احمد الحبيشي -
لليمن .. لا لعلي عبدالله صالح ( 29 )...التطرف ليس له وطن أو دين أو جنسية
في الثاني عشر من يونيو 2004م قدم الرئيس علي عبدالله صالح رؤية ثقافية لمكافحة التطرف بما هو المقدمة الأولى للإرهاب، حيث سلط الضوء في حديث نشرته صحيفة (نيكاني) اليابانية على دور التعليم في تحصين الشباب من الأفكار المتطرفة التي تصنع الجرائم الإرهابية، مشيرا إلى أن إستراتيجية الحكومة اليمنية في هذا المجال تتمثل في أن يكون هناك نظام تعليمي واحد لا نظامان تعليميان أو أكثر، وبما يضمن أن تكون هناك ثقافة واحدة. كما أكد الرئيس عزم اليمن على مواصلة الإصلاحات في مجال التعليم من خلال توحيد المناهج وتطويرها.
وبعد حوالي شهر من هذا الحديث، جدد الرئيس علي عبدالله صالح موقفه الثابت من هذه المسألة، حيث تحدث أمام الوفد الصحفي الإيطالي الذي زار اليمن بتاريخ 19 يوليو 2004م، مشددا على أهمية البعد الثقافي في مكافحة الإرهاب من خلال التوعية وتحصين المجتمع من الاختراقات الفكرية المتطرفة. ومضى فخامته في عرض رؤيته لمكافحة التطرف والحد من خطر الإرهاب موضحـًا ثلاثة مسارات مهمة لهذه الرؤية وهي مكافحة الفقر وإيجاد تربية وطنية معتمدة على مناهج تعليمية موحدة والالتزام بالديمقراطية نهجا وسلوكا وثقافة.
وفي وقت لاحق قام الرئيس بتطوير رؤيته على نحو ما جاء في مقابلة صحفية أجرتها مع فخامته صحيفة (كريرا ديلاسيرا الإيطالية) بتاريخ 24 نوفمبر 2004م، حيث أكد خطأ القول بأن التطرف هو ظاهرة إسلامية فقط ، منوها بأن التطرف موجود في كل الديانات . فهناك متطرفون إسلاميون من الذين ذهبوا إلى أفغانستان مثل تنظيم (القاعدة) والجهاد وجماعات سلفية متطرفة، لكن هناك أيضا متطرفون يهود ومتطرفون مسيحيون وجماعات سلفية وأصولية متشددة في مختلف الديانات بحسب قوله وهو على حق في ذلك .
الثابت ان تاريخ الإسلام والمسيحية واليهودية شهد أنواعاً مختلفة من التطرف والغلو لا زالت آثار بعضها حاضرة بأشكال متنوعة في العديد من البلدان والمجتمعات. ولا ريب في أنّ ظواهر التطرف والغلو بدون استثناء ارتبطت بالسياسة، وعبرت عن مصالح ومواقف سياسية معينة منذ ظهور الأديان السماوية . وقد تورط كثير من ملوك بني اسرائيل وحكام وملوك وسلاطين المسلمين في نظام الخلافة الامبراطوري ودول ملوك الطوائف الاسلامية على أطرافه ، بالاضافة الى ملوك وأباطرة أوروبا المسيحية وكنائسها ، في رعاية واستخدام المذاهب المتشددة والحركات المتطرفة بهدف تحقيق أهداف سياسية ومصالح سلطوية دنيوية في العصور الغابرة تحت غطاء الدين، بهدف إضفاء الشرعية على نظم الحكم والصراع من اجل السلطة والثروة ، وهو ما سنأتي اليه في الحلقة القادمة عندما سنتناول مراحل تطور المذاهب الدينية ، والقواسم المشتركة بينها .
