قراءات في مسيرة الوحدة
الوحدة الوطنية
بقلم : نزار خضير العبادي
أولا: الميثاق الوطني- وحدة الفكر
واحدة من أهم خصال الرئيس علي عبد الله صالح هي أن قضيته الوطنية الثورية لا يمكن أن تنفصم عن ذاته الإنسانية والفكرية، ويستحيل أن تتعايش في مخيلته بغير صفاتها الكلية ضمن دائرة تكويناتها الزمانية والمكانية، بحيث تصبح مفاجأة أي حدث طارئ ليست إلا حالة ستاتيكية عاجزة عن الاستحواذ على الجهد الوطني كاملا والإخلال بالمعادلة السياسية.
فالرئيس علي عبد الله صالح، وإن ظل يواجه التحديدات الصعبة من حين لاخر من غير توقف، إلا أنه كان يبدو خلالها دائما رجلا لا تحاصره الخطوب، ولا تعجزه الإمكانيات الشحيحة، وله من الإرادة والعزيمة ما يؤهله لصناعة أكثر من موقف في أكثر من مكان وفي آن واحد.. فلا النوائب تفقده صوابه، ولا الانتصارات بقادرة على شحنه بالغرور.. وكأننا به رجل يعيش بأنفاس الجماهير، ويغفو بأحلامها.
- فكرة الميثاق الوطني وصياغته.
مع أن الظرف اليمني في عام 1980م كان معقدا إلى حد كبير، والسلطة في صنعاء تقود معارك دفاعية ضارية أمام هجمات الجبهة الوطنية التي رمت بكل ثقلها في الساحة السياسية والعسكرية لزعزعة نظام الحكم، إلى جانب اضطراب القوى السياسية والاجتماعية الأخرى، والتوترات في العلاقات الخارجية مع دول الجوار، والكثير من المشاكل الاقتصادية والهموم الوطنية.. كان الرئيس صالح يتداول فصول تلك الأزمات بمنظور فكري منهجي عميق، تتشكل تصوراته الفلسفية داخل إطار من الوعي المعرفي الكبير بالمفردات التاريخية والحضارية، والاستيعاب الكامل لأبجديات الواقع وتطوراته السياسية، وفي سبيل الوصول إلى صياغات جديدة وعملية تؤسس هياكل المرحلة القادمة، وتكون نواه حقيقة، لبرامج العمل الوطني لجميع القوى السياسية والاجتماعية في الساحة اليمنية.
إذن أخذت مسيرة بناء الدولة اليمنية تسلك منحى تكامليا متقدما منذ تاريخ يوم 27 مايو 1980م الذي صدر فيه القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980 والذي تعتزم القيادة اليمنية من خلاله صياغة" ميثاق وطني" يوحد القوى اليمنية المختلفة على منهج فكري واضح وثوابت استراتيجية ملزمة، وقد نص القرار المذكور على تشكيل لجنة حوار وطني تتبنى على عاتقها صياغة أفكار الميثاق الوطني. وتتألف هذه اللجنة من (51) واحد وخمسين عضوا بما فيهم رئيس اللجنة ( حسين عبد الله المقدمي).
ويمكن تفسير هذه الخطوة على إنها حصيلة استنباط واقعي ومنطقي لمعطيات الساحة اليمنية والإفرازات الناتئة في مختلف محطات الحركة الثورية والآلام، والإحباطات للرموز الثورية. فقد ظن البعض في مرحلة من مسيرة النظام الجمهوري أن الوطن آيل للانتكاس، وإن الثورة تعيش أيام احتضارها الأخير، ولم يبق منها غير أسمها، وبعض ( القفشات) الدستورية المعطلة، وثمة آلاف من المناضلين القابعين بعيدا عن دوائر الحكم يلوكون الذكريات البطولية، ويأسفون على واقع مرير، تتجاذب أطرافه قوى وطنية ممزقة وصراعات دموية مذهلة, وفوضى سياسية عارمة، وإرادة سياسية مخذولة لم تسعفها تجاربها بنفض عوالق الماضي السحيق والانبعاث بفكر مجدد يحمل هوية الوطن الذي يحيا على أرض كان طبيعيا من الرئيس علي عبد الله صالح أن لا يمتطي جوادا خاسرا جربه الأسبقون، ولا أن ينتظر من ينتزع الرهان على مستقبل الوطن من بين أيدي صناع الثورة السبتمبرية لأن اللبيب أقدر من غيره على تحليل جدلية العلاقات الناشئة في زمن الثورة وقراءة أسرار الانكفاء على حالة التردي، واستلهام دروسه، وبلورة وضع جديد، وعناصر مغايرة جديرة بانتشال الوطن من أزمته الراهنة، ومن هنا يصبح مشروع صياغة الميثاق الوطني مسألة انبعاث تجديد معاصر للكينونة اليمنية فكرا، وإنسانا، ودولة.
