قراءات في مسيرة الوحدة
ذكرى الوحدة اليمنية.. التحديات والإنجازات
بقلم- بشير النابهي
في 22 من مايو 2001م تكون قد مرت إحدى عشرة سنة على توحيد شطري اليمن: الشمالي والجنوبي، بعد أن ظلاّ منفصلين - منذ الاحتلال البريطاني لعَدَن وما جاورها عام 1839م - حتى تم إعلان توحيد الشطرين في 22 مايو 1990م في بلد واحد ألغى الشخصيتين الدوليتين المستقلتين لهما..
لكن اليمن الجديد ظهر للوجود وهو يحمل في أحشائه مصاعب ومشاكل ظلّت تتوالد طوال سنوات الفترة الانتقالية، حتى تُوِّجت بحرب أهلية حسمت الصراع السياسي لمصلحة بقاء الوحدة.

مشروع الوحدة أدهش الجميع

بدأ تنفيذ مشروع الوحدة الاندماجية الفورية بمفاجأة في نوفمبر 1989م، عندما وصل وفد من صنعاء برئاسة الرئيس علي عبد الله صالح للمشاركة في احتفالات ذكرى جلاء الاستعمار البريطاني عن الجنوب اليمني (1967م). لكن الزيارة لم تنتهِ إلا وقد تم التوقيع على اتفاق يقضي بإحالة مشروع دستور يَمَن الوحدة الجديد على برلمان كل شطر، تمهيدًا لإجراء استفتاء شعبي عليه، وهو ما كان يعني قيام وحدة اندماجية فورية لم يكن أحد يتوقعها.

والأشد من ذلك، أن وفد صنعاء تلقى تعليمات بالاستعداد لمغادرة عدن فورًا بعد أن أخفق الجانبان في التوصل إلى رؤية واحدة حول أي من المشاريع المطروحة التي كانت تهدف إلى نزع فتيل التوتر المستمر بين اليمنيين، الذي يؤدي إلى تكرار المواجهات العسكرية الحدودية التي أنتجت حربين أهليتين عامي: 1972 و1979.

ولا أحد حتى الآن يعرف تفاصيل حديث انفرادي جرى بين زعيمي شطري اليمن آنذاك: علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض اللذان كانا يستقلان سيارة في أحد شوارع عدن؛ وانتهى باتفاقهما على تحقيق وحدة اندماجية أدهشت أقرب المقربين إليهما؛ وقلبت الشارع اليمني رأسًا على عقب، وغيرت تحالفات قائمة وأبرزت أخرى؛ كان الجميع يستبعد مجرد التفكير بها، ناهيكم عن أن يروها مجسدة أمامهم في الواقع.

وحدة وسط الأعاصير

لا شك أن ولادة الوحدة اليمنية كانت تحمل مخاوف وهواجس الفشل، وكانت النتيجة المؤلمة للوحدة المصرية - السورية تلقي بظلالها على الأحداث مع اختلاف الظروف هنا وهناك؛ فلم يكن بين اليمنين (الشمالي والجنوبي) ما بين مصر وسوريا من تباعد جغرافي، كما أن الأصول القبلية والعشائرية المشتركة والانتماء إلى الجنسية اليمنية كانت من عوامل الوحدة.

ولكن بالرغم من ذلك، فقد أحاطت بالوحدة اليمنية - منذ بدايتها - أخطار حقيقية؛ كان أهمها وجود سلطتين فعليتين في رداء واحد؛ وكل منهما تملك مقومات الدولة في يديها. وظل هذا الوضع هو الخطر الحقيقي الذي يهدد الوحدة حتى حَسَم الصراع العسكري التنافس بين السلطتين؛ فخرج الاشتراكيون من قمة السلطة بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية (1994) التي مهّدوا لها؛ ولكن النتائج جاءت تعكس ما توقعوه.

تحديات في بداية عهد الوحدة

وفي بداية عهد الوحدة واجهت اليمن الجديد تحديًا خطيرًا تمثل في تداعيات الاحتلال العراقي للكويت، واستقدام القوات الدولية لتحرير الكويت والدفاع عن منابع النفط.. واعتبر المعسكر المعادي للعراق أن الموقف اليمني الرسمي كان منحازًا للعراق، ولا سيما في مجلس الأمن؛ حيث كانت اليمن عضوًا فيه. وأدى ذلك إلى عزلة شديدة أحاطت باليمن الجديد، وزاد من معاناته عودة مئات الآلاف من اليمنيين من السعودية والكويت بعد أن خسروا أعمالهم؛ وأسهم كل ذلك في ظهور أزمة اقتصادية حادة لم تستطع السلطتان المتنافستان حلّها.

