المؤتمر نت - الناقد هشام شمسان
بقلم-هشام سعيد شمسان -
العمود الشعري : بين (السيمترية)والتحديث
شعر العروض ، قصيدة البحر ، الشعر العمودي ، القصيدة البيتية : هذه كلها مسميات لشكل واحد ،
أو لقالب واحد من القوالب الشعرية ، وهو ذلك الشكل الذي يعتمد على وحدات وزنية متكافئة ( عدداً ) في الصدر ، والعجز وله قافية موحدة ، ذات روي واحد . وعناصر من نحو :" الوزن ، القافية ، الشطر ، العجز ) .هي مكونات أساسية لهذا القالب الشعري ( ) الذي إذاما أمعنا فيه وجدناه قالباً رباعياً . وبوصفنا له قالباً نكون قد حددنا معياراًبصرياً يقربه من معنى الوعاء الذي نستطيع أن نضع بداخله مانشاء من موضوعات : رثاء ، فخر ، غزل ، مديح ، وعظ … الخ ، وقد ظل هذا الشكل الشعري لدى العربي هو السائد لما يقارب الألف ، والأربعمائة عام ؛ إذْ في فترة (ما)بدأ الشاعر العربي يضيق بهذا القالب بحجة أنه لم يعد يحقق مطالبه الآنية ، أو لأن الإنسان – بطبعه – ينقب دوماً عن الاستقلالية ، بأن تكون له بصمته الخاصة ، واستقلاليته ، وابتكاره ، بحيث لايخضع – كلياً – إلى سلطة ، أو قوانين الأقدمين ، واستطاع في وقت (ما) أن يحدث تمرداً على القالب ( الأب ) بإحداث بعض التغييرات عليه ، ونتج عن ذلك التعديل قالباً (ابناً) للأب (العمود) فكانت قصيدة " التفعيلة " أو " الشعر المنطلق ".( ) بتخلص الشاعر من نظام البحر البيتي إلى نظام تفعيلة العروض فتخلص – بالتالي – من كثير من الرتابة الحادة للقصيدة الأب ، ومن كثير من " السيمترية "، والصرامة التي تميز بها العمود الشعري الأب . لكن – بالرغم من ذلك – فقد ظل ثمة شعراء – وإلى الآن – متمسكون بالنظام القديم للقصيدة، ووجد البعض أنفسهم يكتب في كلا النظامين ، وإلى يومنا – هذا - . وقد أردت من خلال التقديم السالف أن أثير سؤالين متلازمين ؛ لغرض مناقشتهما ، والتوصل إلى أسباب بعينها تبرّر إجابة كل سؤال منهما :
- فأولاهما : لماذا نرفض العمود الشعري؟
- وثانيهما : متى يجب أن نتقبل العمود الشعري ؟
وحتى نجيب على التساؤل الأول كان لابد من حصر بعض الأبعاد الموضوعية ، والنفسية ، والبصرية ، والبصرية النفسية ، لسردها – معاً – مجتمعة ، وعلى ضوئها نصل إلى عناصر التقاء تدليلية .
v الأبعاد الموضوعية :
- وأولاها : أن شعر العمود ، وبسبب من وحدة الوزن ، والقافية ؛ كل قصيدة منه تحيلنا إلى أكثر من قصيدة ذات البحور المتحدة الوزن ، فتتحد الإيقاعات بسبب من ذلك ، لاسيما إذا تحدت القوافي .ونحن – مثلا – إذا ما اقتطفنا أبياتا من قصائد مختلفة متحدة الوزن ، قدلا نفرق بينها ، ولانشك أنها لأكثر من شاعر. ولنأخذ مثلا على ذلك الأبيات الأتية :
-" إذاالشعب يوماً أرادالحياة فلابـدأن يستجيب القــدرْ"
-"ولابـد لليـل أن ينجلي و لابـد للقيـد أن ينكسر "
-"فياشوكة في حلوق الذئاب منعتهمو أن يسيغوا الشـراب"
-"وأن يضعوا لقمة تحت ناب وأن يكسبواالقوت في أي غاب"
ولولا إدراكنا أن البيتين الأولين هما للشابي ، والأخيرين هما للزبيري لقلنا أنها لشاعر واحد ؛ للإيقاع الواحد . فما بالك إذا اتحدت القوافي – مثلاً – ؛ ذلك أن الأصل لتنوع النغم هو أن تتشتت التفاعيل ، لا أن تتحد .