وهذا الانبعاث سيكون بمثابة الأداة الفاعلة التي سيرمي عليها الرئيس صالح كل ثقله السياسي وبرنامجه العملي، ورهانا ته المرحلية لمشاريع بناء الدولة اليمنية الحديثة، لأنها ستكون عصا التوازن التي تمسك بها مختلف القوى الوطنية السياسية والاجتماعية، والحكومية أيضا.
وفي الحقيقة أن فكرة صياغة ( ميثاق وطني) كانت قد برزت للوجود للمرة الأولى في أواخر عهد الرئيس عبد الله السلال حين عقد مع رموزه السياسية القيادية اجتماعا في مدينة ( الحديدة) بتاريخ 13/10/1967م. ووقع المجتمعون ( وعددهم 14) بيانا اقترح في البند الثالث منة" الأعداد لوضع ميثاق وطني يحدد الأهداف السياسية للمرحلة القادمة، ويرسم الخطوط الرئيسية التي تلتقي عندها، وتجمع عليها فئات الشعب". لكن انفلات الأوضاع السياسية وتدهورها إلى ابعد الحدود أحال دون ذلك، وقاد إلى الإطاحة بنظام السلال بحركة ( 5 نوفمبر 1967م.
أما في الفترة موضع البحث، فإن فكرة الميثاق الوطني كان لها صداها الكبير ووقعها المؤثر بين أعضاء مجلس الشعب التأسيسي حين عرضها الرئيس صالح لأول مرة، باعتبارها كانت تمثل أقوى خيارات المرحلة في الخروج من الأزمة الوطنية، ومواجهة الاختراقات الفكرية والعقائدية التي زادت المسألة الوطنية اليمنية تعقيدا، وفاقمت أخطارها، وعلى هذا الأساس تم تشكيل لجنة الحوار الوطني برئاسة حين المقدمي وعضوية خمسين آخرين، ويمثلون جميع شرائح المجتمع اليمني علماء.. ومفكرين ومشائخ وعسكريين ومثقفين وغيرهم وفقا لما نصت عليه المادة الأولى من القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980م.
ونصت المادة الثانية على تحديد مهام لجنة الحوار الوطني في تقصي آراء ووجهات المواطنين حول مجمل القضايا الأساسية التي تهم المواطن والوطن، والتعرف على تطلعاتهم وتصوراتهم الفكرية من خلال طرح مشروع الميثاق الوطني.. ونص القرار أيضا على توزيع استمارات استبيان وإبداء الآراء على المواطنين وتلخيص النتائج وتقديم التوصيات والرفع إلى رئيس الجمهورية.
بينما نصت الفقرة (ج/د) من المادة الثالثة للقرار على رفع الصيغة النهائية من الميثاق إلى رئيس الجمهورية ليقوم بدوره بتوجيه الدعوة لعقد المؤتمر الشعبي العام.
وبناء على ما تقدم، عقدت لجنة الحوار الوطني اجتماعها الأول بتاريخ 12/6/1980م. في ( نادي الضباط) بالعاصمة صنعاء، وترأس أعمال الاجتماع رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح، وكان على اللجنة أن تضع وتقر اللائحة الداخلية لها، وتحدد لجانها الفرعية، ثم تقوم بحملاتها الإعلامية في مختلف أرجاء اليمن، إضافة إلى توزيع استمارات الاستبيان ونسخ من مشروع ( الميثاق الوطني) على المواطنين.
وبتاريخ 14/12/1980م عقدت جميع اللجان الفرعية للجنة الحوار الوطني اجتماعا موسعا في ( نادي الضباط) برئاسة رئيس الجمهورية، ثم خلاله جدولة الأعمال وفقا لسقف زمني معلن، وتوعية اللجان الفرعية بمهامها، فكان أن باشرت تلك اللجان حملاتها الإعلامية بدء من يوم 16/12/1980م ولغاية 4/1/1981م وخلال تلك الفترة عقدت اللجان (250) مؤتمرا مصغرا، وزعت خلالها (100.000) مائة ألف نسخة من مشروع الميثاق الوطني، إضافة إلى (200.000) مائتين ألف استمارة استبيان الآراء.
