المؤتمر نت - .

الجمعة, 30-يونيو-2006
دمشق: سعاد جروس -
سورية تودع التقشف وتبدأ عصر الاستهلاك
المدهش، منظر الشباب والصبايا يتمشون في ساعة متأخرة، بعد الحادية عشرة مساء من ليالي الصيف الجميلة في شارع عريض، نهض حديثاً بمحلات واسعة اصطفت على الجانبين، واكتظت بكميات هائلة من البضائع الشبابية كالاكسسوارات، والعطور، والملابس والاحذية، والنظارات، والحقائب، والاغاني. نحن في شارع «الحضارة» الذي شق في احد الأحياء الشعبية على طرف مدينة حمص، واستقطب الشبان من الجنسين، منافساً شارع «الدبلان» الذائع الصيت، ليس كسوق تجاري فقط، وإنما كملتقى لتمضية بعض الوقت ورؤية الأحباب من بعيد لبعيد، أو المشي معاً اليد باليد.
في شارع «الحضارة» تتعرف على وجه في طور التكون للمجتمع السوري، مع بدء تحول «التسوق» الى «سلوك ترفيهي» يعادل التنزه في الحدائق والمقاصف للترويح عن النفس. وإذا كانت الأسواق الشهيرة غير عادلة في منح متعة الشراء للجميع من دون تمييز بسبب أسعارها، فإن سوق شارع الحضارة وغيره من الأسواق الكثيرة التي نشأت على أطراف المدن السورية، راحت تعمم ثقافة رفاهية التسوق، وتوفير البضائع الرخيصة الثمن. لذلك لن نعجب كثيراً إذا صادفنا متجر ألبسة اختار اسماً له «أخو البلاش» يزين اليافطة بالخط العريض. هنا ستعثر على «تي شرت» قطن ذي جودة عالية بسعر 100 ليرة سورية (دولارين) فقط. السر أن هذه البضائع تعاني من عيوب طفيفة لا تلحظها العين، إلا ان المحلات المجاورة والتي ترفع شعار «أي غرض بعشر ليرات» أو «أي حذاء بـ 150 ليرة» ليست مثلها، هذه الأشياء لا تعاني من عيوب غير ظاهرة، وإنما ذات جودة متدنية، صالحة للاستهلاك السريع، ولديها مشترون.

المفاهيم الشرائية تغيرت كثيرا، وهذا ما تعكسه بوضوح التحولات في حركة الأسواق السورية، وإذا نظرنا الى دمشق، سنجد أنه مقابل ظهور عشرات الأسواق الشعبية الطارئة التي انتشرت على هامش الأسواق الرئيسة وجاوز عددها ثلاثين سوقاً، ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة ثلاثة مجمعات تجارية ضخمة تُعنى بمتطلبات الاغنياء، وبدأت تغير عادات وتقاليد التسوق السورية العريقة، لتواكب توقيع الحكومة على اتفاقية التجارة العربية الحرة التي اتاحت تدفق كميات هائلة من الماركات العالمية ذات المنشأ العربي، لتغرق الأسواق المحلية بأسعار منافسة.

