السابع عشر من يوليو: موعد مع قيادة فريدة ومسيرة متميزة

المؤتمر نت: د. جلال إبراهيم فقيره -
الأبعاد القيادية لشخصية الرئيس علي عبدالله صالح
في ظل ظروف بالغة التعقيد سمتها الرئيسة غياب الاستقرار السياسي ممثلا باغتيال زعيمين من زعماء اليمن في التاريخ الحديث هما الراحلين إبراهيم الحمدي واحمد حسين الغشمي اجمع أعضاء مجلس الشعب التأسيسي على اختيار شاب طموح لقيادة مسيرة اليمن في السابع عشر من تموز/ يوليو 1978م وتنبأت معظم دوائر الاستخبارات العالمية أن هذا الشاب لن يستطيع الاستمرار أكثر من ستة أشهر كحد أقصى. وخيب هذا الشاب كل توقعاتهم، واستطاع أن يقود اليمن نحو أكثر الإنجازات قوة في تاريخها المعاصر من قبيل تحقيق وحدة اليمن، وتسوية الخلافات الحدودية مع دول الجوار الجغرافي، وتكريس صيغة التعددية والديمقراطية، واليوم تطل علينا الذكرى الخامسة والعشرون للسابع عشر من تموز/ يوليو 1978م كيوم خالد في صحائف السياسة اليمنية بعد أفلح ذلك الشاب في حمل الراية وقيادة المسيرة نحو بناء يمن موحد ومستقر وآمن. فما هي الأبعاد القيادية لشخصية ذلك الرجل الذي تحمل مسؤولية قيادة اليمن خلال الربع قرن المنصرم، وكيف تنعكس تلك الأبعاد على طرائقه في معالجة القضايا المختلفة التي تواجهه، سنحاول قدر الإمكان أن نتناول هذا البعد المعقد زائد في العادة في شخصيات صناع القرار من خلال توظيف النماذج النظرية التي قدمها علماء السياسة لتصنيف أنماط شخصية صناع القرار في دراسة شخصية الرئيس صالح ومحاولة استخلاص تصنيف معين لشخصيته كأداة تحليلية يمكن من خلالها التعرف على دوافعه واستعداده وكيفية إدراكه للمؤتمرات البيئية وكيفية استجابته لها، وسيتركز النقاش في قسمين أحدهما يتعلق بالسمات النفسية والآخر يقوم على مصادر الشرعية.

1- التصنيفات القائمة على السمات النفسية والسلوكية
وضع جيمس باربر تصنيفا نظريا للشخصيات الرئاسية قام على افتراض مؤاده أن السلوك الرئاسي ليس نتاج الحساب الرشيد، بل خلاصة لتفاعل احتياجات نفسية عميقة لدى القائد واعتمدت نظريته على بعدين الأول البحث عما إذا كان القائد نشطاً أو مسالماً (أي مقدار النشاط الذي يبدله الرئيس في تنفيذ المهام السياسية)، والبعد الثاني عما إذا كان القائد إيجابياً أو سلبيا (بمعنى المدى الذي يستمتع فيه الرئيس بالواجبات التي يؤديها). واتساقا مع هذه الطروحات صمم باربر أربع فئات رئيسية هي النشط الإيجابي، والنشط السلبي، والمسالم الإيجابي، والمسالم السلبي. ووفقاً لهذا التصنيف عن الشخصيات الرئاسية، يمكن وضع الرئيس صالح في طائفة "النشط الإيجابي"، فمن ناحية ينشط الرئيس صالح في أداء وتنفيذ مهامه السياسية، وفي الوقت نفسه يجد فيها فرصة مناسبة لبحث عن النجاح، والإنجاز. ويمكن الاستدلال على صحة هذه الفرضية من تبع نشاطه السياسي عبر تحليل كمي لمجموعة من الوثائق البالغ عددها 439 تضمنها خطاباته وأحاديثه في مواقع مختلفة خلال الحقبة الممتدة بين 1992-1995م فخلال هذه الحقبة بلغت فعاليات الرئيس صالح في أداء وتنفيذ مهامه السياسية وفي الوقت نفسه يجد فيها فرصة مناسبة للحث عن النجاح والإنجاز ويمكن الاستدلال على صحة هذه الفرضية من تتبع نشاطه السياسي عبر تحليل كمي لمجموعة من الوثائق البالغ عددها 439 تضمنها خطاباته وأحاديثه في مواقع مختلفة خلال الحقبة الممتدة بين 1992-1995م فخلال هذه الحقبة بلغت فعاليات الرئيس صالح وأنشطته حوالي 579 فعالية وهذا رقم لا بأس به خصوصا إذا علمنا أنه يمثل نسبة تصل حوالي 579/1440= (40%) من إجمالي عدد أيام السنوات الأربع التي شملها التحليل الكمي للوثائق. وتزداد هذه النسبة إذا أخذنا في الاعتبار أن الزيارات تستغرق أكثر من يوم. وإذا اكتفينا بنسبة 40% فهذا يعني أن الرئيس صالح كان يقوم بفعالية أو نشاط كل يومين ونصف تقريباً، وهذا يدلل الى حد كبير على أنه كان نشطا في أداءه لمهام منصب رئيس الجمهورية.
