الإثنين, 23-يوليو-2007
المؤتمر نت - برهان غليون د. برهان غليون -
نهاية التدخلات الخارجية النشطة
لا يرى أنصار السياسة الخارجية السورية، التي أرسى أسسها الرئيس حافظ الأسد، وقامت على توسيع دائرة نفوذ سوريا ودورها الإقليمي في المنطقة، مقابل مصالح استراتيجية حيوية تتعلق أساساً باسترجاع الجولان، سوى إنجازات فذة لا تقارن بحجم الخسائر أو التضحيات التي تحملتها. ففي ما يتعلق بأهم الجبهات التي فتحتها السياسة الخارجية السورية واستثمرتها، أعني جبهة العلاقات السورية -اللبنانية، وفر لبنان لسوريا مسرحاً جانبياً للحرب، حلَّ معضلةً استراتيجيةً كبرى بمنعه إسرائيل من النوم على قرار ضم الجولان (14-12-1981) ، وفي الوقت نفسه عدم المغامرة بالتورط بحرب شاملة مع الدولة العبرية تكاد نتائجها تكون محسومة لصالح الخصم. وقد أثمرت هذه الحرب المحدودة بالفعل مشروع تسوية كاد يتحقق تحت إشراف الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" عام 2000.


ولا يختلف الوضع في فلسطين. فليس هناك أي شك في أن وجود منظمات فلسطينية حليفة لسوريا، داخل الحركة الفلسطينية، قد أعطى لدمشق هامش مناورة كبيرا تجاه السياسة الفلسطينية والدبلوماسية العالمية، ومنعَ "منظمة التحرير الفلسطينية" بشكل خاص من عقد اتفاق منفرد مع تل أبيب على حساب سوريا. لكن ربما كان العراق هو المثال الأنجح في سياسة التدخل الإقليمي النشطة. فقد أمكن لدمشق أن تضع حداً لغطرسة القوة الأميركية، التي لم تخفِ منذ دخولها العراق رغبتها في أن تجعل من احتلاله منطلقاً لتغيير شامل في النظم العربية. فلم تفرض المقاومة العراقية على واشنطن التراجع عن شعاراتها السياسية ووضع مخططاتها الشرق أوسطية ومشاريعها التغييرية على الرف فحسب، ولكنها عملت أكثر من ذلك على وضع الإدارة الأميركية في مشكلة استراتيجية عويصة، عندما أغرقتها في مستنقع لا تعرف الخروج منه، وعرضتها لانتقادات داخلية ودولية عنيفة.

من زاوية النظر هذه، كانت سياسة التدخل النشطة في نزاعات الشرق الأوسط، مثمرة لدمشق من دون شك, فقد أمّنت لها مزايا استراتيجية عديدة، وحولتها إلى قوة إقليمية فعلية, ونجمت عن هذا النجاح مكاسب استراتيجية عظيمة، كما حصل بعد "اتفاق الطائف" الذي كفلَ للنفوذ السوري شرعية عربية، ومن ثم دولية في لبنان وأعطى للقيادة السورية رصيداً سياسياً كبيراً في الداخل السوري وفي المحيط العربي والدولي.

لكن بالإضافة إلى أن سياسة التدخل الخارجي النشط لم تكفل لسوريا تحقيق أهم أهدافها الوطنية التي تسعى إليها، فقد كان لهذه السياسة تداعيات إنسانية واستراتيجية ملحوظة؛ إذ أدخلت سوريا في نزاعات جانبية استنفدت جزءاً من طاقتها. كما أن مردودها السياسي لم يكن بالمستوى المتوقع.

فعلى الجبهة الفلسطينية، كانت هذه السياسة رديفاً لمعارك مع حركة "فتح" بقيادة ياسر عرفات، أي مع القوة الرئيسية للحركة الوطنية الفلسطينية، وهو ما أضعف تلك الحركة، ودفعها بشكل أكبر بعيداً عن دمشق، وشجعها على توقيع اتفاقيات اوسلو الانفرادية، بعكس ما كانت سوريا تسعى إليه تماماً.

