المؤتمر نت - الناقد اليمني/ هشام سعيد شمسان
المؤتمرنت - هشام سعيد شمسان (2-2) -
التص الحديث وإشكاليات القصيدة الجديدة
· البناء اللغوي :
(1)
لعلنا لانخطئ إذا ماقلنا : إن قارئ الشعر الحديث ، أكثر شكواه إنما تتأتى من كون هذا الشعر غامض اللغة . وعلى ضوء هذه اللغة حكم على فساد ماء الشعر ؛ لأن فيه انتفاًء للسهولة اللفظية التي كان يمجدها الشعر الرومانسي ( خصوصاً ) ، وبعض الشعر المؤدلج الحديث، بما يحتم عليه أن يعدل من وضع رأسه ، ووجهته ، ويقر بدوران الأرض ، وتغير الفصول ، فإذا كان الإنسان – بوجه عام – مفطوراً على حب التمايز ، والميل إلى المغايرة ، والتفرد ؛ فإن الشاعر ، أو الفنان – بحكم موقعه الكوني – من أكثر البشر حباً في الخروج على المألوفات في الأشياء ، والتأريخ شاهد على مركزية هذه المقولة : سياسياً ، واجتماعيا ، وعلمياً . وعلى مستوى الإبداع "فإن لكل عصر بيان " – كما يقول ابن شهيد – والصراع بين القديم والجديد ، التقليدي ، والحديث - ليس آنيا فحسب : ألم يُتهم المتنبي – مثلاً – بالخروج على السائد ، ألم يرمَ بتهمة كسر ذائقة القراء حين وجد بعض النقاد كـ( الآمدي ) –مثلا - في بعض شعره استعارات غريبة ، وجديدة ، وجه الشبه فيها متباعد ، ولا ألفة فيها . وثمة كثيرون قبل المتنبي ممن اتهموا بالخروج على المألوف ، والسائد كأبي تمام ، وأبي نواس … وغيرهم . ولكن هل سقط المتنبي لخروجه عن المألوف ، ولذائقة المعلبة ، أم أنه استطاع – بعدئذ – ان يخلق قارئا جديداً متحرراً من سلطة المألوف . وماأشبه حديثنا بالبارحة .
(2)
يقوم النص الشعري الحديث – ببنائه اللغوي – على مصطلح " الغموض الفني " ، لا الغموض اللغوي الذي يقول به البعض ، وذلك من خلال انفتاحه - اللا محدود – على الوجود اللغوي القائم على الاستعارة ( أو المجاز ) . والبعض من الشعراء ، وإن كان ذا معجم لغوي محدود، إلا أن الاعتماد على إعادة إنتاج الألفاظ بالطرق الاستعارية المركبة ( مجاز المجاز ) ، قد يخفي كثيراً من محدودية المعجم اللغوي لبعض الشعراء ، ناهيك عن اللجوء – كثيراً – إلى الاشتقاقات الصرفية الجديدة ، بما مثل تاريخية جديدة لاصلة لها بالأسلاف ، وهو ما أحدث صدمة للذائقة التي مازالت في جُلها تسكن في جلباب التشبيه ، أو الاستعارات الباردة ، والقاموس الاستنساخي للشعر.
وانفتاح النص المعاصر على الوجود اللغوي لايقتصر على اللعبة المجازية وحدها ، بل جر ذلك إلى انساق فنية لها جذورها البلاغية : كالحذف ، والتقديم ، والتأخير ، والملفوظات ، الاعتراضية ، والفراغات الصامتة والرمز واستعمال الحوشي من الألفاظ ، بإخضاع ماسبق إلى الرؤية الجديدة التوظيفية ،ولعل بعض الأمثلة من الشعر الحديث توضح جميع ماسبق :
" متوجاً بصولجان الرغبة في استئناس جراد الوحش الضال
بين أقدامي،وخطاي .
أغادر آخر الخرائب المتربة في سمائى
وأدخل قبلة الغيم مؤتلفاً مثل قوس السؤال "( )
إذا استطاع المقطع السابق أن يثير شيئاً (ما) في نفس المتلقي ؛ فقد حقق الشاعر إنجازاً عظيماً ، ولكن ماذا لو وقف القارئ متصخراً – من الصخر – أبله لايعي من أمره شيئاً ؟ أو وقف آخر – ساخراً – مما يقرأ ، نابذاً به جهة ما؟.