وثانيهما : أن القالب العمودي يتميز بالحدة الموسيقية ، والسيمترية الشديدة ، المتولدة من هذا النظام القالبي ، وهذه الحدة الموسيقية تطغى أحيانا على الصوت ، أو الإيقاع النفسي نحو قول الزبيري :

"سجل مكانك في التاريخ ياقلم فهاهنا تبعث الأجـيال والأمـم"
" هنا البراكين هبت من مواضعها تطغى وتكتسح الطاغي ، وتلتهم "
فنحو هذه الجلجلة الموسيقية ، وحدة الجرس الموسيقي ، وعلوه تطغى على الصوت النفسي ، والانفعال ، وإن كان الانفعال هنا : انفعال حماسة ؛ إلا أن الجرس الموسيقي " كان هو الأعلى صوتاً ، وليس الشعر هو الموسيقى ، وحسب .
وثالثها : أن الشكل القديم يحتاج إلى التكلف في كثير من الأحيان؛ لذلك تجد فيه كثيراً من الحشو الذي يحاول به الشاعر أن يسد أجزاء الوزن ؛ لتكتمل الوحدة الوزنية ، وتتكافأ إلى جانب التكلف الذي قد يظهر على مستوى اختيار القافية ، بوضع قوافٍ قد لاتتناسب مع وحدة المعنى أو دقته ، ومن أمثلة الحشو قول الشاعر
……………. " يامن شجاها وأجرى دمعها القدر "( )
إن ملفوظ : أجرى دمعها ، تركيب حشوي لايفيد بُعداً جماليا جديدا، كما لايفيد بعداً ذا معنى إضافي إلى " الشجو " ذلك أن " شجاها" مُرسلة لغوية تحمل في طيها معاني الحزن ،والهم اللذان بدورهما تابعا ن لمفهوم " البكاء " من خلال تعبير جريان الدموع ، بما يعني عدم الاستفادة من هذا التعبير الذي لايثير شيئاً لدى القارئ ؛ لأن لفظ " الشجو " كان قد أوصل المعنى قبل تقريره حشواً .
ومن أمثلة القافية المتكلفة قول الشاعر :
" رأيت وجه علي المنجزات به كأنما هو قرص الشمس في الأفق "( )
فلفظ في الأفق " من الألفاظ " الحشوية " التي لاتعطي أبعاداً جديدة للمعنى ، لأن الشاعر أعطى من خلاله معلومة يعرفها الطفل والكبير ، العاقل ، والأحمق ، أو ليست الشمس موقعها الأفق ، وقرصها (كذلك) أين يرى ، أوليس في الأفق أيها الشاعر ؟ حتى وإن اختلف موقع الأفق (لغوياً ) ، فالمعنى خالٍ من أبعاده الشعرية .
v الأبعاد النفسية :
من الأبعاد النفسية أن الشعر العمودي ارتبط بأذهاننا من خلال مواضيع بعينها نحو : الغزل ، الرثاء ، المديح ، الفخر … الخ . وبما أن هذه المواضيع - في العصر الحديث – لاتمثل حقيقة الشعر برمته ، فقد أدى نحو هذا الارتباط إلى نفور منه ، ومن الأبعاد الأخرى : ارتباطه – أي القالب العمودي – وثيقاً بالمعاني المكشوفة ، والتي تنحو إلى التقريرية غالباً ، وإلى التراكيب ، والأخيلة الفنية البسيطة الفهم. وبسبب من هذا الارتباط النفسي ، والموضوعي – معاً – فقد بدأ الشاعر يزيح العمود لاعتقاده أنه لايستطيع حمل الأعباء اللغوية الجديدة .
v أبعاد بصرية نفسية :
من الأبعاد التي ترتبط شديداً بالرؤية " الكاليغرافية " والتي تنعكس بدورها على النفسية القارئة ، أو الشاعرة : أن الشكل يمثل وعاء للمضمون ، ومهما كان المضمون جميلاً ؛ فلا يمكن صبه في إناء قديم مع وجود قوالب جديدة فمثلاً أن تكتب قصيدة على رقعة من جلد يختلف بُعدياً ، وجماليا عن كتابتها في ورق حديث مصقول ومزركش ، فمن الأبعاد البصرية التي يقوم عليها العمود : ( التوازي ) – شطر ، عجز - وهذا التوازي أضحى رتيباً لكثرة مشاهدته ؛ لذلك فإن بيتاً عمودياً نحو قول الشاعر :
"شف قلبي فكأني لم أعد مثلما قد كنت من طين وماء" ( )
يبتاً نحو هذا سوف نتخلص من كثير رتابته البصرية إذا وزعناه هكذا:
"شف قلبي
فكأني لم أعد
مثلما قد كنت
من طين
وماء".
………………..