بلغت لجنة الحوار الوطني أهم وأدق أعمالها في يوم الأحد 15/2/1981م. وعقدت اجتماعها برئاسة رئيس الجمهورية، وباشرت اللجنة بأعمال الفرز والصياغة مستهدية بآراء الأغلبية وتصوراتهم ومقترحاتهم إلى أن تم الوصول إلى الصيغة النهائية لمشروع الميثاق الوطني، وفي يوم الأحد 4/10/1981م. استعرضت لجنة الحوار الوطني المشروع ، وتمت المصادقة عليه بالإجماع فردا فردا بطريقة رفع الأيادي.
أهداف الميثاق الوطني.
تبلورت فكرة ( الميثاق الوطني) لدى القيادة اليمنية كمنهج سياسي تحولي ينقل برامج عمل الدولة إلى مسار تفاعلي مع المتغير المرحلي الطارئ من جهة، ومع مبادئ الثورة اليمنية وأهدافها من جهة أخرى وهي الفكرة التي ذهب إليها الرئيس صالح في فاتحة ( الميثاق الوطني) بقوله( لقد كان في طليعة همومي، منذ الأيام الأولى لتحملي أمانة قيادة شعبنا المؤمن الصادق، أن أعثر على صيغة عملية تتفاعل مع مبادئه وقيمه، وأهداف ثورته..).
لكن بالعودة إلى التصورات السياسية التي عرضها الرئيس علي عبد الله صالح في ديباجة قراره الجمهوري رقم ( 5) لسنة 1980، نقف على قراءة فصيحة لأهداف الميثاق الوطني، يمكن تلخيصها بالآتي.
- تعزيز الوحدة الوطنية بفكر وطني يقوم على أساس الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
- ملء الفراغ السياسي بفكر وطني متكامل تتحدد به المناهج السياسية للدولة والقوى الوطنية معا.
- تحصين الشعب اليمني من التيارات الفكرية الداخلية.
- تفعيل مبادئ وأهداف الثورة السبتمبرية وجعلها واقعا ملموسا يعيشه جميع أبناء المجتمع.
- تحقيق التواصل الحضاري بين الموروث التاريخي وضرورات الحاضر وتطلعات المستقبل.
- تحقيق الأمن والاستقرار من خلال توحيد جميع الطاقات في إطار فكري سليم.
- إضفاء شرعية جماهيرية على نظام الحكم وكسب ثقة الجماهير بالدولة وتلاحمها معها.
ومما يجدر ذكره هو أن الميثاق الوطني يرتكز في بلورة رؤاه المستقبلية إلى خمس حقائق هامة يستمدها من فصول التاريخ والتجارب السابقة والمقارنة مع الواقع، والحقائق الخمس هي:
1- الاستقرار والأمن والسلام هي أسس البناء الحضاري، ولا يمكن أن تتهيأ الا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية التي تقود إلى وحدة الأرض والشعب والحكم.
2- أن العقيدة الإسلامية هي ضمير الشعب اليمني الذي لا تزعزعه الأحداث الدامية ويستحيل بدونها الاندفاع للأمام.
3- أن التعصب الأعمى لا يثمر إلا الشر، وإن القوة والدجل والخديعة قد فشلت عبر تاريخ اليمن كله.
4- لا يمكن تحقيق الوحدة والتطور والتقدم بدون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
5- رفض كل أشكال الاستغلال والظلم مهما كانت أصولها ومصدرها.
ثانيا: المؤتمر الشعبي العام- وحدة الأداة.
الرئيس علي عبد الله صالح رجل لايمكن عده ضمن الزعامات التقليدية المقلدة لتجارب الغير، والتي تخشى على نفسها من التقلبات السياسية العصرية، وثقافاتها المتجددة، فهو لا يؤمن بنظرية التماثل السياسي ويعتقد أن لكل بلد خصوصياته التي تملي عليه إعادة تقويم كل ما يقع بين يديه من تجارب الآخرين، ومن ثم تكييف ما يلائم منها على أساس من ظرفه الخاص، وواقعه اليمني المحلي، وطبيعة الجاهزية التي تتشكل بها القوى الوطنية على ساحة العمل السياسي.