لكن ليس هناك أفضل من مثال العراق لإعطاء صورة عن النتائج المتناقضة لسياسة التدخل السورية. فبعد أن أملت دمشق أن تحصد نتيجة دعمها للمقاومة العراقية تعويماً شاملاً لاستراتيجيتها النشطة، وجدت نفسها في مواجهة استراتيجية مع الولايات المتحدة، إضافة الى الانعكاسات السلبية الخطيرة، المادية والسياسية والاجتماعية، لحرب أهلية ملتهبة في العراق لا يمكن لأحد التنبؤ بمآلها.

وأمام الضغوط المتزايدة من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة ومجلس الأمن الدولي، كان التحالف مع الجمهورية الإيرانية والانخراط معها في مواجهة الولايات المتحدة، خياراً بالنسبة لدمشق!
وقد يبدو ذلك الخيار، من النظرة الأولى، مخرجاً ممكناً لسوريا، لاسيما أنه يؤمن لها الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي الذي تحتاج إليه لتحمل عواقب ما يشبه الحصار الدولي، ويمكنها من مواجهة الضغوط والتهديدات الأميركية والإسرائيلية.

بيد أن هذا الخيار سيف ذو حدين. فهو يعزز من دون شك المركز الاستراتيجي لسوريا، لكنه يقطع عليها طريق استعادة العلاقات الايجابية مع الغرب والبلاد العربية الرئيسية, وبتلك الخطوة تحولت سوريا إلى خصم لبعض الدول الغربية التي لن تقبل بأي حال سيطرة ايران على تقنية إنتاج القنبلة النووية.

ويبدو أكثر فأكثر اليوم أن التحالف مع إيران يشكل قيداً على الدبلوماسية السورية، أكثر ما يمثل مخرجاً مريحاً ومعقولاً. وربما كان في وسع دمشق، وبسهولة كبيرة، ولقاء بعض التنازلات الشكلية، أن تستعيد علاقاتها الدولية والعربية، من دون الحاجة إلى مواجهة قد لا تخدم مصالحها، بل يرى بعضهم أنها قد تحرِمها من فرص التفاوض على استعادة أراضيها المحتلة, فلن يستطيع التحالف الاستراتيجي مع طهران أن يضمن لسوريا استعادة أراضيها المحتلة بالحرب، ولكنه ربما يقطع عليها فرص التوصل إلى تسوية مع الكتلة الغربية والمجموعة العربية، هي أملها الأهم من أجل استعادة الجولان بطرق التفاوض الدبلوماسية.

لم تكن سياسة استثمار التناقضات والانقسامات الخارجية، منتجة أو ذات فائدة في أغلب الحالات خلال الأعوام السابقة، وهي بالقدر نفسه قد لا تكون ناجعة اليوم أيضاً. وإذا قادت إلى طريق مسدود سابقاً، كما يقول معارضو الحكومة السورية، فهي (أي السياسة المذكورة) تهدد بأن تؤدي إلى الفوضى والحروب والدمار، وانهيار أي سيطرة على الموقف، في المستقبل. وهي أيضاً ليست حتمية ولا مفروضة بأي شكل. وليست الخيار الوحيد لتأمين الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية، بقدر ما هي ثمرة تعريف للمصالح الوطنية، يردها إلى مسألة النفوذ الخارجي والقدرة على التأثير... وهو ما يتوافق مع مصالح محافظة، ومع سيناريو توسيع هامش المناورات الداخلية والخارجية.

وربما تستطيع سوريا أن تحقق أكثر أهدافها إذا ما اتبعت سياسة خارجية أكثر إيجابية. فمثل هذه السياسة هي ما يعطيها الأمل في أن تسترجع أراضيها المحتلة، وتحتفظ بهامش مناورة إقليمية حقيقية، قائمة على اعتراف الآخرين بدورها ومكانتها، وهي أيضاً ما يمكنها من تحقيق مصالحها الوطنية الرئيسية والملحة في توسيع فرص وقاعدة التنمية الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية.

* نقلاً عن جريدة "الاتحاد" الاماراتية

تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 04-أكتوبر-2024 الساعة: 07:41 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/46987.htm