بداية تجربة المجمعات الضخمة، كانت مع مجمع «سيتي مول» عام 2000، ولا يزال الدمشقيون يتذكرون الحملة الإعلانية التي سبقت افتتاحه، وعنها يتحدث بسام عبد، 40 عاما، قائلا: بدا الأمر غاية في التشويق، كنا خارجين لتونا من عقد التسعينات مثقلين بأعباء ركود اقتصادي سقيم، وكانت وعود الإصلاح ومكافحة الفساد في أول تفتحها حين انتشرت إعلانات حمراء في شوارع دمشق مكتوب فيها (صار عنا). بعد فترة اكتشفنا أن الذي صار لدينا في سورية هو «سيتي مول» عبارة عن مجمع تجاري يعتبر بالمقاييس العربية مجمعا خجولا جداً، بل أن البضائع التي كانت فيه هي ذاتها الموجودة في الأسواق الأخرى، ولا تتميز بشيء إلا بأناقة العرض. ويتابع بسام: كان ذلك مثيراً للرثاء والأسف، فالإعلان استغل تعطشنا للتغيير ومن ثم أحبطنا لنتبين أن الطريق ما زال في بدايته. لكن ذلك كان مؤشراً غير مباشر على ما سيواجهه السوريون في السنوات اللاحقة. بعد أربع سنوات في عام 2004، سيلفت الأنظار هذه المرة إعلانات أكثر واقعية تطرح شعار «مفهوم آخر للتسوق» مع مجمع «تاون سنتر» الذي سيشغل مساحة 7000 متر موزعة على ثلاث طبقات، يقع عند أول أتوستراد درعا، طريق المسافرين براً الى الأردن ودول الخليج. يحتوي الطابق الأرضي على اكبر سوبر ماركت في سورية، تتكدس فيها البضائع المحلية والمستوردة من الدول العربية كالسعودية والإمارات ومصر. بالإضافة إلى فروع شركات سورية جلها حاصل على وكالات عالمية. وقد اعتمد السوق الطريقة الغربية في عرض البضائع، وتبنى سياسة أسعار البيع المحدودة غير القابلة للجدل والمفاصلة (المساومة، العادة الدمشقية الأثيرة في الأسواق التقليدية). على أن الأمر الذي فوجئت به «الشرق الأوسط» حين حاولت الاتصال هاتفياً مع الحاج محمد كريم صاحب (تاون سنتر)، ذلك الرد من الطرف الآخر. إذ بدا تاجرنا الدمشقي وكأنه خارج للتو من السوق العتيق. قال بلهجة تجارية قاطعة بعد ان عرف أن المتصل به صحافية: «ليس لي أي مصلحة في ذلك». وعندما حاولنا إفهامه بأننا نريد معرفة بعض المعلومات عن نشاط السوق، ودلالة ما يقومون به من توسع، يضاعف مساحة السوق بعد أقل من عامين على افتتاحه. أجاب منهياً المكالمة مكرراً بسرعة: ليس لي مصلحة في ذلك.

زائر تلك السوق الواقعة خارج مدينة دمشق ليلة الخميس ويوم الجمعة، لن يجد مكاناً في مرآب السيارات الفارهة السورية والعربية، المصطفة هناك حتى ساعة متأخرة من الليل، بزيادة ما يقارب خمس ساعات على موعد إغلاق الأسواق المحدد بالثامنة مساء في الشتاء والعاشرة في الصيف، بل إن الحركة في المجمع، تبدأ بالنشاط في التاسعة مساء مع موعد نشاط المطاعم والمقاهي. في هذه الملاحظة، يتمثل المفهوم الجديد للتسوق، بتحول عملية الشراء من ابتياع الحاجيات الى مناسبة للتنزه مع العائلة. إلا أن الكثير من الرواد هم من السوريين العاملين في الدول الخليجية والذين يقضون عطلة الصيف بين أهليهم في سورية، ويغلب على مرتاديه الطابع المحافظ، والغالبية الساحقة من الزوار من عائلات ترتدي نساؤها الحجاب، وتبدو عليهم ملامح الوفرة والثراء، ولدى الكثير من هذه العائلات خادمات إندونيسيات (يرتدين الحجاب أيضاً). والملاحظ أيضاً أن أسعار المواد المعروضة للبيع، خصوصاً الاستهلاكية والغذائية، تكاد تعادل نظيرتها في محلات البقالة المنتشرة في أحياء دمشق.