إن مفردات المقطع الشعري تامة الوضوح:متوجاً / صولجان / الرغبة / استئناس / جراد/ الضال …. الخ . ما إن تتضام ، وتسند إلى غيرها من الألفاظ ، حتى تبعث فيها الحياة ، فتتحرك في أنساق تعبيرية ( شعرية ) جديدة تبعث على الحيرة في نفس القارئ، فيقف عندها عاجزاً عن استلال المعاني المخبوءة تحت ظلال التراكيب الانزياحية ، والتي سلسلها الشاعر تترى ، لتخرج جميع الألفاظ من قاموسيتها إلى خلفيات إيحائية ، ورمزية، واتساعية بحاجة إلى قارئ متمرس يجيد فن التعامل مع كل شاعر على حدة . وكيما يستطيع قارئ (ما) أن يقف على خلفية تعبيرية من نحو " متوجاً بصولجان الرغبة " ؛ ليربطه بما بعده. – بعدئذ – وجب عليه أن يكون ذا ثقافة شعرية عالية " فالصولجان " في سياقه الانزياحي يتفرع في تركيبه إلى " مادية " لها طرفان : أولاهما : مادية جامدة لها دلالة " رمزية " هامة ، وثانيها : مادية متحركة لها خاصية الانفعال بدلالة " الرغبة " وبذلك يكون " الصولجان " رمزاً " له دلالة سلطوية ، قمعية ، وديكتاتورية ، وفي إسناد" الصولجان " إلى " الرغبة " إيحاء بشهوة نفسية مضطرمة تحلم بـ( الانتقام ) ، ولكي تكون رغبة " الانتقام " فاعلة ، فإنها لا تتحقق دون الإمساك بزمام المراد ، وبالتالي القدرة على القيام بـ( الرغبة ) وفي استعمال لفظ " الاستئناس " حيلة خداعية مموهة ، لاجتذاب " الجراد" التي عبر بها للدلالة على " الكثرة " تارة ، وإيحاء بـ( التحقير ) مرة أخرى .. وفي المقطع السابق تبدو لنا شخصية ساخطة ، ذات نفسية مضطربة ، ومهزومة ، لا تملك سوى الأحلام ؛ لتتجاوز من خلالها بعض شقائها . وحتى يوحي لنا الشاعر ببعض المعلومات الخاصة عن عمر الشخصية نجده يشير إلى بياض شعر رأسه من خلال تعبير " أدخل من قبلة الغيم " فالغيم رمز إلى مرحلة عمرية للإنسان ، وفي تعبير " القبلة " كناية عن تعدد المراحل العمرية بمسمياتها : قبلة الطفولة ، قبلة الشباب، قبلة الشيخوخة …. الخ ، وللمبالغة في تعميق مرحلة " الغيم " (الشيخوخة) ، فانه يستخدم الرسم البصري في ملفوظ " مؤتلفا مثل قوس السؤال " وقوس السؤال ، ليس سوى علامة الاستفهام التي تأتي دلالة على التساؤل(؟) الاتشبه هذه العلامة – في رسمها – إنساناً ( شيخاً ) ، ( كهلاً ) ، وقد تحدب ظهره ، فبدا أشبه بـ( قوس السؤال ) (؟) . وإلى مقطع آخر - لشاعر آخر :
" دورت وجه حصاتك الصوان أملكها
-وشمس التية ، والظمأ الرفيقان -
ارتميت على وجوهك في الفلاة تفتحت
طرق التحير بناة سرية تخفي وتسفر
حيثما سميتك الحجر الأمين ياشعر… "
وفي قصيدة أخرى لنفس الشاعر :
" تهدت ناقة الليل أستطف لهامش
الريح المليئة بالظلام الكتر
في اللحيتين في جرش اللغام الرعد
وانتثرت من الرغو النجوم الفضة الماء المدمم ، والغبار "( )
…………………
