السبت, 18-أغسطس-2007
المؤتمرنت - بيان الصفدي (*) -
مشاهد من الشعر اليمني المعاصر (3-3)
• الشعر يتقدم
منذ بداية السبعينيات بدأت تنمو حركة شعرية أقرب إلى الحداثة، ولم يكن في ذاكرتها سوى شذرات من شعر التفعيلة مرت سهوا ً عند علي باكثير وحسن السقاف وأحمد الشامي، ولم تشكل أساسا ً أو تيارا ً يُبنَى عليه، كقول أحمد الشامي:
أنا لا أنظم شعرا ً
فلقد أنـْسيتُ أوزان القصيدْ
إنما أنثر أشواقا ً ودمعا ً
شوق قلب مغرم ِ
وفؤاد مؤلم ِ
ودموعا ً عصرتها لهفة الروح الحزينْ
بعد ذلك جاءت تجارب تؤسس لتيار أكثر تحررا ً وانطلاقا ً وعمقا ً يتصدرها عبد العزيز المقالح ومحمد الشرفي وإسماعيل الوريث وعبد الكريم الرازحي وعبد اللطيف الربيع وعبد الرحيم سلام وعبد الودود سيف وعبد الله قاضي، ثم أتى جيل أدبي ذهبي سيشكل انطلاقا ً نوعيا ً، ومن أهم أسماء هذا الجيل محمد حسين هيثم وشوقي شفيق وأحمد العواضي وجنيد الجنيد ومحيي الدين جرمة وصبري الحيقي وهائل الغابري وأحمد الزراعي وابتسام المتوكل وآمنة يوسف ومختار الضبيري وعلي المقري ومحمد الشيباني وهشام شمسان وغيرهم، واللافت أن بعض الأصوات النسائية قد بدأت تطل برؤوسها على استحياء.
عند هؤلاء امتلكت القصيدة مغامرتها الكاملة، ولم تعد ذاكرة مثقلة بالشرح والنثرية،ولنأخذ هذا النموذج لعبد العزيز المقالح عن صنعاء وهو مزيج من شعر التفعيلة وقصيدة النثر:
"هي في عمر سامِ ابن نوح/ قصورٌ معتّقةٌ/ وشبابيك من فضّة/ الحمامُ الذي اختطّها بعد أن هدأ الغمرُ/ وانحسر الفيضان/ يحلّق فوق نوافذها/ ويغنّي لأسلافه،/ للقناديل تومض في أوّل الليل.
للضوء يرقص فوق التلال/ وللأغنيات القديمة تنساب رقراقةً في الشوارع./ دافئةٌ ومدثّرةٌ بالبخور البيوت/ الميادين مملوءةٌ بالأحاديث والمفردات الطريّة/ ماذا يقولون؟/ صنعاء تغفو على مقعد تحت عرش الإله/ وتمسح بالعطر أشجارها المثمرات./
(المدن الجميلة كالنساء الجميلات/ لايخضعن لحساب الزمن/ ولا يفصحن عن أعمارهن./ الآثاريون وحدهم يقرؤون أعمار المدن/ باللّمس./ والأطباء وحدهم يعرفون من ظلال التجاعد\ثمرة الزمن على الوجوه/ أحد هؤلاء الآثاريون يقول:/ إن الميلاد الأول لصنعاء حدث قبل 8000 سنة/ وإنها خلقت من أضلاع الجبال المحيطة بها/ كان غيمان أول من نقش على جبينها/ هلال أشواقه/ وأول من وهبها من ضلعه الأيسر/ الأعمدة الفارهة/ أعطاها من جلده النوافذ المتربصة بالشمس/ منذ عشرات القرون/ وهي تطل على الوادي./ وهو يقف بجوارها مفتوح العينين/ كأنه في انتظار ريشة الزمن العبقري لترسم لهما صورة تذكارية".