لذلك عمل الرئيس صالح على توأمة مشروع الميثاق الوطني بمشروع إقامة المؤتمر الشعبي العام وربط الاثنين بأواصر علاقة جدلية ومصيرية، ترهن مستقبل عمل كل منهما بالطرف الآخر من معادلة البرنامج السياسي الوطني، فالميثاق الوطني لا يمكن أن يبصر النور بغير مصادقة المؤتمر الشعبي العام عليه، حتى لو تمت المصادقة يبقى مجرد فكر تنظيري مدون ما لم يجد الأداة والوسيلة المناسبة التي تنقله إلى واقع عملي معاش، تتمثل فيه عقيدة الجماهير اليمنية وتطلعاتها وإرادتها الوطنية، وهو الفعل الذي سيؤديه المؤتمر الشعبي العام، بوصفة " أسلوب للعمل السياسي يضم ممثلين عن الشعب بمختلف فئاته الوطنية ضمن منهج فكري عام يجسده الميثاق الوطني.
وفقا للتعريف السابق الذي صاغته لجنة التصور للعمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام تتبلور الحقيقية الأخرى من الطرف الثاني للمعادلة، مفصحة عن حجم العلاقة الجدلية بين الميثاق الوطني والمؤتمر الشعبي العام والتي توزن مشروعية كينونة المؤتمر الشعبي العام بمقدار تمثيله لعقيدة وفكر وإرادة الجماهير اليمنية، وبمستوى نجاحه في تحقيق الطموحات وتلبية الحاجات الشعبية التي كان يمثل جميع فئاتها، وشرائحها الاجتماعية، ولا شك أنه بغير ذلك السلوك العملي والتجسيد الحي للمبادئ الميثاقية يفقد مشروعيته ويلغي أسباب وجوده، فلا حاجة للمؤتمر الشعبي العام إذا ما تغيب الميثاق الوطني عن ساحته، ولا ضرورة أو أهمية للميثاق الوطني بدون الوسيلة السياسية التي تنفخ فيه الحياة على أرض الواقع.. ومن الواضح أن تلك الجدلية كانت بمثابة الجسر الذي عبر عليه المؤتمر الشعبي العام إلى الألفية الثالثة، وكلمة سر الرئيس صالح لفتح آفاق الدولة اليمنية الحديثة أمام أبناء الشعب اليمني.
- الإعداد والتحضير للمؤتمر الشعبي العام.
-
انطلاقا من طابع العلاقة الجدلية التي أسسها الرئيس علي عبدالله صالح بين الميثاق الوطني والأداة السياسة المنفذة لبرامجه والمشرفة على تطبيقه وعدم الإخلال بمبادئه، نص القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980م علىأن تعقب مرحلة صياغة مشروع الميثاق الوطني بشكله النهائي والرفع به إلى رئيس الجمهورية مرحلة جديدة يتم توجيه الدعوة فيها لعقد " المؤتمر الشعبي العام"
ولما كانت القوى الوطنية مشتتة التوجيهات، ومتنافرة مع بعضها البعض، وعلى غير هدى أو دراية من أي مناهج سياسية واضحة، عمل الرئيس علي عبد الله صالح على بذل جهود حثيثة وجبارة للالتقاء بممثلي مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وعقد في شهر أغسطس 1980م لقاءات موسعة مع رؤساء القبائل أكد فيها على ( أن يتحمل كل اليمنيين مسئولياتهم في القضاء على التخلف الموروث من عهد الأئمة، ويجب على المشائخ كغيرهم من اليمنيين المساهمة في بناء المجتمع الديمقراطي وتعزيز الوحدة الوطنية.وتكرست تلك اللقاءات الفردية والجماعية للتمهيد للمشروع الوطني العملاق ( المؤتمر الشعبي العام) وتذليل أية صعوبات قد تنجم عن الفهم الخاطئ أو الرؤى الضيقة التي غالبا ما تعرضت لمطباتها التجارب المماثلة، إلا أن الأمر من بعد ذلك اختلف كثيرا، ووجدت أفكار الرئيس صالح أصداء عالية جدا عند تلك القوى التي رأت في مشروع الميثاق الوطني والمؤتمر الشعبي العام مساحة كبيرة من الديمقراطية التي قد تستفيد منها في تفعيل عملها ونشاطها السياسي تحت عباءة المؤتمر الشعبي العام وستكون أيضا الفرصة التي يمكن استثمارها في إخراج بعض برامجها إلى ضوء الشمس، في الوقت الذي سيكسب بها الرئيس صالح شيئا من الاستقرار الداخلي الذي يكفل له التوسع في الأنشطة التنموية والإنمائية للوطن اليمني.