ففي المقطعين السابقين للشاعر " محمد عفيفي مطر " نحن أمام أكثر من وجه فني ، إذ نجد الحذف المتباعد القرائن كما في الشطر الأول – من المقطع الأول : "دورت وجه حصاتك الصوان أملكها " ، إذ قد يقع القارئ في شرك الغموض حذاء اللفظين " الصوان / أملكها " بدغمهما في سياق التعبير النصي ، وذلك لحاجته إلى بعض المهارات الذهنية البلاغية بإعادة الشطر – ذهنيا – على هذا النحو : " دورت وجه حصاتك دورت وجه الصوان " ولابد له كيما يعطي لملفوظية " أملكها" قيمة دلالية أن يسبقها بـ (لام) التعليل – لأملكها- ويكون الضمير المتصل عائداً على أحد اللفظين " حصاة " أو " الصوان" ولإمكانية تعدد قراءت النص جملة في سياقات عدة ، فإن نحو هذا الشطر يحيلنا إلى تقديم ، وتأخير يتيح لنا إعادة انتاج المعنى هكذا : دورت وجه الصوان أملكها حصاتك " ، وينقلنا الشطر الثاني – من نفس المقطع – إلى ملفوظ اعتراضي ، ليس فيه الواو حرف نسق عاطف ، وإنما هو واو الحال ، بما يعني حاجة القارئ – الحديث – إلى إلمام بالنحو العربي إلى جانب الثقافات الشعرية الأخرى . وشاعر نحو : "محمد عفيفي مطر " مغرم كثيراً باستعمال الحوشي من الكلام ، باستعادة مفردات قاموسية ، وانتاجها استعارياً . إن ألفاظا من نحو : أستطف ، الكتر ، جرش ، اللغام ، اللحيتين – المدمم- " الفاظ تستعصي معانيها على معظم القراء ، وقد لجأت – شخصياً – إلى الاستعانة بـ ( القاموس ) لتفسير لفظي " الكتر " و" استطف " حيث الاولى تعني " السنام " والثانية تعني " العلو " . وإذا كنا قد أكدنا على إمكانية خلق عدة قراءات – أحيانا- لنص ما، اونصية (ما) داخل نص كبير ، ومثلنا لذلك بجزئية صغيرة – سابقة – فإن الفراغات الصامتة ، أو اللغة الصامتة تلعب دوراً فاعلاً – أحياناً – لانتاج كثير من المعاني ، وما أكثرها على مستوى القصيدة الحديثة ، والجديدة على وجه أخص ، ولكن – قليلاً – هم فقط من يُدخل هذه التقنية الفنية عن وعي ، وإدراك بما يفعل ، وتحيلنا فضاءات اللغة الصامتة إلى أحد شيئين في النص الحديث : إما إلى إيحاء بـ( الصمت ) المجرد أو إيحاء بالحذف لغرض إشراك القارئ في الجو الداخلي للمعاني ، فمن مثال الأول قول " صلاح عبد الصبور" من قصيدة – رحلة في الليل :-
" معذرة ، صديقتي … حكايتي حزينة الختام .
لأنني حزين … " ( ديوان صلاح عبد الصبور)
………………
فالفراغ الصامت بعد " صديقتي " إيحاء للقارئ بأن ثمة مرحلة من الصمت اعقبت ملفوظ " صديقتي " وهذا الصمت يؤوله القارئ نفسياً، إذ أن المقام " الحزين " يستدعي بضع لحظات من الصمت بين كلام وآخر ، وهاهنا كان " التنهد" هو المؤول ، لأخذ النفس الزافر بالحزن ، ثم يأتي فراغ آخر ختام المقطع ليوحي بفترة صمت أخرى ، تتجرد من اللغة ..
" ومثال الآخر قول أحمد عبد المعطي حجازي " :
" وأن علي التحلي ببعض الشجاعة "
(………………………..)
وأقول لهم :
- لن أجيب عليكم فلستم قضاتي .
أقول لهم :
- قد يكون صحيحاً ، وقد لايكون .
أتته يدي .. أو طوته الظنون !
أقول لهم :
بل أنا مذنب ! فاقتلوني !
(………………………….) ( )
فالفراغان – الكبيران – الصامتان يعبران عن لغة متروك أمرها للقارئ، وهو يتذوق النص عند قراءته تاماً ..

البناء الفكري :
أعني بـ( البناء الفكري ) للقصيدة ال : مجموعة الإحالات ، والمدخلات الرؤيوية ، التي ينبني بها النص وعليها يقوم موضوعياً ، وفكرياً ، ونفسياً ، وينتسج بها فضاء اللغة . وتقوم القصيدة الحديثة على جملة من المدخلات الرؤوية ، والفكرية أهمها : الإيدلوجيا ( ) / الميثولوجيا / التصوف الفلسفي / تداخل الأصوات(التناص)،والأنوات طقس الحلم السريالي ( الميتافيزيقا) / الرمز الأسطوري .