كما شهد اليمن في العام الأول للوحدة صراعًا سياسيًّا وفكريًّا بين التيار الإسلامي وأنصاره، وبين الحزب الاشتراكي وأنصاره، حول جملة من القوانين والتوجهات الدستورية التي كانت في الحقيقية مواجهة بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه العلماني الليبرالي. وعلى الرغم من أن المواجهة انتهت رسميًّا لمصلحة العلمانيين الليبراليين بحكم سلطة الحزب الاشتراكي، فإن الإسلاميين كسبوا نفوذًا كبيرًا في الشارع اليمني مكَّنهم فيما بعد من المشاركة في السلطة، وتحقيق إنجاز هام تمثّل في تعديل الدستور اليمني وفق تصوراتهم، ولا سيما فيما يختص باعتماد الشريعة الإسلامية مصدرًا وحيدًا للتشريع.

شقاق بين الحزبين الحاكمين

وبعد عام واحد من قيام الوحدة؛ دبَّ الشقاق بين الحزبين الحاكمين – آنذاك الحزب الاشتراكي اليمني وحزب المؤتمر الشعبي العام – حول عدد من القضايا؛ كان أبرزها اقتراب موعد نهاية الفترة الانتقالية، ومن ثَم إجراء الانتخابات النيابية، وهو أمر كان يعني أن معادلة السلطة التي جرى افتتاحها بين الحزبين وديًّا، سوف تتعرض للتغيير وفق نتائج الانتخابات التي كان من المتوقع أن تمنح الاشتراكيين ما يبرر حصولهم على نصف السلطة.. وقد برز ذلك الشقاق بين الحزبين في صورة قلاقل، وتدهور أمني، واغتيالات، ومحاكمات سياسية أصابت البلاد بحالة من الشلل، ولم يكن هناك من حل إلا اندماج الحزبين في حزب واحد أو الاحتكام إلى صناديق الاقتراع..

وكما فشل حل الاندماج، فقد فشلت الانتخابات التي أجريت عام 1993م في حسم الخلاف؛ بل إنها فجّرت المخاوف والهواجس عند الاشتراكيين عندما بدأ زعيمهم (البيض) في التمترس في عدن عاصمته القديمة؛ وأعلن من هناك رفضه العودة إلى صنعاء والمشاركة في السلطة إلا بعد تحقيق عدد من المطالب يمكن القول بأنها كانت شروطًا جديدة لاستمرار الوحدة.

كانت الانتخابات النيابية قد أبرزت الإسلاميين في التجمع اليميني للإصلاح كقوة شعبية حقيقية حصلت على المركز الثاني في الانتخابات؛ وتوقّع الاشتراكيون أن خصمهم التاريخي سوف يتحالف مع حليفهم المؤتمر الشعبي العام ضدهم؛ وبالتالي فإن نهاية وجودهم في السلطة قد بدأت بعد أن تضاءل وجودهم في البرلمان من 150 عضوًا إلى 56 عضوًا فقط. وكان ذلك بداية ما عُرف بالأزمة السياسية الشهيرة في اليمن التي استمرت قرابة ثمانية أشهر قبل أن تنتهي بحرب السبعين يومًا - التي انهزم فيها الاشتراكيون هزيمة قاسية خسروا فيها كل مقومات الدولة التي كانوا يحتفظون بها.

الأزمة الاقتصادية.. تحدٍّ جديد

أسفرت الحرب الأهلية عن تحطيم التهديد الاشتراكي الذي كان يلوح بالانفصال كل حين.. وبسط اليمن سيطرته على كامل أرضه للمرة الأولى منذ قرون.. لكن المرحلة الجديدة جاءت بمشاكل أخرى تضع تحديات مستمرة أمام الوحدة التي صارت أشبه بالمعجزة في وسط عربي ينحو نحو الشقاق والتفكك والمواجهة. وكان أول هذه التحديات هو مواجهة الأزمة الاقتصادية التي كانت تضغط بقوة على صانع القرار ورجل الشارع على السواء، وتهدد بانفجار اجتماعي خطير..

