عن هذه التفعيلة في كثير من شعر الحداثة كان ناتجاً – للأسف – عن الثقافة البائسة للتراث العربي ، والانقطاع التام عنه . ولسنا هنا في معرض الرفض لتلك النصوص "المرسلة " التي كان العمود الشعري أو التفعيلة العروضية منطلقاً أولياً لأصحابها وإنما في منطقة الرفض لتلك التي تتجاوز تاريخها بالانقطاع عنه والدخول من بوابة " تي سي اليوت أو سوزان بارنار .
(3)(عز الدين منصور ، دراسات نقدية … ، مؤسسة المعارف ، بيروت ، ط1 ، 1985م
(4)(في النص المنشور في الصحف ( ألا) .
(5)هذه مقدمة ، متواضعة لدراسة قادمة متوسعة في شعر هذا الشاعر .

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 25-أبريل-2024 الساعة: 11:57 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/31895.htm