اسلام اون لاين -
إنفلونزا الطيور.. وقفات إيمانية
لا شك أن الكون مملوك لله تعالى، لا يحدث فيه إلا ما قدره وأراده. ولا تسير الأمور عبثا ولا سدى، وتعالى الله عن أن يخلق شيئا ويقدره بغير حكمة؛ وإن خفيت على البعض فإنها تستوقف النابهين: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف:105).

وتلاحق البلايا -وآخرها إنفلونزا الطيور- على الناس بين الحين والحين؛ يثير في النفس هذا السؤال: هل يمكن تجنب هذه البلايا والوقاية من آثارها؟ ولنا وقفات يتبين الجواب من خلالها:

الوقفة الأولى: النعم مسخرة للتنعم والشكر:

سخر الله تعالى النعم لينعم بها خلقه وليشكروه عليها؛ وقال لهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7). ويكون شكر النعمة بحسن التعبد بها؛ فهذه أسمى درجات الشكر، وإذا أسيء استخدامها تحولت إلى ويل وعذاب في الدنيا والآخرة.

الوقفة الثانية: النافع والضار هو الله تعالى:

بما أن هذه النعم مملوكة لله تعالى؛ فهي لا تعمل بذاتها وإنما بما أودع الله تعالى فيها من أسباب النفع. وقد تكون نافعة في حين وضارة في حين آخر؛ فالنافع والضار في الحقيقة هو الله تعالى، وإذا غضب على بعض خلقه أهلكهم بما قد يظنون النجاة فيه.

ونحن نركب الدابة فنقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (الزخرف: 13)، والمطر من عند الله وليس بمجهود بشري {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر:22) وهكذا في سائر النعم.

الوقفة الثالثة: كل شيء بقدر الله:

فأي تغير في كون الله يكون بقدره تعالى لحكمة علمها من علم، وجهلها من جهل. ولا يربط كثيرون بين التغيرات الحادثة في الكون وبين قربهم أو بعدهم من الله تعالى الذي سخرها لهم وأودع فيها أسرار نعمته أو بوادر غضبه، وكل شيء عند الله بمقدار، ولا يحدث في كونه شيء إلا بأمره وقدره قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49).

الوقفة الرابعة: الرابط بين المعاصي وتبدل النعم وقلة الرزق عقيدة إسلامية:

فكل عقوبات الله تعالى العامة للأمم المذكورة في القرآن كانت بسبب الكفر المعاصي، وفي ذلك ذكر، قال تعالى عن أثر الإيمان والتقوى والاستغفار في حصول الخير لأهل الأرض، فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 196).

ونقل القرآن دعوة نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح: 10-12)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2).

عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}" (رواه الترمذي).

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه، ولا يرد القَدَر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر" (رواه النسائي وابن ماجة).

الوقفة الخامسة: بين النوازل العامة والمعاصي العامة:

إذا لم يتب الناس عن المعاصي، ولم يلتفتوا إلى زجر من حليم أو إرشاد من عليم؛ فإن البلايا تكون عامة. مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة: "..فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"، ولقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:25).

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه بن عمر: "يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (تخريج السيوطي).

ومعروف أن الطب قد تقدم تقدما ملحوظا؛ إلا أنه لم يعد باستطاعته ملاحقة الأمراض الجديدة التي تفتك بالناس. وكلما حاصرت البشرية بما أوتيت من تقدم مرضا؛ ظهرت أمراض أخرى كثيرة، وكلها شبه مستحيلة العلاج. أليس من الحكمة أن نعود بصدق إلى الله تعالى -الذي لا يحدث في كونه إلا ما يريد- لكي يرفع البلاء عن الناس؟!.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت فاغفره، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفره فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا قال: رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" (متفق عليه).

إن فرعون وقومه لجئوا إلى موسى؛ حينما سلط الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. كتب الله عنهم لأنهم علموا أن الخلاص بيد الله وحده؛ لكنهم نكثوا مع الله. فكان الغرق والهلاك المحقق؛ أي هي رسائل وفرص من لم يعتبر بأولاها قد تمحقه أخراها.

ويعد ظهور الفواحش في المجتمع والإعلان بها نذير شؤم على الأمم؛ فإن الفاحشة إذا ارتكبت في السر ولم تظهر للناس دل هذا على صحة إيمان الأمة التي تأبى السماح بظهور الفاحشة بينهم.

وقد تحققت النتيجة التي ذكرها الرسول؛ فلا تزال الأمة تصارع أمراض البدن بعد أمراض الروح، ومهما تقدمنا في الطب فإن الأمراض في زيادة. وتذكر الإحصائيات أن الأمراض الجنسية (التي نتجت عن ارتكاب الفواحش الجنسية) كانت لا تزيد على أربعة أمراض في بداية القرن العشرين، وهي الآن تربو على الثلاثمائة مرض معظمها لا دواء له، فما بالك بالأمراض الناتجة عن الخمور والمخدرات، بل الظلم الاجتماعي -فهو فاحشة كبرى- وغير ذلك من الأمراض.

الوقفة السادسة: لا يرفع البلاء إلا بتوبة:

إن الذين يعتمدون على الطب وحده في حل مثل هذه المشكلات دون إرجاعها إلى الله تعالى مسبب الأسباب؛ مثلهم كمثل ابن نوح الذي ظن بأن الجبل سينجيه. وسرعان ما تبين أنه السراب، ويا ليته صدّق أباه؛ حين أكد له أنه {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (هود:43).

فيخرج الله تعالى الناس من البلاء بفضل التوبة والدعاء، ونعجب ممن لا يفهموا الرسائل الربانية التي ينبه بها الله عباده: {لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76). فماذا ينتظر الناس حتى يعودوا إلى ربهم ويثوبوا لرشدهم؟.

الوقفة السابعة: الأخذ بالأسباب المادية في محاصرة الأمراض والأوبئة:

ولا ينافي الدعاء لله التوكل عليه تعالى؛ فنحن مكلفون بالتداوي لا بالاستسلام للمرض. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة" فإنه قال: "وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ".

فالمرض لا يعدي بذاته إلا بقدر الله تعالى، ومن العقل الحذر من العدوى والتعامل مع الأسباب التي أودعها الله فيها. لكن النافع والضار في الحقيقة هو الله تعالى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً إِلا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ".
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 19-أبريل-2024 الساعة: 10:31 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/29196.htm