أما عبد الكريم الرازحي فهو سيد قصيدة النثر في اليمن، وتمتاز تجربته بالحرارة والرقة والحميمية، وعلى عكس الذين يشعرون بغربة تجاربهم عن القارىء فإن لما يكتبه وقع خاص في قلوب القراء، وتعكس همومه الشعرية أعمق التحولات الجديدة في قلوب الأجيال الحالمة بالعدالة والحب والحرية، حتى إن في شعره نبضا ً حيا ً لإنسان صادق مذعور من الجميع، حتى لو كانوا من أقرب الناس إليه فكريا ً، ها هو يقول في قصيدة يخاطب فيها فتاة روسية عرفها عند زيارته لبلدها:
"أين أنتِ الآن يا لينا؟/ وأين غداً ستكونين/ في أيّ قطار أنتِ الآن يا لينا؟/ وصوب أيّ محطةٍ/ ومدينة تمضين؟/ من فتحةِ رغبتي .. رأيتك بالأمس/ واليوم أراك من ثقب إبرة القلب/ أراك أنقى من ماء الينابيع المعدنية/ وأكثر براءةٌ يا لينا .. من طفل اللهب/ وجه لينا أهدأ من نهر الدون/ عنقها .. أشبهُ بقارورة فودكا/ و للينا جسدٌ مموسقٌ كقصيدة/ أصابعُ تضيءُ كرؤوس الأفاعي/ وبعينيها .. قلقُ سمكةٍ/ تبحثُ عن حوت/ لينا امرأةٌ وُلدت .. من موسيقى الفولجا/ لينا سمكةٌ طلعت .. من أطراف البحر/ ولينا السمكةُ المرأةُ قالت لي:/ من يأخذني إلى مدن الشرق المسكونة/ بالرجل الحوت!/ كان حاجزٌ نوويٌ/ يفصلني عن لينا / كان النجم القطبي/ أقرب إليّ من لينا/ أخذ اليأس يدبّ فيّ دبيب النّمل/ وأخذ الخوفُ من لينا/ يلتمّ عليّ/ لينا من عائلةٍ نوويّة/ وأنا عائلتي من طين/ لينا امرأةٌ عظمى/ وأنا رجلٌ مسكين/ و لينا تسافر جوّاً بالصاروخ/ تنقلها .. مدمّرةٌ إلى الشاطئ/ وحين تزور جارتها ../ تركبُ دبّابة/ لينا مدينةٌ مغلقةٌ في وجهي."
ويقول في مكان آخر:
يا أولادي
أوصيكم أن تلعبوا بالنار
ولا تلعبوا بالحبر
أو في قصيدته لصديق له كان سجينا ً عند تحقيق الوحدة اليمنية:
يتقاتلون
وأنت تبكي
يتصالحون
وأنت تضحك
يتوحدون
وأنت وحدكْ
أما الشاعر محمد حسين هيثم فهو أكثر شعراء اليمن حداثة وتجديدا ً في أفق إبداعي تسنده ثقافة متنوعة، ولغة متألقة، وتجربة تستحق الدرس والتحليل، خاصة أن هذا الشاعر الخارج من تجربة ناضجة إنسانيا ً وسياسيا ً، فبعد الكثير من الانغماس في الوحل والنقاء اليمنيين خرج الشاعر وقد تملـَّـك رؤيا فيها الكثير من التأمل والشغل على اللغة والإيقاع أو التفلـُّت منه، وصارت لغته الشعرية شديدة الهدوء حتى كأنها تراتيل، وتعمَّق إمساكه باليومي والمرئي لينتقل منهما إلى لغة فيها زخم حميم من الصوفية التي تؤجـِّج الشعر، كما نلاحظ في هذه القصيدة عن مدينة تعز:
من أغضبها
كي تحمل سلة أنجمها
وتسير إلى أقصى النسيان؟
هي أحلى امرأة تتنزَّل من "صَبر"
في سلتها خبز الله
وفي شفتيها كرز الشيطانْ
أين المرأة الشاعرة في هذا المشهد الشعري اليمني؟ لقد ساعد الحراك الطبيعي لتحول المجتمع البطيء، وارتباط الوحدة اليمنية بانطلاق الحريات السياسية والحزبية على اقتحام المرأة على خجل كتابة الشعر، وهي تعني بلا شك مغامرة البوح الذاتي عما يعتمل في الروح والجسد والمجتمع.
فعلى الرغم من أن هذا الدخول ارتبط بكثير من المغامرة على الصعيد الاجتماعي، إلا أن هؤلاء الكاتبات تحتضنهن أجواء نخبوية تتسع يوما ً بعد يوم.