حدث ذلك في القرون الميلادية الأولى والوسطى، ثمّ تكرر في العصر الحديث سواء في مرحلة ظهور القوميات ونشوء الأمم والدول القومية والوطنية المعاصرة، أو في مرحلة الصراع على اقتسام الأسواق والنفوذ في المستعمرات ومداخل البحار والمحيطات خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى مرحلة الحرب الباردة خلال القرن العشرين المنصرم، حيث وظفت المخابرات المركزية الأمريكية ومخابرات دول حلف الناتو كلاً من الأكليروس المتشدد في الكنيسة الأرثوذكسية بشرق أوروبا، والغوغاء والمتطرفين البوذيين في جبال التبت في الصين، والمنظمات اليهودية في شرق أوروبا وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة في العالم العربي والإسلامي، لخوض معارك مباشرة بالنيابة عن الغرب ضد الاتحاد السوفيتي والصين وحركات التحرر الوطني ، في إطار الحرب الباردة التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي والبلدان المتحررة من الاستعمار حديثا ً .
يقيناً أنّ القاسم المشترك بين جميع الأفكار المتطرفة في أوساط أتباع الأديان المختلفة، هو نزوع أصحابها إلى الإقامة الدائمة في الماضي البعيد، والقطيعة مع العصر ورفض قواعد العيش الجديدة في الحياة الإنسانية المعاصرة والمتميزة بأبعاد كونية تتناقض مع الأفكار المتطرفة التي تضفي صفة القداسة الدينية المطلقة على نماذج حياة الأسلاف والنظم الامبراطورية القديمة ، وترفعها إلى مقام العقيدة الدينية الخالصة ، وتصر على تلوين حياة الأمم والشعوب والمجتمعات بتلك النماذج الماضوية ، دون أدنى مراعاة لتأثير تطور العلوم والتكنولوجيا والمجتمعات والأفكار والاقتصاد والسياسة ونظم الحكم والإدارة والثقافات والحضارات والعَلاقات الدولية على وعي وحياة الإنسان والدول والمجتمعات !!
في هذا السياق لا يجوز إخراج العقل الإنساني ورصيده الحضاري من دائرة المعطيات الحاسمة التي سيتقرر على ضوئها حسم التدافع الدائر بين القوى الفاعلة في صنع الحضارة الحديثة ، والتأثير على وجهة تطورها.. فقد أسهم تطور العلم في إغناء رصيد المنجزات العقلية للبشرية بأسرها، فيما ساعدت منجزات الثورة التكنولوجية المعاصرة على تكوين أنماط جديدة من التفكير والسلوك إزاء مشكلات البشرية من منظور وحدة المصير الإنساني للبشرية في عالمنا الواقعي الذي يتسم بالترابط والتكامل والتنوع ، بعد ان شهدت صورة العالم تغيرات واسعة تحت تأثير الدور المتعاظم لمجتمع الدول المتحضرة في ميادين الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية والروابط الاقتصادية والتجارية البنيوية بين مختلف قارات ودول وشعوب العالم، بالإضافة إلى التأثيرات المتسارعة لمنجزات العلوم التطبيقية وثورة المعلومات الانفجارية. وما من شكٍ في أنّ كل هذه التحولات غيرت أيضاً رؤية الناس من مختلف الأديان والثقافات لهذا العالم الجديد.
لقد أصبح العالم اليوم أكثر ترابطاً وتكاملاً وتناقضاً وتنوعا ً في آنٍ واحدٍ.. ولأنّه كذلك فإنّ الحوار وليس الصراع بين الأديان والثقافات والحضارات يُعد ضرورة تمليها حاجة العالم إلى التسامح والتعايش والترابط.. وبوسعنا القول إنّ جميع هذه الاحتياجات الملحة لا يمكن بلوغها بدون التخلص من نزعات الهيمنة والاستعلاء والاستبداد والعدوان في العَلاقات الدولية ، وهي نزعات متطرفة بامتياز. لأنّها تتجاهل الفرق بين العدالة والظلم، وتخلط بين الحق والباطل، ولا تميز بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال والعدوان والاستيطان.. الأمر الذي ينذر في نهاية المطاف بمخاطر جدية تهدد حضارتنا الحديثة وعالمنا الواحد من بينها خطر التطرف والإرهاب.