وتأكيدا لذلك التوجه الديمقراطي أصدر الرئيس صالح قانون الانتخابات بالقرار الجمهورية رقم ( 29) لسنة 1980م وذلك بتاريخ 12 أغسطس 1980 وتلا ذلك ببضعة أشهر أصدر رئيس الجمهورية القرار الجمهوري رقم ( 19) لسنة 1981م والذي يقضي بتحديد أعضاء المؤتمر الشعبي العام الذين سيضطلعون بمهمة إقرار مشروع " الميثاق الوطني" من (1000) ألف شخص، منهم ( 700) سبعمائة شخصا يتم انتخابهم من قبل المواطنين من جميع أنحاء الجمهورية، بحسب دوائرهم الانتخابية التي تم توزيعها بناء على نتائج التعداد السكاني بالجمهورية العربية اليمنية والمعلنة بالقرار الجمهوري رقم ( 16) لسنة 1981م. أما الباقي فهناك ( 300) ثلاثمائة عضوا يتم تعيينهم بقرار جمهوري.
وبتاريخ 19/ 10/ 1981م. أي بعد أسبوعين بالضبط من مصادقة لجنة الحوار الوطني على مشروع( الميثاق الوطني) أصدر رئيس الجمهورية القرار رقم (128) لسنة 1981م والذي يكلف بموجبه اللجنة العليا الإشراف على انتخاب ممثلي المواطنين في المؤتمر الشعبي العام في جميع أنحاء الجمهورية.ثم صدر القرار الجمهوري رقم (53) لسنة 1982م.حدد فيه رئيس الجمهورية أسماء (300) عضوا من أعضاء المؤتمر الشعبي العام وفقا لما أقره القرار الجمهوري رقم (19) لسنة 1981م كذلك وجه الرئيس علي عبد الله صالح رسالة إلى رئيس وأعضاء لجنة الحوار الوطني يكلفهم بها الإعداد والتحضير لعقد المؤتمر الشعبي العام وكانت مؤرخة في 13/3/1982م . وبناء على ذلك باشرت اللجنة أعمالها اعتبارا من 11/4/1982م وأخذت تعد اللائحة المنظمة لأعمال وجلسات المؤتمر. وبعد أن أتمت مهمتها اطلعت رئيس الجمهورية على ما أنجزته، والدور الذي بادر إلى إصدار القرار الجمهوري رقم (54) لسنة 1982م. داعيا فيه المؤتمر الشعبي العام للانعقاد ابتداء من يوم الثلاثاء 24 أغسطس 1982م وحدده بمهمتين رئيسيتين، الأولى إقرار الميثاق الوطني، والثانية تحديد أسلوب العمل السياسي لتطبيق الميثاق الوطني في المرحلة القادمة التي تعقب المؤتمر الشعبي العام الأول.
- انعقاد المؤتمر الشعبي العام الأول.
تلبية لدعوة رئيس الجمهورية، أنعقد المؤتمر الشعبي العام الأول في الفترة (24-29 أغسطس 1982م) في العاصمة صنعاء، تحت شعار: ( من أجل ميثاق وطني يجسد عقيدة الشعب وأهداف الثورة) وخلال جلسات المؤتمر أقر جميع أعضاءه الصيغة النهائية لمشروع الميثاق الوطني وتم اعتباره المنهج الفكري للعمل الوطني في شتي المجالات في ظل النظام الديمقراطي الشامل.
ومن جهة أخرى، تقدمت لجنة التصور للعمل السياسي في جلسة يوم 26/8/1982م بمقترحين: الأول يدعو إلى ضرورة استمرارية المؤتمر الشعبي العام كأسلوب للعمل السياسي، مبررة ذلك بأن استمراريته ستساعد على تعميق الوعي بالميثاق الوطني، وتمكين المواطنين من ممارسة العمل السياسي والتفاعل مع البرامج التنموية للدولة، إضافة إلى ترسيخ القيم الأخلاقية في سلوك الفرد والمجتمع وفقا لمبادئ الميثاق الوطني، وتقييم تجربة العمل السياسي وتأهيل القوى الوطنية لممارسة أفضل الأساليب الديمقراطية.