وإذا كنا قد قررنا بان الشكل العمودي مجرد قالب يضع فيه الشاعر مايشاء من الموضوعات ، والمعاني ، إلا أن ثمة جوانب وأبعادا موضوعية، ونفسية ، وبصرية ؛ قد تحول دون انتفاضه وثورته ؛ وجعله قابلا للحراك ، والحياة في وسط جديد ، ومعاصر ؛ مما يستدعي إزالة نحو هذه العوائق ؛ لاسيما تلك التي تبدو نفسية مع وضع مؤسسات محددة وضوابط بعينها لاحتواء بعض العوامل الموضوعية التي قد تؤثر على العامل التجديدي ؛ لتضيء الطريق أمامه. ولعلي – هنا – وفي هذا المقام أقدم بعض الاقتراحات لأولئك الذين يكتبون العمود بلا جدوى من هذا العمل ؛ ماداموا سائرين في حلقة الأوائل وفي سننهم الشعرية حذاء بحذاء .. وأهم هذه الاقتراحات :
 عدم اتخاذ الشعراء للعمود قالباً للتقليد المحض . كأن يستلهم الشاعر الحديث معاني القدماء ، أو صورهم ، أو أساليبهم ، أو يعارض بعض قصائد الأقدمين . بحيث لايأتي شاعر بعد ألف وأربعمائة عام ؛ ليقول :
- أخصلة طارت على خدها أم ظبية من سربها تشرد ( )
فتصوير المحبوبة بالظبية ( ) تصوير من يحيا في بيئة صحراوية، ولايتناسب مع شاعر يحيا في الألفية الثالثة للميلاد، وفي مجتمع مدني لايعرف الظباء ، ولا يراها إلا في ( المرناة ) – التلفزيون - . ناهيك عن ابتذالية نحو هذه الصورة المستهلكة والتي عفا عليها الزمن .
 البعد عن التقريرية الصفيقة ، والتراكيب العادية أو الابتذالية. والتركيز فقط على دور اللغة وغناها .
 توظيف العمود في قضايا ذاتية وتأويلية حديثة ؛ تلعب فيه اللغة واللون النفسي دوراً بنائياً وأساسياً .
 ضرورة كسر الصرامة الوزنية ، والموسيقية ؛ من خلال إدخال بعض التشكيلات الوزنية الفرعية التي يرفضها القدماء؛ نحو أن يبدأ الشاعر بتفعيله فعْلن /5/5 في بحر (المتدارك مثلا) أو يلغي التفعيلة الأساسية للبحر ويكتفي بأفرعها. وهذا من شأنه أن يخفف من الحدة الموسيقية . وبمعنى آخر : لماذا لانجيز في العمود مانجيزه في شعر التفعيلة على مستوى الوزن ؟ .
 عدم التكلف في الوزن حتى يكون الإيقاع النفسي ظاهراً ومنسجما مع العروض ؛ فلا يطغى واحد منهما على الآخر .
وحتى أثبت إمكانية القبول بالعمود في حال التزامه بشروط محددة ، ومنها الشروط السابقة ؛ فإنني أحيل القارئ إلى بيت شعري واحد اقتطعه من قصيدة الشاعر " علوان الجيلاني " وهو قوله :
( انا المعنى بترتيب الفضاء لمن غابت وشباكها في القلب مفتوح ..( )
هذا البيت الشعري مرسل إلينا عبر قالب قديم هو القالب الرباعي( ) . لكن ألا يتفق معي القارئ على أن ثمة جمالاً ينسرب إلى النفس وينفذ رائقا إلى شفاف الوجدان؟.
لماذا لانحاول أن نفكك نحو هذا البيت ، في محاولة لاستكشاف سر هذه الجاذبية التي تنبعث منه ، ولنبلور السر الذي كان دافعا لإثارتنا، وإمتاعنا ونحن نقرأ :
( أنا المعنى بترتيب الفضاء لمن غابت ، وشباكها في القلب مفتوح ..).
ولنبدأ من ( النواة الوزنية ) ، أو النواة الموسيقية ؛ فنقول : إن البيت ينتمي إلى البحر البسيط ذي التكوين المركب والمؤلف من تفعيلتين أساسيتين ( مستفعلن فاعلن ) مكررتان لثمان مرات .
ولكن ماعلاقة الوزن – هنا - بالجمال المثار في البيت المقصود؟ .
ثمة بعدان لذلك أولهما : أن الوزن إذا لم يصاحبه انفعال حقيقي كان الإيقاع النفسي باهتا ، ورهِقا – بكسر الهاء -. وأعنى بالإيقاع النفسي: ذلك الشيء الخفي الذي يبعث في القارئ متعة نفسية لا يدرك مصدرها .