وتبنّت السلطة الجديدة برنامجًا للإصلاح الاقتصادي اتسم بالقسوة على الفئات الفقيرة ومحدودي الدخل؛ وواجه معارضة قوية – حتى من الإسلاميين – الذين كانوا مشاركين في الائتلاف الحاكم آنذاك (94 – 1997). ولا يزال هذا البرنامج الاقتصادي يثير خلافات واسعة بين الحزب الحاكم والمعارضة؛ ويثير أيضًا مخاوف من ردود فعل شعبية مثلما حدث في يونيو 1998م عندما اندلعت اضطرابات شعبية احتجاجًا على رفع أسعار البترول - وهو أمر يتكرر كلما حدث ذلك.. لكن حكومة الحزب الحاكم لم تكن تَجِد مفرًّا من الإذعان لمطالب صندوق النقد الدولي بإلغاء كل أنواع الدعم وتحرير الأسعار، واعتماد نظام السوق الحر وتخفيف التزامات اليمن تجاه الخدمات الاجتماعية.

وكالعادة في العالم الثالث، تتحدث الحكومة عن إنجازات ضخمة ونتائج مبهرة وتتحدث المعارضة عن فشل هذه السياسات وتضرُّر الشعب منها. والمؤكد أن هذه المواجهة بين الطرفين سوف تستمر طويلاً طالما تقاليد الأمور - بين الحزب الحاكم والمعارضة - لا تسمح له بالتراجع عن سياساته.

حصاد الوحدة

وفي الجانب الإيجابي يبرز نجاح اليمن في حل مشاكلها الحدودية مع جاراتها: سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، ومع إريتريا التي كادت المشاكل معها تؤدي إلى مواجهة عسكرية بعد احتلال إريتريا لجزيرة حنيش اليمنية، التي تمّت استعادتها عبر التحكيم الدولي. وتبدو العلاقات الخارجية لليمن جيدة مع جميع الدول في النطاق الإقليمي والدولي، بعد أن تجاوز الجميع مشاكل أزمة الخليج الثانية والحدود الدولية البرية والبحرية.

الاندماج الداخلي

لا يمكن القول : إن اليمن يعاني من تشققات جهوية ناتجة عن سنوات التشطير، لكن هناك ما يمكن وصفه بأنه محاولات للاستقواء بمثل هذه المفاهيم في حلبة الصراع السياسي الداخلي، فهناك مثلاً جناح في الحزب الاشتراكي اليمني - مع مجموعات سياسية صغيرة - يرفع شعار "إصلاح الوحدة"، وإزالة المظالم السياسية والاقتصادية التي يزعمون أنها لحقت بالمناطق الجنوبية بعد حرب الانفصال - والعودة إلى صيغة ما قبل الحرب؛ حيث كان الاشتراكيون يتقاسمون السلطة في اليمن كله، باعتبار ذلك هو صورة التوازن المطلوب بين الشمال والجنوب.

وهناك أيضًا مجموعات المعارضة في الخارج التي تعتبر نفسها معنية بالجنوب وبإصلاح الوحدة، وإن كانت حظوظها بدأت تتراجع بقوة مع تحسن العلاقات الخارجية لليمن. لكن كل هذا لم يَعُد يشكل خطرًا محسوسًا - سواء أكان في الداخل أو الخارج - وإن كان الأسلوب الذي سيُعالج به البلد مشاكله الداخلية هو الذي سيرسم مستقبل هذا الاتجاه. فكلما كان العلاج إيجابيًّا تلاشت الروح المتمردة وتناقصت الانتقادات.

وأخيرًا، فإن مرور أحد عشر عامًا على توحيد بلدين عربيّين هو تميزٌ في عصر الانكفاء العربي على الذات، وترسيخ خريطة التقسيم، وتكريس الحدود المصطنعة بين الشعوب العربية والإسلامية.
-نشر المقال في اسلام اون لاين
ارسل هذا الخبر اطبع الخبر
حقوق الطبع محفوظة © للمؤتمر الشعبي العام 2004
تصميم الموقع: ديزاين جروب للدعاية والإعلان