السيدة هالة، 33 عاما، اصطحبت طفلتها وعمرها ثلاث سنوات إلى تاون سنتر بغرض الاطلاع، قالت ان الأسعار هنا مرتفعة ولا تعادل سعر السوق، قياساً الى الأسعار في حي القصاع الذي تسكنه، أضف على ذلك أنه لا يمكن المفاصلة بحجة أن البائعين موظفون والسعر محسوم. في حين أنها في الأسواق القريبة مثل باب توما وحتى الصالحية تحصل على السلع نفسها بأسعار مرضية، إلا أنها المرة الأولى التي تقصد فيها هذا السوق، ولا تعتقد أنها ستأتي كثيراً الى هنا إلا للتسلية وليس لابتياع حاجياتها. ولا شك بأن افتتاح مجمعات تجارية كهذه ذو دلالات سياسية واجتماعية، وينم عن تغيير كبير في سياسة الحكومة الاقتصادية، التي انتقلت من الاشتراكية المتزمتة إلى الانفتاح على الطراز الرأسمالي في الاستهلاك. ويعبر ارتياد المواطنين هذه المجمعات عن تغير في عادات الاستهلاك لدى المواطن السوري، الذي عُرف بالتقشف المضني خلال عقود ماضية من الشح الاشتراكي.

وما يلمس بوضوح، يؤكده افتتاح مجمع تجاري آخر صيف 2005 باسم «أسواق الخير ميترو» ليكون المجمع التجاري الحديث الثاني الآخذ شكل مدينة تسوق وترفيه تنبسط أفقياً على مساحة 5000 متر مربع، في الزبلطاني جنوب دمشق إلى جوار المنطقة الصناعية حيث ترتفع نسبة التلوث والسكن العشوائي. لكن الذاهب إلى مدينة الترفيه، لن يتخيل أن الطرق المشغولة بالشاحنات والهواء الملوث ستؤدي به إلى مكان يشبه الواحة بنظافته وتنظيمه وجمال تصميمه، مستلهماً طريقة الأسواق التقليدية، بتقسيمه إلى حارات، سُميت بأسماء الورود الدمشقية: حارة الريحان والياسمين والجوري والنرجس. وكأنك تعبر إلى مكان آخر لا علاقة له بمحيطه. هنا يختلف مشهد المتسوقين، كذلك المطاعم التي يفوق عددها مطاعم التاون سنتر، وهي أقرب إلى الاستراحة مع توفير حيز كبير فيها لألعاب الأطفال. وفي «أسواق الخير» نحن أمام سلسلة من أربعة مطاعم كبيرة، وثمانية مطاعم وجبات سريعة، تقع عند مدخل السوق المؤلف من 200 متجر بواجهات عريضة، كما تحتوي على مكتبة ضخمة تفتقدها المجمعات الأخرى، وشارع رئيسي يسمح للمتسوقين عبور السوق بسياراتهم وإلقاء نظرة على الفاترينات بسهولة. أما سبب اختيار تلك المنطقة من ريف دمشق، فذلك أولا لعدم توفر مثل هذه المساحة داخل المدينة، وثانياً لقرب هذه المنطقة من مركز المدينة، وثالثاً وهو الأهم أن وجود هذا السوق في منطقة ملوثة من شأنه، أن يسهم في تنظيفها ويسارع بقلب وجهها تماماً، ويكفي أن نعلم أن أسعار العقارات في المنطقة ارتفعت خمسة أضعاف بعد افتتاح السوق، فقد كان سعر متر البناء على الهيكل يتراوح بين 7000و8000 ألف ليرة، فارتفع ليتجاوز الثلاثين ألفاً.

في أسواق الخير، لن يكون المشهد متشابهاً كثيراً مع تاون سنتر. والفارق هنا أننا نرى أفواجاً من السياح الإيرانيين، وعائلات سورية من الطبقة الوسطى وأدنى قليلاً، لكننا مع هذا بالكاد سنعثر في كلا المجمعين على شباب وصبايا كهؤلاء الذين يتمشون في شارع الحضارة الحمصي، أو في شوارع دمشق الصالحية والحمرا والقصاع. قد نعثر عليهم في مقاهي الـ «ستي مول» كونه يقع في حي المزة داخل المدينة، حيث يأخذ شكلاً حداثياً وطبيعة شبابية لا نجدها في المجمعات الأخرى ذات الأجواء العائلية بامتياز.