وقد كنت على صلة وثيقة بالتيار الشعري اليمني في اليمن بحكم عملي لتسع سنوات(1988-1997) محررا ً ثقافيا ً مما يخوِّلني لتشخيص المشهد إبداعيا ً وميدانيا ً، لهذا فالأصوات النسائية التي تـُسمع الآن تأخذ مساحتها انطلاقا ً من انحياز ٍ لأنوثة تتوق إلى الانطلاق في كهف قاهر، لكن معظم الأصوات النسائية محدودة الاطلاع، وضعيفة الأدوات، وفيها الكثير من التكوين المشوَّه تبعا ً لردة الفعل وسط احتفائية مصطنعة، ورغبة إثبات الذات بما يتوافق مع هذه الاحتفائية، تشارك فيها أقلام نقدية عربية تحكمها الحال التي أشرت إليها في ثنايا هذه الإطلالة على الشعر اليمني.
واللافت أن قصيدة النثر باتت الشكل شبه الوحيد للشعراء والشواعر، ولعل السهولة التي تمثلها الكتابة النثرية جعلت الحماسة لقصيدة النثر مبالغا ً فيها، خاصة لدى النساء.
ومن العادل تماما ً أن أقدم لكم نموذجا ً لواحدة من أهم الأصوات النسائية هي ابتسام المتوكل:
قرينان نحن
أنا والقدر
وحيدين صرنا
وحيدين كنا
وحيدين نبقى
وليس معي في الخواء المديد
سوى حلم صلبته يداي
الشعر اليمني الآن موعود بالكثير،على الرغم من ثقل التقاليد الفنية والاجتماعية، فقد أخذت اليمن تتجه بسرعة نحو الانفتاح على مختلف الثقافات، والتعليم في تطور مستمر، وبدأت بذور واعدة في نقد أدبي يحاول الابتعاد شيئا ً فشيئا ً عن الحالات الإخوانية، وهيمنة الأسماء المكرَّسة من مختلف الأجيال.

ملا حظات
• جمال جميل ضابط عراقي من الموصل، رئيس البعثة العسكرية العراقية، كان من قادة ثورة 1948، أعدم بعد فشل الثورة، وبعد ثورة 1962 سُمَّي أحد شوارع صنعاء الرئيسية باسمه وتحول منزله إلى متحف.
• "حاشد" و "بكيل" قبيلتان يمنيتان مشهورتان من الطائفة الزيدية.
• الزرانيق: قبائل يمنية شافعية، موطنها تهامة، ومركزها مدينة "بيت الفقيه" عُرفت بانتفاضاتها المتكررة على الإمام.
• صبر: جبل يشرف على مدينة تعز.
مراجع لها دلالة خاصة يُنصَح بالعودة إليها لتضيء الكثير مما ورد في الدراسة:
1. شعراء اليمن المعاصرون. هلال ناجي. مؤسسة المعارف. بيروت 1966.
2. الشعر المعاصر في اليمن. د عز الدين إسماعيل. مطبوعات معهد البحوث والدراسات العربية. القاهرة 1972.
3. موضوعات في النقد الأدبي. حسن عزعزي. دار الفارابي. بيروت 1980.
4. نجمة تقود البحر. شعر. عبد الفتاح إسماعيل (تقديم: أدونيس). دار المدى. دمشق 1998.
5. على مسافة من الذات. ميفع عبد الرحمن.دار الهمداني. عدن 1987.
6. مجلة "الأسبوع العربي" . بيروت 1/8/1988.
..........................
(*) أديب وشاعر سوري
- نشر الشعر للكبار والأطفال منذ عام 1974.
- عمل في دار ثقافة الأطفال / بغداد / محررا ً ثقافيا ً منذ 1977حتى 1982.
- عمل رئيسا ً للقسم الثقافي في جريدة " الثوري " اليمنية منذ 1988حتى 1997.
- عمل مراسلا ً أدبيا ً لجريدة " القدس العربي " / لندن / في عامي 1982-1994.
- عمل رئيسا ً لتحرير مجلة " أسامة " 2002 - 2005 / وزارة الثقافة / دمشق .
- عمل معاونا ً للمشرف العام على مجلة أسامة منذ أيلول 2005.
- يعمل خبيرا ً في مديرية التأليف والترجمة / وزارة الثقافة / منذ تموز 2006.
- نشر في مختلف المجلات والصحف العربية .
- له أعمال منشورة وملحنة في أكثر من وسيلة مقروءة ومرئية ومسموعة .




تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 29-مارس-2024 الساعة: 03:45 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/47971.htm