الأربعاء, 21-يونيو-2006
سوسن البرغوتي -
البرغوثي تكتب عن أفاق ما بعد الحداثة
منذ نشأة عصر النهضة الأوربية انفصلت الكنيسة عن الدولة وعن الحياة العصرية التي أدى التطور الصناعي والاجتماعي إلى الانعتاق من الروحانية المفرطة التي سادت في عصر الظلام إلى الإنتاجية المادية البحتة.
وانشغلت المجتمعات الغربية في تطوير الجانب المادي بعيداً عن الالتفات إلى صمام الآمان، والذي يعتبر عامل توازن بين معطيات وأدوات العصر وضرورة تعلمها واستخدامها، وبين الحاجة إلى الجانب الروحي.
فأصاب الكنيسة الاغتراب في عالم المال والصناعة وعالم أطماع النفوذ العسكرية والسياسية. ولهذا فالحداثة اعتمدت تأويلات ومناهج بحثية جديدة، استبعدت الأسس من منظور ديني، وابتدعت مفاهيم وأدلة مستحدثة تنسجم مع عصر المادة .
اكتفت الكنيسة كشعار رسمي أو تزيني يخلو من أي سلطة أو قدرة على توجيه العامة القائم على مبادىء أخلاقية، بل أصبح معيار التمدن للمجتمعات يُبنى على أساس التجرد والابتعاد عن الدين.

لم تدعو الكنيسة في الغرب إلى مقاطعة تفكيك رموز دافنشي، إنما استخدمت سلطتها الدينية المحدودة ومنعت دور السينما من عرض الفيلم، وبهذا قدمت خدمة مجانية بالدعاية المضادة للفيلم من جهة، ومن جهة أخرى لم تشأ تسليط الضوء إلى انعتاق الحداثيين من مغلوطات عقائدية مسيحية، خاصة أنه لم يتبّق من أثر التحكم سوى العنوان أو التسمية التي انتسب إليها العرق البشري أو العنصر القومي وحسب.
إن طرح الفكر الحداثي في الفيلم وعرض تخيلات أو اجتهادات أدبية تخرج على المألوف أو المتعارف عليه اجتماعيا وثقافيا، لم يتبنَّ اعتراضا أو هجوما، بقدر ما أريد منه تحويل الانتباه عن خلفيات الشواغر العقلية في الفكر الديني، تسبب فيه هذا الفراغ الدعوة الدائمة إلى المساءلة الفكرية والاعتقادية، فهو يشكل توجهات إعلامية بأداة فنية معاصرة، ترفض الخلاصة الفكرية التي بُني عليها الأساس الاعتقادي للدين المسيحي الأكثر انتشارا في الغرب، ولكنها لا تنكر الوقائع ولا المسميات، وإنما تجهد في العثور على تأويلات جديدة لها بغية حمايتها من تأثيرات تلك المساءلة، لا سيما مع التعميم والتأكيد المتواصل لثقافة العولمة الذي يفتح آفاقا جديدة للبحث والمعرفة وحرية التعبير. لذلك وإن كان الفيلم مناقضاً للأفكار المسيحية في صلب بنائها، إلا أنه لم يطرح الاعتقاد الخاطىء لتلك المسميات والوقائع.
الكنيسة لم تتجه إلى العنف بل إلى التوجيه نحو مظاهر احتفالية أخرى، على أساس تجاهلها ما عرض، وتكثيف حملتها بإتجاه آخر يختطف الأنظار، وهي الرسالة الأخرى الموجهة بوضوح. في حين لم يتم الاعتراض أو الهجوم على أفلام تم عرضها سابقا، تتناول حياة المسيح عليه السلام بشكل فاضح أكثر مما تناوله "دافنشي كود" أو فك رموز لوحة الرسام دافنشي.
الفيلم مركب بشكل يستحضر لقطات وأجزاء مبعثرة، لتجميعها وإشغال عقل المشاهد في قضية تعتبر مبدئية في الفكر المسيحي، قضية الحلول والاتحاد وتفسيراتها الجديدة، لكن الأمر حُسم في القرآن الكريم، أن لا إله إلا الله وأن المسيح عليه السلام هو نبيه المرسل لجماعة بني اسرائيل الضالين.