أما الاقتراح الآخر، فهو أن تنبثق عن المؤتمر الشعبي العام ( لجنة دائمة) مؤلفة من ( 75) عضوا، ويتم تشكيلها على نفس منوال تشكيل المؤتمر، بهدف أن تكون مسئولة عن قيادة وتوجيه أعمال وسياسة المؤتمر الشعبي العام، وعن تطبيق الميثاق الوطني، ورعاية العمل السياسي وحمايته من الانحراف، وتم إقرار تلك المقترحات، ثم فتح باب الترشيح فور انتهاء جلسة يوم 27/8/1982م. وفي يوم 29/8/1982م. ثم الانتهاء من أعمال الفرز لانتخاب ( 50) عضوا للجنة الدائمة. أما ما تبقى من العدد وهو ( 25) شخصا فقد صدر بهم القرار الجمهوري رقم (62) لسنة 1982م بتاريخ 13/8/1982م. كذلك أقر أعضاء المؤتمر النظام الأساسي للمؤتمر الشعبي العام، وخلصوا أخيرا إلى اعتبار المؤتمر الشعبي العام بمثابة التنظيم السياسي الوحيد في الجمهورية العربية اليمنية الذي تمارس داخل أطره مختلف القوى السياسية الوطنية نشاطها.
وبتحقيق ذلك يكون الرئيس علي عبد الله صالح قد نجح فعلا في رص الصفوف الجماهيرية وقواها السياسية في بوتقة واحدة، لا خلاف على فكرها، أو برامجها العملية، أو وسائلها التي تترجم الإرادة الشعبية والغايات الثورية للوطن اليمني، حيث أن "الميثاق الوطني" جسد في أبوابه الخمس المبادئ العامة التي حددت الخطوط الأساسية لحركة المجتمع ووجهت مسار الدولة اليمنية صوب مرحلة واضحة ومثمرة.
ثالثا: مطالعة في أوراق الوحدة الوطنية.
ارتبط ترجيح الرئيس علي عبد الله صالح لأولويات الرص الوحدوي للصفوف الوطنية بالجانب التاريخي من شخصيته والذي تشكلت على أفقه المقروء مفردات ثقافته السياسية فانطلاقه من أرضية الاستيعاب العميق لحقائق التجارب التاريخية السابقة أفضى به إلى تقديم خيار الدعامة الجماهيرية للحكم على كل الفرضيات العلاجية الأخرى، وهو أمر مستوحى من عدة تجارب سابقة أودت بأرواح أربابها بعد أن استفحلت الأزمة الوطنية وبلغت ذروتها دون إدراك.
أهمية الوحدة الوطنية في تقرير مصير العمل السياسي وأنظمة الحكم إلا بعد فوات الأوان، ومن تلك التجارب:
1- دعوة القاضي محمد محمود الزبيري إلى تأليف مؤتمر شعبي في الفترة 2-5/5/1965م/ خلال" مؤتمر السلام" فكان أن استشهد بعد ذلك ببضعة أيام فقط.
2- إصدار الرئيس السلال و( 13) رمزا قياديا في نظامه بيانا يدعو لوضع ( ميثاق وطني) بتاريخ 31/10/ 1967م فكانت النتيجة أن أطيح بحكمه بانقلاب بعد أربعة أيام فقط من البيان.
3- الرئيس الحمدي بدأ في منتصف عام 1977م الإعداد والتحضير لعقد ( مؤتمر شعبي) لكنه اغتيل بعد ثلاثة أشهر.
4- أما الرئيس القاضي الإرياني والرئيس الغشمي فإن ضياع الوحدة الوطنية كان سببا رئيسيا وراء ضياعهما أيضا. وطبقا لذلك نجد أن السلطة ظلت تهمش ثقل القوى الوطنية، حتى إذا تدهورت أوضاعها راحت تسترضيها وتحاول الاحتماء خلف ظهورها ولكن بعد أن تكون قد استقوت واستشرى نفوذها ولم يعد بالإمكان احتواء نقمتها ومداواة الآلام التي كابدتها على يد السلطة من إقصاء وزج بالسجون والتصفيات والإهانات وغيرها. ومن جهة أخرى فإن المشاريع الثلاثة الآنفة الذكر قدمت رؤى ناقصة لتوليفة الوحدة الوطنية، فاثنين منها اقترحت مؤتمرا شعبيا يجمع القوى الوطنية ولم تشر قط إلى طبيعية الأفكار والعقائد التي يمكن أن تلتقي داخل أطرها تلك الحشود ، بينما بدت مبادرة الرئيس السلال أقرب إلى مناورة يائسة وغريبة لم تأخذها أية جهة على محمل الجد.
أما الرئيس علي عبد الله صالح فقد مر على تلك الفترات العصيبة ووقف على أخطائها أو مواضع إخفاقها، ولم يكتف بتحاشي تكرارها، بل ذهب إلى صياغة البدائل، ورسم معادلات توازن جديدة وذات خصوصية يمنية تسير بمحاذاة الواقع اليمني دون أن تتجاوزه إلى أي مستوى كان من المثاليات الفكرية والقوالب السياسية الجاهزة.