تأسيساً على ما تقدم لا يختلف اثنان حول حاجة الأمة العربية والاسلامية لصياغة خطاب ديني مستنير، وتقديم صورة مشرقة للإسلام وشريعته ونظامه القيمي والأخلاقي. ومن نافل القول إنّ الخطاب الديني الذي أقصده، لا يعني النص الديني المقدس سواء كان قرآناً كريماً أو حديثاً منسوبا الى النبي عليه الصلاة والسلام . والمقصود بهذا الخطاب هو أقوال الفقهاء والدُعاة والخطباء وأهل الإفتاء والمفكرين الإسلاميين، حيث يلعب هذا الخطاب دوراً حيوياً في تقديم صورة الإسلام إلى المتلقين من المسلمين وغير المسلمين.
بوسع الخطاب الديني تقديم صورة مشرقة للإسلام، حين تكون النتيجة صورة مشرقة للتدين على مستوى السلوك الفردي والجمعي، الأمر الذي يؤدي إلى إعلاء مكانة نظام القيم الإسلامي في العَلاقات الإنسانية، سواء بين أفراد المجتمع الإسلامي أو بينه وسائر المجتمعات والأمم والشعوب في العالم الإنساني، وما يترتب على ذلك من توظيف إيجابي للتنوع في المعتقدات والثقافات بين البشر لصالح إعلاء مكانة القيم الانسانية المشتركة، وحماية حقوق الإنسان ودعم قيم الحرية والعدالة والتعاون والتسامح والسلام بين الشعوب، وهي من أهم مقاصد الدين الإسلامي الذي أنزله الله رحمة بالعالمين . بيد إنّ أخطر ما يهدد الخطاب الديني باعتباره أهم مصادر المعرفة بأصول الدين هو تسلل الهوى والأغراض السياسية والحزبية والمذهبية ، وغياب البصيرة وسطوة الغلو والتعصب ، ما يؤدي إلى إيجاد فهم مشوّه للدين، وإنتاج سلوك منحرف من قبل بعض الذين يقعون ضحية للانحرافات والتشوهات في الخطاب الديني.
في هذا السياق تبلورت على أيدي العديد من علماء الدين والمفكرين الاسلاميين المستنيرين توجهات نقدية تجسد نهج الاعتدال في الدعوة والإرشاد، وأهمها الحرص على نقد ما يسود الخطاب الديني لبعض الدعاة من إصرار على تحويل المساجد إلى منابر لعرض وجهات النظر السياسية وخوض الصراعات الحزبية، وإطلاق حملات الدعاية الانتخابية، وتكفير وتفسيق الخصوم السياسيين، وغيرها من الأمور التي تسيء إلى بيوت الله وتمزق صفوف المسلمين!.
لا فائدة من خطابٍ يؤدي إلى أن يقبل الناس على الدعوة وهم مذعورون وخائفون، لأنّ الحضارات والأوطان الحرة والمتقدمة لا تُبنى بعقول وسواعد مذعورة وخائفة.. وما أحوجنا إلى خطاب كهذا الذي نقرأه في دراسات ومحاضرات و مقالات الداعين الى تجديد الخطاب الديني، حيث نجد تأكيداً على أهمية التيسير ورفع المشقة والحرج، وكل ذلك يحمل معنى الرحمة والمغفرة من الله الرحيم الغفور القائل: «لا تقنطوا من رحمة الله أنّ الله يغفر الذنوب جميعاً». ( الزمر 53). وبالقدر ذاته ما أحوجنا إلى خطاب لا يُغالي في التشدد والتضييق واختيار أعسر الأمور وأجلبها للمشقة وادعاها إلى وقوع الحرج في ظل وجود البدائل التي تيسر ولا تعسر.. «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» ( البقرة 185) . ولا يغفل هؤلاء المستنيرون مقاصد الدين ولا يميلون إلى الأخذ بظاهر النصوص. وبوسع من يتابع الداعين الى تجديد الخطاب الديني أن يلاحظ تأكيدهم على ضرورة الاجتهاد في التجديد واستخدام العقل في فهم النصوص وتفسيرها، واستنباط الأساليب الواقعية لتطبيقها في الظروف المتجددة والأوضاع المتغيرة.. فحين تنفصل الأحكام عن غاياتها والتكاليف الشرعية عن مقاصدها يقع الناس في العسر والحرج، ويدخلون في دوائر الأزمات والمعضلات.