ويهمنا – ثمة – أن نقوم ببعض التفصيل لما سبق ، كيما تتوضح رؤية هذه الدراسة أكثر :
الميثولوجيا ، والرمز بالأسطورة ، والقناع
اتخذ الرمـز بالأسطورة محاور عدة فمنها " مايتصل بحضارة الإنسان عبر التأريخ كـ(بابل ، وتموز كما لدى الشاعر : نقولا واكيم " أو " قدموس " عند سعيد عقل .. ومنها ما ارتبط بشعور وطني نضالي كـ(دنشواي ، جيكور ) عند السياب … ومنها ما ارتبط بحدث تأريخي كما لدى " أدونيس " في كتاب : التحولات والهجرة … يجعل عبد الرحمن الداخل ( الصقر ) شخصية أسطورية رمز بها إلى التحولات الإنسانية في نموها وانفتاحها ، … كما جعل " السياب " جميلة بوحيرد " رمزاً للنضال ، والتحرر في " أنشودة المطر "( ) . ويدخل تحت مفهوم الرمز التأريخي ، الرمز الشعبي كأبي زيد الهلالي ، وعنترة ، والرمز الديني : كالمسيح ، والحلاج ، وصلاح الدين … الخ . وإذا كانت القصيدة الحديثة – الأربعينية ، والخمسينية ، والستينية – قد جعلت من الرمز بالأسطورة ، والنموذج الأعلى ( القناع ) هدفاً مضمونياً ( جماليا ) للنص التفعيلي ، كما جعلت من ضرورة " الأدلجة " واجباً فكرياً ؛ فإن النص الحداثي الجديد سواء منه " التفعيلي " أو " المرسل " قد أضحى ينظر إلى مسألة الرمز بالأسطورة والقناع نظرة استثناء ليست ضرورية ؛ لاستهلاك معظم " النماذج " فنياً ، كما صار لكل نص أد لجته الذاتية وميثولوجيته الخاصة به ، متحرراً من التسلط الفكري الذي تحكم بالقصيدة الحديثة . وإذا كان الأمر كما نقول ؛ إلا أن القارئ مازال مطالباً بثقافة شعرية مرجعية ، كيما يفكك مايقرأ من رموز تعالقية ، حديثة ، أو جديدة.
· أن شاعراً نحو " السياب " – مثلاً – بحاجة إلى هذا القارئ ، لفك مغالق رموزه التي ترتبط – عادة – بذاتيته الخاصة . ونفس الحال مع أدونيس – كذلك – . إذ كيف لقارئ ليست لديه هذه العدة أن يدلف إلى الرموز التأريخية التي يحاورها أدونيس ، ثم يسقطها على الواقع المعاصر بوعي مدرك ، كاشفاً به حقيقة الشعر الأدونيسي " التداخلي". وقمين بنا أن نومئ إلى حقيقة بعض تلك الرموز في شعر بعض أعلام الشعر الحديث ، والتي كانت بعضها " مستمدة من ديانات أخرى غير العقيدة الإسلامية ، بل ومما تأباه هذه العقيدة ،كفكرة الخطيئة ، وفكرة الصلب ، وفكرة الخلاص ، فضلاً عما يستبيحونه لأنفسهم لكلمة " الإله " كأنما هي ماتزال لديهم بمعناها الوثني …"( ) بما يولد عند بعض القراء نفوراً ؛ لانزياح الشاعر بعيداً عن الأفكار الأيدلوجية ، والعقائدية التي تبني تصوراته للكون ، والوجود ، والألوهية ، وهو مايسبب خدشاً للذائقة القرائية ، فالفنان انما يخاطب قوة معينة في القارئ ، وحدوث تصادم بين هذه القوة ، وماتتلقاه من أفكار ، يحدث إنكساراً ، ونكوصاً ، فلا تحدث الاستجابة المتوقعة ، بغض النظر عن القيمة الفنية للمقروء ، ولعل في " قصيدة المسيح بعد الصلب " أحد أبعاد هذه الإشكالية – كمثال بسيط - . أو كما في بعض قصائد" أغاني مهيار الدمشقي " لـ " أدونيس "
