الخروج من اللحظة الراهنة !!! اتصل بي عدد كبير من أصدقائي الذين يتابعون ما أكتب، وما أقول في الندوات والإذاعات، وعلى شاشات الفضائيات, طالبين مني أن أتحدث عن الفروق بين مقاييس اللحظة الراهنة ومقاييس الأفق الأبعد، وخاصة في صراعنا المحتدم مع الإحتلال الإسرائيلي للحصول على الحد الأدنى من حقوقنا كما أقرتها الشرعية الدولية! والحقيقة المؤكدة، أن الموضوع على درجة عالية من الأهمية، لأن اللحظة الراهنة سواءً كانت كسباً أو خسراناً، ضعفاً أو قوة، ظلماً أو عدلاً، خذلاناً أو إنصافاً، مطلوب أن نعيشها بكل نبضها وإيقاعاتها، وهمومها وأحزانها وإحباطاتها، ولكن دون أن تستغرقنا كلية، ودون أن نقع بلا حراك في أعماقها المظلمة، ودون أن تتكسر في أرواحنا أجنحة المحاولة المستمرة, إذ لو كان الأمر كذل, لظل الأقوى هو الأقوى دائماً، ولظل الضعيف هو الضعيف دائماً، وكانت الحضارات قد انطفأت بإنطفاء إحداها، ولكن هذا لا يحدث بطبيعة الحال، لأن التاريخ في حراك مستمر، ولان بحيرة الحياة ليست راكدة، بل في تفاعل مستمر، ولأن تلك الأيام نداولها بين الناس! ونظرة إلى صراعنا مع المشروع الصهيوني ، فلقد كان هناك من تستغرقهم وتستولي عليهم وتصادرهم إلى الأبد مقاييس اللحظة الراهنة، فيستسلمون دون حتى أن يرفعوا راياتهم البيضاء، ويغادرون مقاعد المشاركة دون حتى أن يلامسوا جدار الهزيمة، بل تهزمهم المقاييس العاجزة، وأغنيات اليأس، وترف التشاؤم، فيموتون سياسياً ونضالياً وتفاعلياً حتى قبل أن يجن آوان الموت! الإسرائيليون على إمتداد أكثر من نصف قرن، حاولوا المستحيل لبلوغه، وطلبوا منا اعتناق نظرية المستحيل في حقوقنا الممكنة، الإسرائيليون على امتداد سبع وخمسين سنة، طلبوا منا النسيان, وحاولوا معنا النكران، قالوا عن أنفسهم أنهم قادرون على أن يكونوا جزءاً، من حاضر هذه المنطقة ومستقبلها، وقالوا لنا أن حق العودة هو مطلب مستحيل ورؤية غير موضوعية, وهدف عبثي وعدالة شاذة! وكثيراً من الذين سقطوا في مقاييس اللحظة الراهنة، قالوا نعم لكل ذلك، قالوا نعم بالمجان، لإسرائيل جزء عضوي في المنطقة، وقائد مهيمن فيها, وقالوا نعم للشتات الفلسطيني، والإندياح الفلسطيني إلى ما وراء خطوط الذاكرة, وإلى ما وراء أبواب الحضور. فهل صمدت مقاييس اللحظة الراهنة ؟؟؟ لا لم تصمد، فأشجار النسيان لا تستطيع أن تعيش في أرض الذاكرة الفلسطينية ووسائد الأمان والسلام والطمأنينة لا يستطيع أن يغفوا فوقها أحد في نتوءات الزمن الإسرائيلي. ثمة شيء خطأ، وفظيع، ولا يمكن ابتلاعه في كل ما يجري، وإذا أردتم استبطان السر، فاسألوا السجين الفلسطيني الذي لملم أشياءه الصغيرة استعداداً للعودة إلى أهله، وإذ بسلطان الخوف الإسرائيلي يمنعه من الخروج! واسألوا ظلال أشجار الزيتون التي تتمدد مع شمس آخر النهار، فيحسبها الإسرائيليون دوريات متحركة، فيقتلعونها حتى لا تتحرك ظلالها! وأسألوا سلفان شالوم كيف يهددنا في أول اليوم بأننا غير ديمقراطيين ولا نجري إنتخابات ثم يهددنا في نهاية اليوم بأننا ديمقراطيون أكثر من اللازم، ديمقراطيون حتى الخوف!!!، وأسألوا عن قرارات الإغلاق والحصار التي يصدرها الإسرائيليون بحقنا مرة لمناسبة الأعياد ومرة لمناسبة الحداد، عجيبة هذه اللحظة الإسرائيلية الراهنة، كم هي سطحية وعابرة، ومحفوفة بعوامل الضد، ومسكونة بإحتمالات أبعد منها لألف سنة مقبلة! قبل يومين، رأيت الفلسطينيين في الجليل يزورون أنقاض بيوتهم في قراهم المهدومة، ويتفقدون أشجار اللوز والرمان التي زرعها آباؤهم الأولين، ويقرأون العلامات الخفية على وجوه الحجارة التي سيجوا بها كرومهم القديمة، آه..يا إلهي، ما أصغر اللحظة الراهنة رغم ما تحتويه من إختلالات مؤلمة، وما أوسع الأفق الذي نحن إليه ذاهبون. |