شطح بالروائي التخيل الأدبي إلى استبدال لوحة الرسام دافنشي بأخرى ليست الأصلية. فلوحة دافنشي تواجدت بها الكؤوس المسماة "مقدسة"، فأطلق رؤية أخرى مخالفة تماما للوحة من جهة، وفكك رموزا ابتدعها ووظّفها في حضور مريم المجدلية في العشاء الأخير، وهذا يُعتبر خرقاً واضحاً وتناقضاً مع مفهوم واعتقاد مسيحي بألوهية المسيح عليه السلام. وهنا يجدر أن يستقرأ المشاهد فكر الروائي، فإما أنه يبحث عن حقيقة لم ترد في الكتب، بأن المسيح اقترن بمريم المجدلية، وأنه بشر كباقي بني الإنسان، وإما أنه يبتدع فكرة لإثبات هذا وتوظيفه لما يريد قوله، وكلا التوجهين، يعتبر غير مناقض لحقيقة أن المسيح هو بشر، وُلد من رحم مريم العذراء. الرحم الذي اعتبره الروائي – في مغالطة جديدة وقع بها- يحمل دماء ألوهية، ورمز له بالكأس "المقدس"!.
إن تجسيد المفهوم المسيحي لعقيدة الثالوث المقدس بطريقة جديدة هو الأمر الجلي في عرض فكر الروائي، وهذا ما أظهره في لقطة أخيرة بالفيلم، عند إشارته إلى وجود كائن مقدس تحت السماء والنجوم تمثله الوردة أو النجمة الخماسية، التي تمثل المرأة والرجل معا امتدادا لدم منحمها الله إياه.
غير أن الفيلم أقر بأن الله هو الخالق الواحد للبشر، وهذا المنطق لا يتعارض مع الإيمان في أي عصر، إلا أنه يدخل في إشكاليات أخرى لا تتفق مع العقائد الإيمانية التي تتبرأ من عقائد توحد وحلول الذات الآلهية بذات مخلوقة. الأمر الذي يتعارض كذلك مع الأحكام العقلية السليمة، فيقوم الروائي بالحديث عن دم مقدس يجري في عروق الإنسان، وأنه مزيج بين الهالة النورانية وبين الحياة الترابية الدونية. فالحبل السري كما يصوره استمرارية لعلاقة الحلول، وأن اكتشاف الإيمان في الأعماق يكون من خلال تلك النفحة الروحانية وارتباط "الرجل والمرأة" بعلاقة حسية جسدية وعلاقتهما بالله في مجتمع يؤمن بالتوحد المطلق كما يشير إليه الروائي، وهذا بيت قصيد رئيس حسب قراءتي للفيلم.
لكن الميثلوجيا اليهودية، تبدو متجذرة بفكر الروائي، وأن العلاقة الجسدية بين المسيح ومريم المجدلية، مبرر دافعه تجسيد توبة الخطاءيين باقترانها بالمسيح عليه السلام، وتأكيد علاقة الثالوث المقدس في إطار جنسي وحسي.
وهذا ما يشغل هواجس اليهودية التي حرصت على الدعاية دائما لما تعرضه التوارة المحرّفة من قصص الأنبياء، فنراهم يقدّمون أنبياء بني اسرائيل بشكل ماجن أو متعطش لدماء الغير. وما جلد الذات على حائط مباكهم، إلا طقساً من طقوس الاعتراف بخطايا مخفية ينسبونها لأسلافهم، فهي عندهم توبة الخلف عن ما اقترف الأجداد.
والجنس دائما وأبداً دليلهم وملجأهم في تفكيك وتبرير غموض السلوك البشري لديهم، ونسوا أن الأنبياء عصمهم الله عن الخطيئة.

جنح الروائي مرات عدة في عرض فكره إلى آفاق جديدة ما بعد الحداثة، فعرض تعذيب الجسد لتطهير الروح، أسوة بعذاب المسيح، لكنها جاءت باهتة وغير منطقية. فالمسيح لم يكن سادياً، والإيذاء الجسدي مارسه اليهود للتنكيل به وبأتباعه، واعتبروه خارجاً عن عُرف الضلال والاضطهاد للشعب. بل وتحالف أحبارهم مع الحاكم البيزنطي ضد الشعب بتحصيل الجباية وإرهاقه بالضرائب، مقابل التغاضي عن تعذيب اليهود للمسيح والقضاء على تعاليم المحبة والسلام.
كنهاية للقراءة، يبقى الاختلاف في تفكيك رموز الفيلم متروكاً للمشاهد ووعيه وقدرته في البحث عن ماهية الإيمان الحقيقي، والولوج بعصر التنوير بأسس وأخلاقيات لا تهدم العلاقة البشرية مع الخالق، إنما تبني الحكم الصحيح الموافق للعقول المفكرة السليمة.
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 28-مارس-2024 الساعة: 08:15 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/31959.htm