السبت, 14-أبريل-2007
حلمي سالم -
برلمان البحرين يحاكم قيس ابن الملوح وعملاءه المعاصرين
كأن القلب ليلة قيل يُـغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرّها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
من هذه الكلمات الملتاعة - ومثيلاتها - التي أطلقها المحب المتوله قيس بن الملوح في صحراء الجزيرة العربية منذ عدة قرون، نسج الشاعر المعاصر (البحريني قاسم حداد) خيوط ديوانه ‘’مجنون ليلى’’، نسج المغني المعاصر (اللبناني مارسيل خليفة) خيوط عرضه الغنائي الشعري الموسيقي الحركي. كأن المحبين المعاصرين يقدمان تجادلهما الراهن وقراءتهما الحالـّة وتأويلهما الحديث للمحب العربي القديم. لكن هذا الفعل الجميل المتفاعل مع ثقافتنا العربية - في وجه من وجوهها الأصيلة المبهجة - كان كافياً لأن تقوم قيامة ملاك القيامة والنشور والبعث.
كان الفنان والشاعر (مارسيل وحداد) قد شاركا ضمن احتفالات (ربيع الثقافة) في البحرين بعرض غنائي شعري، أعده ولحنه وغناه مارسيل حليفة من شعر حداد البحريني، في ديوانه (مجنون ليلى). ومعروف أن استحياء قصة قيس وليلى في أدبنا العربي المعاصر مسبوقة بمحاولات كثيرة، من أشهرها محاولات أحمد شوقي، صلاح عبدالصبور، والطيب الصديقي وغيرهم. محاولة مارسيل وحداد إذن ليست بدعةً، حتى تكون كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، كما يرى محتكرو الثواب والعقاب.
هذه،إذن، ‘’جرسة’’ ثقافية فكرية أخرى من ‘’جرس’’ (جمع جرسة) حياتنا العربية. وهي ‘’محاولة مقصودة ومنظمة لإرهاب جميع أشكال الفكر والثقافة والإبداع’’ كما قال بيان مارسيل وحداد في الرد على هذه الريح السوداء. (جئنا لنعلن الحب).
والشاهد أن هذه الريح السوداء الأخيرة تثير في ذهن المواطن العربي أربع أفكار رئيسة:
الأولى: أن هذه الريح السوداء قديمة وليست حادثةً بتعبيرات التراثيين. فهي حلقة في سلسلة سابقة طويلة طويلة. لن نلتمس بداية هذه السلسة من عند قطع لسان الحطيئة، ولا من قتل الحلاج والسهروردي، ولا من نفي الطهطاوي والأفغاني والنديم. ولن نلتمسها حتى من مصادرة علي عبدالرازق وطه حسين أو اغتيال حسين مروة وفرج فودة وطرد نصر حامد أبوزيد وجزّ عنق نجيب محفوظ. بل سنلمسها - فقط - في السنوات السبع الماضية مع بدابة القرن الحادي والعشرين، حيث نجد سلسالاً متصلاً:
مصادرة ‘’وليمة لأعشاب البحر’’، الحكم بسجن ليلى العثمان وعالية شعيب، منع كتاب (النبي) لجبران و(الخبز الحافي لمحمد شكري)، (محمد) لمكسيم رودنسون من الجامعة الأميركية بمصر، محاكمة الشاعر الأردني موسى حوامدة (فأعطاه الغرب جائزة باسم الحرية)، تحطيم تماثيل بوذا في افغانستان، الهجوم على عبدالعزيز المقالح وعلي المقري في اليمن، هجمة ‘’الحجاب’’ على وزير الثقافة بمصر، تحطيم تماثيل متحف حسن حشمت في الزيتون.
إنها حلقات منتظمة في سلسلة منتظمة منذ بدء التاريخ العربي، وقبله. ذكرنا منها القليل وتركنا الكثير. والمقصود أن ‘’الفعل الظلامي’’ ثابت وقديم، بل إن رقعته تزداد وخفافيشه توسع فضاء الطيران.
الثانية: هي المفارقة المعيبة التي يتخبط فيها مجتمعنا العربي، والتي تكمن في أن البرلمانات العربية صارت في السنوات الأخيرة تمارس مهمة هي نقيض مهمتها الأصيلة. إن مهمة البرلمانات في كل بلاد الدنيا هي الدفاع عن الحرية والديمقراطية والتعدد والتنوع، فضلاً عن تجسيد تلك القيم كلها، إلا في برلماناتنا العربية، التي انقلبت على نفسها ودروها وطبيعتها، لتغدو منابر للقمع والكبح والقهر والاستبداد:
خذ عندك: دعوة البرلمان المصري في السبعينات إلى حرق (الفتوحات المكية) لشيخ التصوف الإسلامي الأكبر محي الدين بن عربي، وحرق (ألف ليلة وليلة). واعتراض البرلمان الكويتي على قرار الأمير نفسه بمنح المرأة حقوقها السياسية. وعاصفة البرلمان المصري على ‘’وليمة لأعشاب البحر’’، تلك العاصفة التي شارفت إشعال فتنة داخلية، بعد تحريض من رئيس اللجنة الدينية بالبرلمان (أحمد عمر هاشم) لشباب الأزهر على التظاهر في الشوارع. ثم هجمة البرلمان المصري على وزير الثقافة نفسه، بعد تحالف التيارات الدينية مع الحزب الوطني ضد الوزير (الذي هو حزب وطني كذلك).