كثير من العائلات تفضل إنهاء نزهة يوم الجمعة (السيران) في تلك المجمعات، وهو ما يفسر ازدحامها مساء يوم الجمعة، من دون تجاهل عامل آخر مهم جداً في تزايد زبائنها، ويُعزى إلى الأزمة الطارئة على العلاقات السورية ـ اللبنانية منذ أكثر من عام. وإذا كان عدد المتسوقين اللبنانيين قد تراجع كثيراً، فإن أعداد السوريين ممن كانوا يقصدون شتورا وزحلة وبيروت أسبوعياً، قد تحولوا إلى الأسواق السورية. زينة، 45 عام، سيدة سورية مقيمة في عمان زارت تاون سنتر خلال إجازتها الصيفية العام الماضي، ولم تصدق أن هذا المجمع موجود في دمشق، ويحوي تشكيلة مذهلة من الصناعات المحلية والمستوردة. لقد وفر عليها ذلك مبالغ كبيرة من المال، إذ كانت تقصد السوق الحرة عند الحدود الأردنية ـ السورية لشراء الهدايا وبعض السلع الأجنبية، لتحملها الى الأهل في دمشق، وتقصد الحميدية لتحمل الهدايا إلى عائلة زوجها والأصدقاء في عمان. وخلال السنوات الخمس الأخيرة، تغيرت أشياء كثيرة، تقول زينة: الآن أهلي في دمشق يقولون لا داعي لأن تحملي معك أي شيء من السوق الحرة، كل شيء متوفر هنا وبكثرة.

لن يتخيل من اكتوى بحرمانات الأزمة الاقتصادية في الثمانينات وسياسة الاكتفاء الذاتي والتقشف التي فرضتها الحكومة آنذاك، أن يوماً سيأتي تصبح فيه أيام القحط مجرد حكايات تروى للأبناء، كما تفعل اليوم السيدة زينة وغيرها ممن يتحدثون بمرارة عن طوابير الناس أمام المؤسسات الاستهلاكية للحصول على علبة سمنة، أو كيلو سكر من مواد التموين الأساسية. أما المناديل الورقية التي تغرق معاملها اليوم سورية، فكانت من جملة الأشياء النادرة المهربة من لبنان كالمعلبات والموز، يُحتفظ بها في الخزائن ويقفل عليها بالمفتاح، للحد من استهلاكها، ولا تبذل إلا من اجل الطفل المدلل والضيف العزيز. ويتذكر مفيد حسن، 52 عاما، تلك الأيام جيداً وكيف كان موظفو المؤسسات الاستهلاكية يبتكرون طرقاً لصف الطوابير ولمنع التدافع والاشتباك بالأيدي. كما لا ينسى السوريون حين سمح باستيراد الموز بداية التسعينات وانخفض سعر الكيلو من 150 ليرة إلى 50 وما دون، وصار الباعة الجوالون في دمشق ينادون عليه «معتر يا موز كنت معلق بالعلالي صرت مشطح بالأراضي».

الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سكر، مدير المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار، يعيد سبب فشل السياسات الاقتصادية السابقة الى إغفال اقتصاد السوق ووضع العدالة الاجتماعية أولاً، على حساب التوزيع الكفؤ للموارد، وبذلك لم تستطع السياسات تحقيق الفائض الاقتصادي اللازم لإعادة الاستثمار، فكان النمو الاقتصادي ضعيفاً، كما أن هذه السياسات لم تنجح في مسعاها لتحقيق العدالة الاجتماعية. ويضيف في حديث له مع «الشرق الأوسط» ان «العدالة الاجتماعية لا تتحقق من خلال ملكية الدولة لعوامل الإنتاج والتوظيف الاجتماعي، بل من خلال السعي للكفاءة الاقتصادية والتوزيع الأفضل للموارد ومشاركة كافة فئات الشعب في عملية التنمية وذلك لرفع معدلات النمو، ثم توزيع هذا النمو توزيعاً عادلاً. وهنا يكمن دور الدولة بتدخلها من أجل كبح جموحات اقتصاد السوق وتعزيز المنافسة والإنفاق الكبير على التعليم والصحة وشبكات الحماية الاجتماعية» وبالإضافة إلى المجمعات التجارية الضخمة التي راحت تظهر تباعاً، يقال إن هناك مشروعاً ضخماً جداً لبناء مركز تسوق «سيتي سنتر» في دوار كفر سوسه بالقرب من مركز المدينة، ليكتمل ارتسام الوجه الاقتصادي للانفتاح على السوق العالمي بعد أربعة عقود من الانغلاق وسياسة الاكتفاء الذاتي المتمثل بانتشار المؤسسات العامة الاستهلاكية في كافة أنحاء البلاد، حين كانت الدولة هي المصّنع والتاجر، ولا تزال أبنية تلك المؤسسات شاهداً حياً على احتضارها، من مجمع العباسيين والأمويين وحتى صالة 8 آذار في دمشق وغيرها الكثير من كبرى الصالات في دمشق والمدن الأخرى. ويقول السيد مفيد بهذا الخصوص، إن الناس كانت تتحدث عن افتتاح مجمعي العباسيين والأمويين بما يشبه الأساطير، عن ضخامتهما وما يحتويانه من تشكيلة بضائع متنوعة، فإلى جانب الصناعات المحلية كان يباع فيهما مصادرات الجمارك من السلع الأجنبية المهربة، كما أن مجمع العباسيين كان أول درج كهربائي في دمشق. إلا أن السيد مفيد يضحك، ويقول هذا الدرج معطل منذ تلك الأيام ولغاية اليوم. في سوق الصالحية. القرار بتبني اقتصاد سوق اجتماعي هو خلط بين النموذج الصيني، مع شيء من التجربة الماليزية، أسهم بتقليص، بل \ألغى قائمة المحظورات الاقتصادية، وقد بدأت الخطوات تتتالى تباعاً، وإن بتعثر، بعد تأخر طال، وتسارعت في السنتين الأخيرتين مع اشتداد الحصار على سورية، وفرض العقوبات الأميركية في محاولة لعزلها بعد الحرب الأميركية على العراق، وتداعيات اغتيال الحريرى. وقد حاولت سورية كل جهدها التغلب على هذا عبر شد خصر الاقتصاد بحزام من الاستثمارات وفي مقدمتها العربية، فمنحت تسهيلات كثيرة لرجال الأعمال والشركات من السعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين، للقيام بمجموعة كبيرة من المشاريع السياحية والمجمعات التجارية في أنحاء مختلفة من البلاد. وعلى الرغم مما يحمله ذلك من مؤشرات ايجابية لصالح تحسين الدخل والحد من البطالة عبر توفير فرص العمل، إلا أن مخاوف كثيرة تنتاب السوريين من اضمحلال الطبقة الوسطى لصالح اتساع الطبقة الفقيرة، وزيادة ثراء الطبقة الغنية. وجراء تنامي الاستثمار في القطاع الخدمي على حساب القطاع الانتاجي. السيدة رحاب ناصر، صاحبة شركة «بروفنشال تورز» السياحية، عبرت عن مخاوفها قائلة: أمام المواطن السوري فترة عامين فقط، فإما أن يسعى لتحسين دخله ويلتحق بالطبقة الثرية، أو يبقى محافظاً على وضعه بصعوبة، إن لم ينضم لطبقة الفقراء، التي نراها تزداد يوماً بعد يوم، جراء تخلي الدولة عن رعايتها. وتؤكد السيدة رحاب أن «أشياء كثيرة ستتغير، وإذا لم نواكب هذا التغيير ونفهمه، سنجد أنفسنا ندفع ثمنه باهظاً». ولذا يحذر الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سكر من التحالفات التي قد تنشأ عند الانتقال من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق، ويقصد التحالفات التي تحدث بين أهل السلطة وأهل الثروة لتحقيق مصالح خاصة، وهذا حدث بدرجات متفاوتة في جميع الدول التي قامت بهذا الانتقال، إذ لا بد من السعي لمنع تكرار تلك التجارب، عبر وضع تشريعات تمنع تحالفات الفساد، وتعزز استقلالية القضاء وكفاءته، وتوسع دور المجتمع المدني في كشف هذه التحالفات، وكذلك عبر بناء ضوابط لمنع الاحتكار.