· تعدد الأصوات ، والأنوات ، وتداخلها : ( التناص )
في حين كانت القصيدة التقليدية تعتمد على الأفقية التعبيرية ( الوصفية ) ، ذات الصوت الغنائي ، والأنا المفردة التي تبنى على المحاكاة للأصوات الطبيعية ، والمشاعر الإنسانية ؛ جاءت القصيدة الحديثة ؛ لتهشم تلك السيرورة . فهي ترفض الأفقية وتنحو إلى العمودية التي تتكشف الأبعاد ألماورائية للواقع ، وأضحى النص الحديث لايتم في خطية ، أو أفقية واصفة تهتم بالتفاصيل ونقل المعلومات ، وانما الشاعر فيه يدير أحاسيس فحسب " ويصالح بين المتقابلات : الذات ، الموضوع ، الطبيعة ، التاريخ ، الضرورة ، الحرية … والموضوعات في هذا الشعر تتداخل ، وتتراكم "( ) بالرغم من محدودية هذه المواضيع التي قدلا تتجاوز نقطة واحدة – أحياناً – لا أكثر … كما أمست حركة الإبداع تسير من الحاضر نحو الماضي ، لتعود للحاضر .. كما يقول الناقد المغربي " رشيد يحياوي " ، بما يعني تعدد الأصوات ، وتداخلها : ماضياً ، وحاضراً ، بل ومستقبلاً – كذلك – وبالتالي : تعدد الانوات .وثمة أمثلة كثيرة من الشعر الحديث، أو الجديد تؤيد هذه القالة إبتداء بشعر " السياب – في العراق – كمثال – ومحمود درويش – في فلسطين – ، والدكتور عبد العزيز المقالح –في اليمن – وانتهاء بـ(أدونيس)– مثالا في الحداثة الجديدة–. وكمثال تطبيقي على هذا النهج الحديث قصيدة " محمود درويش " ( رحلة المتنبي إلى مصر ) والتي يقدم فيها الشاعر وصفاً لرحلة المتنبي إلى مصر لغرض اسقاطها على الواقع المعاصر من وجهة نظرشخصية ، والمطلع لقصيدة " المسيح بعد الصلب " لبدر شاكر يجد مثالا صادقاً على مفهوم " التعدد الصوتي "
إذ نجد عملية تماه يتم بمقتضاها حلول " الأنا " للشاعر في " الأنت " ( المسيح ) وتتحول " أنا " الشاعر إلى " أنا " لا " أنا " أو إلى أنوين : أنا المسيح المتكلمة في النص و"أنا" " السياب" القابع ، او المحتجب خلف تلك " الأنا " والأنوان تتداخلان ، وتتخارجان ، تتطابقان ، وتنفصلان بل تتفتحان على " أنا " ثالثة هي " أنا " تموز : "الأسطورة "( ) .
وللدكتور عبد العزيز المقالح – في اليمن – قصائد في هذا النحو التعددي للأصوات ذات التناصات التأريخية نحو قصيدة "مابعد الطوفان "، " هابيل الأخير"، " سيف بن ذي يزن " ، و"عودة وضاح اليمن " …وغيرها . ولن نمثل لأدونيس فشعره – معظمه – متداخل الأصوات ، والأنوات .. بما يجعلنا نعود لنؤكد على قارئ متسلح بمقاييس تذوقية ، وثقافة جديدة .