أما إيجابياته فتتضح من قدرته على ايجاد مخارج وحلول للأزمات القوية واجهت نظام حكمه، فضلا عن البحث المستمر عن الإنجاز والنجاح، ويتضح ذلك من العديد من الأمثلة منها على سبيل الاستدلال لا الحصر قدرته على احتواء عناصر الجبهة الوطنية الديمقراطية في أوائل الثمانينات، وإسهامه في تحقيق أعظم إنجاز شهدته اليمن في تاريخها المعاصر المتمثل في إعادة التوحيد وتأسيس دولة الوحدة اليمنية، ثم نجاحه في دحر محاولة الانفصال والحفاظ على وحدة اليمن في 1994، ودوره في تسوية الخلافات الحدودية مع دول الجوار الجغرافي عمان في 1992م، ارتيريا في 1996-1999م والسعودية في الثاني عشر من حزيران/ يونيو 2000م.
واتساقا مع الأنماط التي قدمها بول مودي في تصنيف سداسي تضمن النمط الاقتصادي والجمالي والنظري والاجتماعي والديني والسياسي يقترب الرئيس صالح كثيرا من ذلك النمط السياسي الذي يسعى الى التفرد في تحقيق المنجزات، فالظروف السياسية المضطربة التي تولى فيها الرئيس صالح رئاسة الشطر الشمالي التي أعقبت اغتيال كل من الرئيس الحمدي ثم بعده بأشهر الرئيس الغشمي، تدلل على اقترابه كثيرا من النمط السياسي الذي لا يختلف جوهريا عن فئة النشط الإيجابي الذي قدمه باربر.
وقدم ف. ج بيلي تصنيفا ثلاثيا قوامه الاعتماد على السمات النفسية والسلوكية لصانع القرار وقدرته على إقناع الآخرون بقراراته. فالقيادة السياسية لدى بيلي محورها القدرة على اتخاذ القرارات في مواجهة المواقف وإقناع الآخرين بها، ويقدم تصنيف ثلاثي يتضمن القائد البراجماتي الخبير البيروقراطي، والقائد الكاريزمي، والقائد الوسيط- المنظم. ومن الصعوبة بمكان حصر الرئيس صالح في أي من مفردات هذا التصنيف وإن كان يمكن القول أنه يأخذ من نموذج القائد البراجماتي التأني في اتخاذ القرارات رغم نشأته العسكرية التي ربما يعتقد البعض أنها تتعارض مع هذه السمة، والاعتقاد بإمكانية تسوية الصراعات الناشئة عن تعارض المصالح بالتوفيق وتنازل كل طرف عن بعض مصالحه من أجل التوصل الى اتفاق، ويأخذ من الأنموذج الكاريزمي عدم الالتزام بالقواعد الروتينية والضوابط المؤسسية، كما يقتبس من أنموذج القائد الوسيط- المنظم تفضيل الخطط الجزئية المرحلية لمواجهة المشاكل والأزمات.
2- التصنيفات القائمة على مصادر الشرعية
قدم ماكس فيبر ثلاثة أنماط للسلطة هي التقليد والكاريزمية والقانونية العقلانية، وربط الأول بالمجتمعات الشرقية وكذا الدول الأوربية في العصور الوسطى وفيه تكون سلطة وهيمنة القائد مطلقة ويدين له أعضاء المجتمع بالطاعة والولاء، بينما ترتبط السلطة الكاريزمية بزعيم مهاب أو بطل تاريخي صاحب رسالة له خصال وفضائل يعتبرها أعضاء المجتمع خارقة، وتتميز الدول القومية الحديثة في أوربا الغربية بسيادة القانونية العقلانية حيث يتولى النظام القانوني والتشريعي تنظيم اختصاصات القائد وعلاقاته بالمواطنين الذين لا تربطهم به علاقة شخصية أساسها الولاء له بل أساس علاقتهم به القانون والدستور.