الرئيس علي عبد الله صالح لم ينتظر حتى يبلغ التشتت الوطني أقصى مداه فيستنجد بالجماهير، ويرمي الشباك للقوى الوطنية باسم مؤتمر شعبي أو ميثاق وطني.. بل على العكس من ذلك فقد جاء القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1980م عقب عدة خطوات سابقة عززت الثقة بنوايا الرئيس صالح وجديته في تطوير مناهج حكم الدولة حتى لدى أشد المناوئين له. فمثلاً كان هناك تأسيس لمجلس شورى، وانتخابات مجالس بلدية، وتوسيع في أعداد واختصاصات مجلس الشعب، وإصدار قانون انتخابات وغيرها.
علاوة على ذلك لم يكن القرار أحادي الأسس، بل شمل الفكر والأداة معاً في نفس القرار، وذلك الأمر أعطى الموضوع فهماً أوسع وأوضح، وجعله أكثر تقبلاً في الوسط الجماهيري. خاصة وأنه يؤسس بدايات عهد سياسي جديد، وليس نهاياته المحتضرة.
اعتمد الرئيس علي عبد الله صالح في شق الطريق إلى الوحدة الوطنية لغة الحوار السلمي والتشاور وكان في مقدمة الأسباب التي أوصلت الرئيس صالح إلى مكسب الوحدة الوطنية هو التمهيد المسبق للعمل، حيث أنه حرص على الالتقاء مع قيادات القوى الوطنية السياسية والاجتماعية، والتشاور معهم فيما كان يعزم الإقدام عليه، والأخذ بالآراء والمقترحات الجيدة التي عرضوها عليه.
بجانب ذلك فإنه حرص أيضاً على عدم تجاهل أو تهميش أية قوى وطنية ذات أثر في ساحة العمل السياسي، مهما كان موقفها من نظام الحكم، لدرجة أن الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كانت تقود حرب العصابات على الحدود بين الشطرين وتهاجم القرى والمدن الخاضعة لنفوذ الشطر الشمالي، حصلت على فرصة عادلة من الحوار والمشاركة في لجنة الحوار الوطني التي اضطلعت بمهمة صياغة مشروع الميثاق الوطني، أسوة بغيرها من التيارات العاملة في الساحة اليمنية.
أما العنصر الآخر في تركيب المعادلة السياسية بين القوى الوطنية فقد تمثل في نسبة 30% الثلاثون بالمائة التي خص بها القرار الجمهوري رقم (9) لسنة 1981م رئاسة الجمهورية لتتولى تعيينهم، فيمكن تقييمها على إنها التفاتة ذكية من صناع القرار السياسي اليمني، كانت ترمي إلى موازنة المشاركة السياسية برموز فعالة ومؤثرة وفسح المجال أمام بعض العناصر السياسية التي كانت مستبعدة في العهود السابقة للمشاركة، وهو أمر أسهم في حل بعض الخلافات السياسية، وتخفيف شحنة التوتر بين القوى الوطنية، وظهور إمارات الارتياح والرضا إلى حد ما من الجهود التي كان يبذلها الرئيس علي عبد الله صالح لتوحيد صفوف الوطن.. ولعل من أبرز صور ذلك الارتياح والرضا تجسد في سرايا المقاومة الشعبية (الجيش الشعبي) التي تشكلت في القرى والمدن اليمنية المختلفة لإسناد الوحدات العسكرية الحكومية في الحرب التي كانت تخوضها لمواجهة العصابات التخريبية الماركسية. وذهب بعض الكتاب والباحثين إلى عزو نصف النصر الذي بدأ يتحقق منذ منتصف عام 1981م وحتى يوم (15 أغسطس 1982م) الذي توقفت فيه العمليات القتالية- إلى تضاعف الالتفاف الشعبي الجماهيري من مختلف القوى الوطنية حول قيادة الرئيس علي عبد الله صالح.
بالرغم من كون تأسيس المؤتمر الشعبي العام جاء في إطار ملء الفراغ السياسي في ظل دستور دائم تحرم المادة (37) منه العمل الحزبي، إلا أن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الميثاق الوطني الموصوف بالأساس الفكري للمؤتمر الشعبي العام قد أكتسب شرعيته الجماهيرية الوطنية من خلال صياغته على يد جميع القوى السياسية التي كانت قائمة آنذاك بما فيها القوى المعارض للسلطة مثل (الجبهة الوطنية الديمقراطية) و (الناصريين الذين حاولوا بالأمس القريب الإطاحة بنظام حكم الرئيس صالح) وغيرهم. ومن ناحية ثانية، فإن المؤتمر الشعبي العام مثل وجها حقيقيا للائتلاف الشعبي العام كونه ضم بين صفوفه مختلف التيارات السياسية والقوى الوطنية التي كانت متواجدة على الساحة في زمن انبثاقه.. وعليه يصبح كل ما تحقق أول الغايات الوطنية والأهداف الثورية التي ينجزها الرئيس علي عبد الله صالح.. ولكن بشق الأنفس.