يقول الشاعر،والناقد الإنجليزي تي.سي.اليوت ": الموسيقى في الشعر هي التي تمكن ألفاظ الشاعر من تعدي عالم الوعي والوصول إلى العالم الذي يجاوز حدود الوعي التي تقف عندها الألفاظ المنثورة" ( )
وحتى تتمكن الموسيقى من تحقيق هذا الهدف ، فلابد أن ينظُم الشاعر ألفاظه في ساعة إلهام ، وانفعال ؛ تحقق له هذه المعادلة . وسوف أورد بيتاً شعرياً حمينياً ( ) مشهوراً استفاد منه الشاعر دون قصد والقائل " قال المعنى سمعت الطير يترنم فهيج اْشجان كان القلب ناسيها " .
هذا البيت له نفس الوزن الذي اعتمد عليه شاعرنا في البيت الشاهد ولكن ثمة فارقاً كبيراً بينه ، وبين البيت ، موضوع الشاهد : إيقاعاً ، وتأثيراً . فالإيقاع النفسي لهذا البيت يخالف موضوعه ؛ لأن إيقاعه يميل إلى الفرح بينما موضوعه هو (الحزن ) ؛ مما يخرجه عن الشاعرية ، والصدق الانفعالي .
بينما في البيت الشاهد لانجد هذا الانفصام ونحن نخضعه للتذوق الشعري ؛ حين نكتشف بأن له إيقاعا نفسيا مضطرماً ويميل إلى الحزن وهو مايتواءم مع موضوعه الداخلي ؛ مما يعني تحقق شرط العفوية في الوزن ، وصدق الانفعال النفسي أثناء كتابة النص كاملا.
وإذا ما انتقلنا إلى الأنوية الصوتية والإيقاعات المفردة ؛ سنجد عجباً . ففي حين تألف البيت الشعري من ستة وثلاثين حرفا شعرياً ( ) وجدنا بأن أربعة وعشرين منها ، هي أصوات مجهورة . فما علاقة هذه الأصوات بالبعد الجمالي للبيت المستشهد به ؟ لاسيما إذا ما أدركنا أن الأصوات المجهورة – في تعريفها – تلك التي تتذبذب الأوتار الصوتية حال النطق بها ( ). إن هذا يساعدنا لاشك على الدرجة الانفعالية التي سيطرت على الشاعر .ومن خلال الكشف عن معنى البيت في الشطر الأول منه سوف يتجلى لنا هذا العجب ونحن نقول : إذا كان " المـُعَــنّى " في تعريفه اللغوي : هو ذلك الشخص الذي يكلف بما يشق ويصعب ؛ فإن لا أشق ولا أصعب – من وجهة نظر شعرية – من ترتيب الفضاء ، بعد تبعثره وتشظيه وتكسره تكوينيا ؛ بما يستدعي مقدرة ( نفسية ) لا اعتيادية لاسيما وقد كان هو المقصود والمكلف دون غيره . بما يوحي بنوع من الاضطراب والصوت المتعالي، البارز من خلال ما تمثله هذه الاحرف التي تمركزت في الشطر الأول بنسبة 80% ؛ لتعبر عن درجة محددة من الصوت الذي صاحب نفسية الشاعر . لكن من المدهش – أكثر- أن ننتقل إلى الشطر الثاني وقد حوصر بالأحرف المهموسة أكثر ، وكادت أن تختفي في الشطر الأول . لاغرابة في ذلك إذا ما أدركنا أنه – أي الشاعر – كان في حضرة الأنثى ، وفي مقامها ؛ لذلك خفَضَ جناحيه ، وسكنت نبرته، حيث استكانت حروفه كذلك وتهامست . وهو جانب راق من جوانب المواءمة بين الداخل والداخل والخارج والخارج ، والداخل والخارج . وثمة جانب إيقاعي مفرد تآزر مع هذه الأصوات ؛ تمَـثّل في تكرار حرف ( النون ) بآلية تبعث على الأريحية . وحتى تتكشف هذه الحقيقة لنكرر الشطر الأول لمرات عدة ونقرأه قراءة متذوقة ؛ وسوف يشعرنا بهذه الأريحية، إلى جانب أنه سوف يبعث في داخلنا إيحاء ما ، قد لاندرك كنهه ، إلا أنه صدى خافت لأنين بعيد يتداخل مع البنائيات الأخرى ، فيشع فيها تأثيراً آسرًا . وهذا هو الحلول الشعري : حيث يحل الشاعر في كلماته وأحرفه فيضحى جزءا منها : يتألم فتتألم ويأسى فتأسى ويبسم فتبسم .