وإذا عدنا الى تصنيف ماكس فايبر السالف الذكر، فسنجد أن الرئيس صالح يجمع بين نمطين هما الشخصية التقليدية – القانونية- ومن الشخصية التقليدية يقترب الرئيس صالح من الشخصية العشائرية التي تميز اليمنيين إذ يرى أن اليمن تجمع من العشائر. ويصاحب الشخصية التقليدية تطور في بعض المجالات التي تشبه الى حد كبير نمط التطور الذي نشاهده في اليمن، فعلى سبيل المثال يتطور البناء البيروقراطي المؤسسي وتنتشر فروعه في أرجاء المجتمع، ويصبح صانع القرار بمثابة زعيم لمواطنين تنساب علاقاته بهم عبر شبكة من البيروقراطيين. أما الوجه القانوني لشخصيته فيتضح من البنية الدستورية التي تحدد ممارسته لاختصاصاته وكذا علاقاته بالسلطة الأخرى وبالمواطنين الذي تربطهم به علاقة دستورية جوهرها طاعتهم لقراراته التي تتواءم مع اختصاصاته المحددة له قانونيا ودستوريا، وبطبيعة الحال فإن الشخصية القانونية لا تنفي إمكانية أن تكون الأجهزة البيروقراطية وبقية المؤسسات الدستورية والمدنية في جوهرها مرتبطة ارتباطا عضويا بمؤسسة الرئاسة على وجه العموم وشخص رئيس الدولة على وجه الخصوص.
ولا تختلف النتائج كثيرا إذا أخذنا السمة الثالثة من السمات التي وضعها جيمس بيل وكارل ليدن عن ممارسة القيادات العربية للسلطة السياسية، التي تسدد على عدم الرسمية في عملية صنع القرار بمعنى أنها لا تتم في إطار منظمات ومؤسسات رسمية، بل في إطار القنوات الشخصية المتمثلة في علاقة الرئيس بمعاونيه، في حين يستتر الهيكل الشخصي غير الرسمي خلف الهيكل الرسمي الذي يحتل فيه المعاونين المناصب العليا لكي يتم خلق قنوات الاتصال بين الهيكل الرسمي وغير الرسمي.
أما إذا اتبعنا المدخل الذي قدمه مايكل هدسون عن دراسة الشرعية في السياسة العربية القائم على نماذج ثلاثة شخصي وايدلوجي وبنائي هيكلي، فإن الأخير أي البنائي الهيكلي، هو الأكثر اقتراباً من الأسلوب الذي تبناه الرئيس صالح في إدارة دفة الحكم إذ أنه سعى الى دعم شرعيته من خلال رفع مبادئ سيادة القانون وبناء المؤسسات الدستورية، والسماح للأحزاب السياسية وإقرار الانتخابات الشعبية بوصفها قنوات أساسية للمشاركة السياسية، والتعديلات الدستورية بشأن انتخاب رئيس الدولة من قبل الشعب مباشرة، وهي الانتخابات التي تمت في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1999م وتوج بها الرئيس صالح شرعيته السياسية كما سعى الى اكتساب شرعية ثورية ترتبط بدوره القيادة في تحقيق الوحدة اليمنية أولاً ثم دحر محاولة الانفصال التي قادها (علي سالم البيض) وأنصاره ثانياً.
ويفضي بنا التقسيم الثلاثي الذي وضعه عالم السياسة موت بالمر الى وضع الرئيس صالح في شريحة القيادات التدريجية المعتدلة التي ترى أن تحقيق التنمية يقتضي انتهاج سياسة الإصلاح التدريجي لإشباع المطالب العامة بشكل جزئي، وتبني مؤسسات سياسية على النمط الغربي، وتدعيم العلاقات مع الدول الغربية دون ان يقع فريسة للتبعية السياسية المطلقة.
وهكذا يتضح لنا من هذا التحليل أنه من الصعوبة بمكان القول أن الرئيس صالح يمثل أنموذجا معينا من النماذج السابق ذكرها، فشأنه في ذلك شأن معظم صناع القرار يأخذ ميزة من كل أنموذج، الأمر الذي يجعلنا نميل الى تبني وجهة نظر قوامها أن شخصية الرئيس صالح تتشكل من مزيج من هذه النماذج. ومع الإقرار بحقيقة أن هناك سمات نفسية أساسية لها تأثير هام في صنع الرئيس صالح لقراراته، فإننا مع ذلك نرجح فكرة أن المواقف التي تواجهه هي التي تعطي الثقل النسبي لسمة ما على غيرها من السمات وبما يتلاءم مع طبيعة ذلك الموقف وأطرافه، فالمواقف التي لها علاقة بالشئون الداخلية من شأنها أن تبرز سمات وخصائص مغايرة لتلك التي تفرزها المواقف ذات الأطراف الخارجية. كما أن المواقف ذات الأطراف والقضايا الإقليمية ستظهر لنا دون شك سمات نفسية لدى الرئيس صالح تختلف في جوهرها عن تلك التي يمكن أن تفرزها المواقف ذات الأطراف الدولية، وفي كل الحالات تؤكد المواقف المختلفة التي واجهت الرئيس صالح سواء كانت داخلية أو خارجية أن نمط شخصيته تتكون من مركب فريد ومتميز قادر على التعامل معها بالأهمية التي تتناسب معها، وقادر على اتخاذ القرارات الكفيلة بتحقيق الحد الأعظم من المكاسب الممكنة لليمن أن على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي.


تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 01-نوفمبر-2024 الساعة: 02:15 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/2506.htm