استرعى انتباهي في بعض كتابات الداعين الى تجديد الخطاب الديني تمسكهم بنقد بعض الأفكار الخاطئة التي تحاول حصر الإسلام في عصور معينة من ماضي التاريخ، وما ينجم عن ذلك من تصورٍ خاطئ بأنّ الإسلام هو تاريخ تلك الحقبة فقط.. ولذلك يؤكد هؤلاء بأنّ الإسلام هو دين الله حتى تقوم الساعة.. أما الماضي فهو ليس من صنعنا، وأمجاده لا فضل لنا فيها. ناهيك عن أنّه يشتمل على الحق والباطل، والهدى والضلال، والعدل والظلم. فيما يؤدي الاستغراق في الماضي إلى انشغالنا عن الاهتمام بالحاضر والمستقبل، في عالم تتطور فيه العلوم والمعارف والمنجزات التقنية بإيقاع متسارع لم يعرفه أسلافنا الأقدمون.
يرفض الداعون الى تجديد الخطاب الديني إفراط بعض الدعاة المتطرفين في التفسيق والتكفير واشلعة ثقافة الكراهية ضد أتباع الاديان الأخرى والمذاهب المغايرة. ولا يتفقون مع الأفكار المتطرفة التي تزعم بأنّ الإسلام يحث المسلمين على قتال كل من لا يدين بدينهم، وتقدم تعريفاً مشوهاً للثقافة الإسلامية على نحوٍ لا يسمح بوجود مجال للاختلاف والتعايش مع غير المسلمين في عالم تسوده قيم الحوار والتفاعل والسلام.. كما يرى الداعون الى تجديد الخطاب الديني أنّ ثمة مجالاً للاختلاف في الرأي والفكر بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وغيرهم من أهل الديانات السماوية والمعتقدات الأخرى. فالمسلم ليس وصياً على مسلم آخر عاقل على نحو ما يفغله السلفيون الوهابيون من اتباع تنظيم ( القاعدة ) وشيوخهم والمتعاطفون معهم . أما غير المسلمين فيجب مجادلتهم بالتي هي أحسن والبر بهم والقسط إليهم والعيش معهم بسلام. فلا إكراه في الدين، ولا مندوحة لقتال غير المسلمين إلا دفاعاً عن النفس أو الأرض أو المال أو العرض. أو لدرء خطر عدوان بائن على ديار المسلمين..
بوسعنا القول ان العالم العربي يشهد ميولا داخلية وضغوطًا خارجية للتحول نحو الديمقراطية وإعادة تأهيل أوضاعه الداخلية باتجاه التكيف مع متطلبات الاندماج في النظام الكوني الآخذ في التشكُّل على يد مخرجات ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات . . وبوسعنا القول ان تراكم عمليات التحول نحو الديمقراطية وبناء المجتمع المدني سيجعل العالم العربي مفتوحاً على متغيرات نوعية قد تؤسس لنمط جديد من الثقافة السياسية والتفكير النظري.
والحال أن الثقافة عموماً والثقافة السياسية خصوصاً شهدتا حالة ً من الجمود والتراجع تحت تأثير إنكماش وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى ، الأمر الذي أدّى الى ان يفتقد المثقفون الذين كان معظمهم جزءًا من هذه الطبقة شروطاً اجتماعية لازمة لتشكيل وعيهم وتكوين مواقفهم واستعداداتهم ، ثم وجدوا انفسهم في مواجهة ركود تاريخي ارتيط بتراجع مكانتهم في السلم الطبقي والتأثير السياسي والإجتماعي .. وترافق هذا التراجع مع تراجع موازٍ لتأثير الآيديولوجيات القومية والإشتراكية والدينية التي كان المثقفون يشكلون حاملها الاجتماعي بعد ان فشلت هذه الآيديولوجيات في اختبارات الحياة .