* مهندس الإصلاحات.. المتعب > لم يتجاوز الثانية والأربعين من العمر إلا أن وجهه خسر كثيراً من بريقه المعروف، وبدت خطواته أثقل بكثير مما كان عليه العام الماضي قبل أن يتسلم منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ففي حفل التكريم الذي تم على هامش ملتقى الاستثمار السوري الإماراتي الذي انعقد مؤخراً في دمشق، بدا الدكتور عبد الله الدردري وهو يتقدم نحو المنصة بهدوء أكبر سناً من المستشار الألماني غيرهارد شرودر الذي جاء راكضاً وصعد الى المنصة قفزاً وهكذا حين نزل من عليها. فإذا كان شرودر يمثل بشكل ما الاقتصاد الألماني القوي والمتجدد شباباً، فلا شك أن الدردري يمثل أيضاً الاقتصاد السوري الجديد لكن المنهك.

لفت الدردري الأنظار منذ تسلمه أواخر عام 2003 منصب رئيس هيئة تخطيط الدولة، قادماً من موقع مساعد الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية، وكان من ضمن فريق المطالبين بضرورة التخلي عن سياسة الاقتصاد الموجه، واعتماد نظام اقتصاد السوق، وبحكم عمله السابق في الصحافة أجاد الترويج لأفكاره، وباتت تصريحاته وصوره في الصحف ضمن الأخبار اليومية التي أثارت حفيظة الكثيرين، كونه الدمشقي المستقل الحائز ماجستير في العلاقات الدولية والذي يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية، بكل ما تحمله هذه الكفاءات من تميز في بلد تعود أن يتسلم المناصب فيه اعضاء حزب البعث وحاملو شهادات الدكتوراه الفخرية من دول أوروبا الشرقية أو الاتحاد السوفياتي سابقاً.

وكفاءة الدردري ظهرت جلياً في قدرته على لفت الانتباه الى هيئة تخطيط الدولة، من خلال المؤتمرات الصحافية ولقاءات بين حين وآخر يعلن فيها عن دراسات ونتائج أبحاث قامت بها الهيئة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بهدف وضع خطط تنموية مبنية على أرقام وحقائق على الأرض عن معدلات البطالة وخارطة الفقر، وذلك عبر خطاب علمي عصري خال من الصيغ الخطابية البائدة وشعارات الصمود والتصدي، ما أعطى للهيئة برئاسة الدردري دوراً في صناعة القرار الاقتصادي، وبات يطلق عليه «قائد الانقلاب الاقتصادي»، الذي مهد له فريق من الخبراء الاقتصاديين منذ التسعينيات من خلال أبحاثهم ودراساتهم، التي خرجت الى حيز النقاش العام منذ تسلم الرئيس بشار الاسد السلطة وإطلاقه مشروع التطوير والتحديث، إلا أن بعد هؤلاء الخبراء عن المناصب جعل دورهم تنظيرياً، فيما أوكل للدردري القيام بأداء الدور العملي التنفيذي، في مرحلة هي الأصعب من حياة الاقتصاد السوري، بعد ركود أربعة عقود، كان أشدها سوءاً العقد الأخير. لكن مهمته ليست سهلة فهناك معركة شرسة يتعين على كل من يتصدى لعملية الإصلاح في سورية أن يخوضها بضراوة، على عدة جبهات أهمها البيروقراطية والفساد المستعصي، بالإضافة الى التحالفات الخفية لرؤوس المال وأصحاب النفوذ، وبعد أشهر قليلة من استلام مهامه الجديدة كنائب لرئيس الحكومة لشؤون الاقتصاد تعرض الدردري لأزمة صحية أدخلته المستشفى، خرج منها وكأن زاد عمره عشر سنوات، ومع ذلك يمكن القول إنه الأكثر صموداً وإصرارا على المضي في تنفيذ برنامجه، بين جميع الذين تسلموا مناصب مهمة والتهمتهم محرقة الإصلاح قبل أن تؤتي جهودهم ثمارها.


الشرق الاوسط
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 25-أبريل-2024 الساعة: 02:09 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/32335.htm