وما أردأ حينها قول شاعرنا القديم :
" وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد( ) "
فالشاعر ( في نحو هذا البيت ) لاعلاقة له بالحلول أو بالانفعال : صدقه من كذبه ؛ ( بدليل أنه يعبر عن شهوة حسية في مقابل حزن ، فلم يبق من بيته الشعري سوى الموسيقى الحادة ، والفتنة البلاغية .
يتبقى لنا أن نعرج إلى دور اللغة في البيت الشاهد لنؤكد على دور الإيحاء ، والمعاني الانزياحية المتآزرة مع البنائيات الأخرى ؛ لخلق الكمال والانسجام فيما بينها.
البيت الشعري بدأ بجملة خبرية ( أنا المعَنّى) وقلنا بأن المعنى في مفهومه اللغوي : هو المكلف بما يشق ويصعب عليه ، وقد جاءت هذه الجملة تمهيدية لما سيليها ؛ لذلك خلت من التخييل . وقد لجأ الشاعر –هنا– إلى لغة الاستعارة والتشييء بتعبير ( ترتيب الفضاء ) . إذ أن هذا الترتيب أحالنا إلى أشياء مبعثرة،ومتشظية،ومتكسرة ، تحتاج إلى جهد لإعادة ترتيبها ، وهو مادعا الشاعر إلى اختيار لفظ ( المعنى ) دون غيره؛ لأنه الأصلح للتعبير عن فعل (الجهد) ، موائما بذلك مع التركيب المجازي ( ترتيب الفضاء ) .
وبانتقالنا للشطر الآخر ، نجده مفتتحا بجملة خبرية -كذلك-:( غابت) منتقلاً إلى تركيب مجازي أطول نسبياً من الأول بقوله :( شباكها في القلب مفتوح ) . وفيه يجعل من القلب بيتاً مغلق النوافذ عدا واحدة . ولهذه النافذة ظل كنائي رامز إلى ( الذكرى ) مما يعني : أننا أمام مجاز المجاز. وقوله ( مفتوح ) – كذلك – فيه إحالة إلى معنى التواصل مع هذه الذكريات ، وعدم التسليم بنسيانها أو تركها .
في هذا الشاهد بدأ الشاعر تصاعدياً من الأسهل تركيباً إلى الأعقد . وهذا أعطى للقارئ فسحة للقراءة المتأملة ، حيث أثارت فيه نزعة الإثارة ، وهو مانريده من الشاعر الذي يريد أن يحيـي دور العمود ؛ وإلا وجب عليه أن ينقب عن أشكال أو قوالب أخرى سهلة الموالج ؛ تتواءم مع قدراته . لأن إخضاع العمود للعصر وللحداثة أمر شاق بحاجة إلى " مُعَـنّى" ، ولايقدر عليه إلا فحول الشعراء .
الهوامش:
- لم اقل الوزن ، والقافية ، والمعنى ؛ لأن المعنى ليس خاصاً بالشعر وحده ، وإنما ركزت على خصوصيات العمود وحسب .
2 -كان الدكتور : محمد النويهي أول من اقترح نحو هذه التسمية ، وقيل بل أحمد باكثير .
3- علوان الجيلاني ، ديوان غناء في مقام البعد ، ط1 2000م ، منشورات مؤسسة العفيف . صنعاء .2 - حسن الشرفي ، المجلد الثالث .
4- محمد جميح ، قصيدة " هتف الشوق " ، ديوان أودية العشق ، ط1 ، 1999م.
5- من ديوان . غناء في مقام البعد .
6- حتى وإن كان الشاعر يصوّر خصلة الشَّعر المنسرحة بـ ( ظبي ) شارد ، فهذا التصوير الجديد ليس أدعى لاستلهام التشبيه القديم .
7 - من ديوان . غناء في مقام البعد .
8- حتى وإن كان الشاعر يصوّر خصلة الشَّعر المنسرحة بـ ( ظبي ) شارد ، فهذا التصوير الجديد ليس أدعى لاستلهام التشبيه القديم .
9 - من ديوان . غناء في مقام البعد .
10- حتى وإن كان الشاعر يصوّر خصلة الشَّعر المنسرحة بـ ( ظبي ) شارد ، فهذا التصوير الجديد ليس أدعى لاستلهام التشبيه القديم .
11- أغني بالشعر الحميدي، الفصيح غير المعرب.
12- بإسقاط الحروف التي لا تقرأ.
13- علم اللغة للدكتور محمد السعران.
14- للشاعر أبو الوأوا.

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 25-أبريل-2024 الساعة: 03:18 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/11690.htm