والحق أن وقوف البرلمان العربي عكس مهمته الأصيلة ليس جديداً تماماً على البرلمانات العربية، فقد تكرر ذلك مرات كثيرة في تاريخنا الحديث، أشهرها وقوف سعد زغلول (قائد ثورة 1919 وزعيم الليبرالية ورئيس البرلمان المصري وقتها) ضد طه حسين في أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي) في أواخر عشرينات القرن الفائت. وهاهي هجمة البرلمان البحريني على الشعر والغناء. فهم، إذن، خير خلف لخير سلف.
والبرلمان العربي بذلك يقدم أعجوبة مرموقة من أعاجيب الدهر: إذ ينتقل البرلمان نقلة كيفية مذهلة، فبدلاً من مراقبة الحكومة ومحاسبتها، يراقب الشعب ويحاسبه، وبدلاً من مواجهة الاستبداد ومحاكمته، يواجه الحرية ويحاكمها.
الثالثة: أن هذه المقاصل المقامة والسيوف المشرعة باسم الدين - والدين منها براء - هي التي تسيء - في حقيقة الحال - إلى الدين وتزري به وتهينه، من أكثر من زاوية:
أ - إن الهلع والارتعاب من أن يضار الدين أو ينهار من قصيدة أو مسرحية أو رقصة أو رواية، يعني أن أصحاب هذا الهلع المرتعب يرون أن الدين هشّ خفيف هزيل يمكن أن يطيح به عمل فنيّ.
ب- إنهم، بهذه السيوف المشهرة والتكفيرات السابقة التجهيز، يحجبون الوجه السمح العادل المستنير للإسلام، ذلك الوجه الذي يؤكد ‘’ذكّر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر’’، والذي يؤكد ‘’لكم دينكم ولي دين’’، والذي يؤكد ‘’وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا’’، والذي يؤكد أن ‘’اختلافهم رحمة’’، والذي جعل اليهود والمسيحيين يشاركون بقسط بارز في بناء الحضارة الإسلامية الزاهرة (أيام كانت زاهرة).
وهم بحجب هذا الوجه السمح المتقبل للآخر، إنما يقدمون صورة شائهة متجهمة قاسية للإسلام، تؤدي إلى النفور لا القبول، والابتعاد لا الاقتراب.
ج- إنهم، بالسيوف المشهرة والتكفيرات الجاهزة وبحجب الوجه السمح وتصدير الصورة القاسية، إنما يصنعون التصور المريع الخاطئ عن الإسلام لدى المواطن الغربي وأصحاب الديانات الأخرى. لماذا - إذن - يبحثون عن أسباب هذا التصور المريع الخاطئ عند العالم الخارجي، وهم صانعوه الاساسيون؟
د- إن الدين الذي ينتظر كل مخطئ - إن كان ثمة خطأ - بالويل والعذاب والجحيم والرعب، لا بالسماحة والعفو والسعة والغفران، هو دين منفر لا مبشر، ينحاز للترهيب لا الترغيب. وهو تصور ظالم مجحف للإسلام، لم يتسبب فيه الدين نفسه، بل تسبب فيه فقهاء الظلام وشيوخ الكبح.
الرابعة: إن مواجهة هذه الموجات الظلامية المتتالية لن تؤتي ثمارها المرجوة، إلا بثلاث طرق:
1 - توضيح الوجه المضيء للإسلام وإشاعته، وكشف الغطاء، الذي وضعه السلفيون القادمون، منه، وتعميمه في المدارس والمعاهد والكليات والإعلام والتلفزيون ووزارات الأوقاف وخطب الجمعة وسائر وسائل الوعي والتربية والتعليم.
2- فك الارتباط المتين بين السلفية الدينية المحافظة والسلطة السياسية المستبدة. فما كان لهذه السلفية المحافظة أن تنشر وتتغوّل إلا بحلف مكين مع السلطات السياسية القاهرة، التي تتغذى بهذه السلفية وتغذيها، تبقى بها وتبقيها، كما افهمنا الكواكبي في ‘’طبائع الاستبداد’’.
3- إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. بتعبير آخر: تطبيق شعار الثورات الوطنية العربية الخلاق ‘’الدين لله والوطن للجميع’’، تطبيقاً يجسد فصل الدين عن السياسة، بحيث يكون الدين علاقة روحية بين العبد والرب، وتكون المواطنة المدنية عقد التعامل بين المواطنين والمواطنين، وبين المواطنين والدولة، من حيث الحقوق والواجبات المنصوص عليها في القانون الذي يخضع له الجميع، بصرف النظر عن الدين والجنس واللون والاعتقاد.
بهذه الطرق الثلاثة يمكن أن نعبر الهوة إلى الحداثة الحقة، ويمكن أن يزول - أو يضعف - سيف الظلام المسلط على رقاب العباد والمواطنين والمبدعين. وبغيرها سنظل ندور في هذه الحلقة الجهنمية المفرغة، التي يرفع فهيا السوط على المغني إذا عزف العود (الله يرحمك يا زرياب)، وعلى الشاعر إذا أطلق مجازاً (الله يرحمك يا أبا نواس)، وعلى الروائي إذا رصد مشهداً (الله يرحمك يا ابن طفيل).
-وستظل الحرب دائرة بين فريقين من المجانين:
فريق مجنون ليلى، أي مجنوني الحب والبهجة والجمال، وفريق مجنوني مكارثي والحجاج الذي رأى رؤوساً حان قطافها، أي مجنوني الكراهية والقبح والكآبة.
وساعتها سنعيد مجدداً قراءة ديوان قاسم حداد ‘’خروج رأس الحسن من المدن الخائنة’’، وسنعيد مجدداً الاستماع إلى صوت مارسيل خليفة وهو ينشد: ‘’في كفي خصفة زيتون وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي، وأنا أمشي’’.
*صحيفة الوقت البحرينية
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 28-مارس-2024 الساعة: 10:04 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/42753.htm