أن الأهمية التي يعطيها الرئيس صالح لهذه الخطوة تأتي من كونها قاعدة ارتكاز عوامل استقرار البلاد، وأمنها الوطني وهي العوامل التي لا بد منها في أية صناعة حضارية وبناء تنموي سريع. وذلك الفهم مستوحى من تجربة تاريخية عريقة لم يخف الرئيس انبهاره بدروسها، فيقول: (إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلا في ظل الاستقرار والأمن والسلام، ولم يتحقق له ذلك إلا في ظل الأرض والشعب والحكم، ولم تتحقق له الوحدة إلا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية).
مما تقدم ذكره تتجلى أمامنا صورة الرئيس علي عبد الله صالح بملامحها الفذة، وبريقها الوطني الصادق، ومهاراتها الخلاقة، وإنسانيتها الدفاقة التي لا يمكن لأبناء الأمة إعطاؤها حق قدرها حتى يعرفوا أنه الزعيم العربي الوحيد الذي يقطع مسيرة ربع قرن في الحكم بلا معتقلات سياسية، أو مطاردة أمنية واحدة لمعارض ينتقد نظامه علناً.. لا شك إن أقصر الطرق للوصول إلى شخصية الرئيس علي عبد الله صالح هي بالوقوف على ناصية أقرب "كشك" لبيع الصحف في أي بقعة من اليمن.
إن أهم أوراق الوحدة الوطنية هي تلك التي حددت داء الوطن اليمني، وفسرت لغز الانحدار السياسي والانهيار التنموي، والشتات الثوري، ثم مضت تنسج فكر الجماهير، وتنتشل الفرد من زمن الاغتراب، وتراهن على كونه أداتها الوحيدة في التغيير وقياد التحولات الاستراتيجية.
الورقة التي نحن بصددها كتبها الرئيس علي عبد الله صالح، وعلى ضوء أفكارها ولد مشروع الميثاق الوطني، وولد المؤتمر الشعبي العام، وأصبحت معيار تقييمنا لأهمية ما أنجزه الرئيس صالح.. وسأقتطف نصوص متفرقة من أحاديثه في هذا المضمار:
- (بدأ شعبنا يعاني من آلام جديدة ومستجلبة غير تلك الآلام التي دفنها وتحرر منها وإلى الأبد، آلام ارتبطت بالتيارات السياسية والفكرية الدخيلة التي ظل يسيل لعابها لهثاً لاحتواء مسيرة الثورة واستلاب الإرادة اليمنية وامتلاكها نتيجة الفراغ السياسي المتفاقم الذي أثمر الصراعات الثانوية، وهو ما مثل تهديداً خطيراً للثورة ولوحدة الشعب الوطنية ولطموحاته في تسيير أموره..).
- (في الوقت الذي لم يتم القضاء على ك لتلك التيارات الدخيلة بمجرد الإعلان عن تحريمها لكنها كانت تعشش وتستشري في الخفاء وتحت رماد السرية، وهو الأمر الذي جعلنا جميعاً وكل الغيورين على الثورة والوحدة الوطنية على اقتناع تام بضرورة التحصين الفكري الكامل للثورة ومسيرتها وأنه لا بد في مواجهة التيارات الفكرية الغازية والمتسربة من فكر وطني يمني يواجهها، ويكون فعلاً المتراس الذي يتصدى لها، في الوقت الذي يكون المرشد والهادي لمسيرة الثورة..).
- (إذا كان سوء معظم الأقطار العربية قادماً من خارجها في شكل انتداب أو تسلط أجنبي مباشر، فإن داء اليمن متمثل في انقسامها إلى شعب مظلوم في جانب ونظام إمامي متخلف في جانب آخر..).
- (إننا على يقين من أن شعبنا قادر على أن يمارس حقه في الديمقراطية على أكمل وجه..).
ارسل هذا الخبر اطبع الخبر
حقوق الطبع محفوظة © للمؤتمر الشعبي العام 2004
تصميم الموقع: ديزاين جروب للدعاية والإعلان