في مقال سابق كتبت في هذه الصحيفة عن روّاد فكر النهضة الذين كانوا يبحثون عن أسباب تخلف المسلمين وسر تقدم اوروبا وغير المسلمين ، حيث طرحوا أسئلة جديدة بحثاً عن أجوبة تُمكِّن المسلمين من مغادرة نفق التخلف والإنقطاع الحضاري .. ثم جاء (( الإخوان المسلمون )) بوجهة تفكير مختلفة ، فعوضاً عن السؤال : لماذا تخلف المسلمون وتقدم الآخرون؟ طرح المفكر الإخواني أبو الحسن الندوي في منتصف الخمسينات سؤالا ً هروبياً هو : ماذا خسر العالم بتوقف المسلمين عن المساهمة في صنع حضارتهم ؟ .. وقد وصف الندوي حضارة الغرب بالهشاشة والضعف والانحراف وتنبأ بسقوطها في نهاية القرن العشرين بسبب عدم مشاركة المسلمين في هذه الحضارة .. وفي منتصف الستينات أطلق مفكر إخواني آخر هو سيد قطب النار على الحضارة الحديثة ووصفها بالجاهلية والكفر داعياً المسلمين الى محاربتها وإسقاطها بالقوة . وما من شك في أن هذه الأفكار الإخوانية أسست ــ بعد اختلاطها بالأفكار الوهابية السلفية ــ لحقبة العنف الجهادي التكفيري التي شهدها العالم العربي و الإسلامي خلال السبعينات والثمانينات والتسعينات والحقت به أضراراً جسيمة !!
كانت اسئلة رواد فكر التنوير في القرن التاسع عشر تدور حول أسباب تقدم الغرب وتخلف العالم العربي والإسلامي ، وتحاول البحث عن الأجوبة في واقع المسلمين المتخلف ، فيما تُلقي مسؤولية تخلف المسلمين على عاتقهم أنفسهم .. امّا الأسئلة التي طرحها الفكر الإخواني ــ الوهابي فقد نزعت الى تبرئة المسلمين من أسباب وعوامل العجز ، وحاولت تقديم صورة مغلوطة عن واقع التخلف الذي يعيشونه مفادها أن العالم الإسلامي لا يعيش إنحطاطا حضارياًً ، بل ان الحضارة الغربية هي المنحطة ، أمّا أسباب انحطاطها وانحلالها فهو عدم مشاركة المسلمين في صنعها .. بمعنى ان هذه الأسئلة تحاول الإيهام بأن الانحطاط لا يوجد في العالم الإسلامي بل في الحضارة الحديثة التي اصبح الغرب معقلها الرئيسي منذ الثورة الصناعية الأولى في القرن السادس عشر الميلادي ، وإن إنقاذ هذه الحضارة من انحطاطها مشروط بمساهمة المسلمين من النقطة التي يوقف عندها ابداعهم الحضاري ، أي بالعودة الى الأجوبة التي كان قد طرحها الفقه السلفي على أسئلة الحياة في تلك الحقبة الغابرة من عصور التاريخ !
ومع تحول الحضارة العالمية نحو العولمة وإنتقال النظام العالمي إلى النظام الكوني تهاوت كافة الآيديولوجيات التي تفترض إمكانية تقسيم العالم إلى عوالم حضارية ومنظومات آيديولوجية متناحرة .. وكما سقطت الآيديولوجيا القومية والآيديولوجيا الاشتراكية في هذا التوقيت ، بدأت الآيديولوجيا الدينية التي صاغها الإسلام السياسي تدخل مرحلة الأفول والانهيار .
صحيح أن العالم العربي والإسلامي تخلف عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى الذي دشنته الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السادس عشر وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة ، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة ، وما ترتب على ذلك من عالمية جديدة ذات طابع عمودي . لكن عصر الثورة الإليكترونية ، بما هو عصر العولمة وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع إلى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني .. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل إليكترونية ومعلوماتية .. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس .وهو ما يعجز عن فهمه اللاعقل السلفي الأصولي لمختلف المذاهب الدينية التي سنحاول التعرف على القواسم المشتركة بينها ، بواسطة تسليط الضوء على جذورها التاريخية ومراحل تطورها ، منذ ظهورها في عصر الاقطاع واقتصاد الخراج ، وصولا الى مأزقها الراهن في عصر الثورة الصناعية الرابعة .