· الانفعال الصوفي :
مازال القارئ العربي يحيا – حتى الآن – وفق مفهوم تقليدي للتصوف في الأدب بما يحدث له لوثة في الذائقة ، حين يدرك بأن التصوف في الأدب ، والشعر – خصوصاً – قد أُفرغ – تماماً – من دينيته الروحية، وأضحى النص الجنسي ، مثلا – أو( الاستعرائي) هو نوع من الصوفية ، إذا ما التزم الشاعر شروط هذا النص – كالمرجعية اللفظية الصوفية – ..أما لماذا " الجنوسية " فلأن ثمة تشابها بين الطقوس الجنسية ، والطقوس الصوفية ، إبتداء بمرحلة الخلوة ، والانقطاع عن العالم الخارجي ، وإنتهاء ب( الآنتشاء ) لدى الصوفية " واللذة لدى العشاق ، ثم الفناء في الآخر ، أو الموت فيه . وفي سبيل تأصيل هذه التجربة ، اعتمد الشعراء المرجع الصوفي ، لأن فيه " تكثيفاً للدلالة ، وتخصيباً للغة : الكثافة في التخيل ، وفي ترهيف الإشارة ، والإيحاء ، والإيماء والترميز "( )
" قال ادن
فدنوت
تكاشفنا
وعلى شهقات الصدر المفجوع
تلمسني معراج النوم ( )
…………………
تأمل كيف يستخدم شاعرنا ألفاظاً ذات مرجعية صوفية من نحو " المكاشفة ، والمعراج " ليحقق بذلك قيمة شعرية مفرغة من البعد الديني للتصوف . ففي " التكاشف " – هنا – إيماء إلى " الفعل الجنسي" – نفسه – وفي " معراج النوم " إشارة إلى بلوغ الذروة ، ثم التماهي ، والذوبان ، والموت في الآخر ( الأنثى ) وهي حالة أشبه بحالة الصوفي " حين يتجاوز وضعية الانقسام ، والتناقض ، والانشطار" وبذلك تتحقق النشوة الروحية ، بتمام النشوة الجسدية ، وبلوغها الذروة ..
………………………..
ويفضل شاعر نحو " أدونيس " أن يستخدم المصطلح الصوفي لوصف تجربة استشفاف المجهول ، أو الباطن الكامن وراء أستار الواقع الكثيف ، أو الظاهرة ، ويجعل من هذه التجربة مرادفاً أصيلاً في تراثنا العربي لما يعرف في الغرب بـ( الحركة السريالية ) "( ) ، بنزوع هذه التجربة إلى طقس الحلم ، ونزعة الاستغراق في اللاوعي ، والميتافيزيقا ، إذ تشيع في كتاباته الصوفية فكرة " وحدة الكون " المرتبطة بفكرة "تناسخ الأرواح " وهي فكرة ارتبطت بـ(الإمامية الصوفية ) ، لكنه قد يلجأ إلى مقام الأنثى ليعبر عن نفس الفكرة بـ( الجنس)
أ" اقتربي يا شجرة الزيتون / اتركي لهذا المشرد ان يحضنك
أن ينام في ظلك
اتركى له أن يسكب حياته فوق جذعك الطيب" ( مفرد بصيغة الجمع)
……………………
وكيما يدلف القارئ إلى نحو هذه النصوص التي تتخذ من " الجنوسية" تصوفاً شعرياً ، عليه أن يكون متسلحاً بثقافة صوفية - ولو محدودة – كما يلج إلى هذه النصوص دون الوقوع في الحيرة ، والرفض لما يقرؤه، كأن يتهم الشاعر بالحرمان ، أو التحريض الجنسي المحض ، فتفوت عليه القراءة الجمالية الاستمتاعية ..
وبعد :
فإذا كنا خلال دراستنا هذه ، قد ألقينا لائمتنا على القارئ وحده ، ذلك الذي نخاطب فيه عقلية ، يجب أن يكون لها مرجعيتها ، وخلفيتها الثقافية العالية : سواء على مستوى اللغة : نحواً وصرفاً ، وبلاغة ، أو على مستوى الثقافة الشعرية : إيقاعاً ، وبناء فكريا، وموضوعياً – وهو عبء نعترف أنه كبير على قارئ يحيا هذا العصر السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، والثقافي – إلا أننا لجديرون بإنصافه ، ونحن نحمّل كثيراً من الشعراء تبعات انحدار الذائقة الجمالية لدى القارئ العربي لوقوع البعض في كثير من الانزلاقات التي يجب التصدي لها ، وأهمها :
· الإفراط في استخدام الرموز ،والأساطير اليونانية ، أو الشعبية التي قد لا يدرك القارئ العربي شيئاً عنها .
· تضارب الأفكار ، وتعاكسها ، وتناقضها في كثير من النصوص .
· التغريب الفاحش : ، واللجوء – أحيانا – إلى الألفاظ الحوشية التي عفى عليها الزمن .
· الاتجاه للكتابة دون الإلمام بابسط القواعد الشعرية ، ودون نضج للأفكار لدى البعض .
· فوضى التقليد ، والعبثية والمجانة ، واللاعقلانية المفرطة في الكتابة ، وهي سمة تكاد تغلب على كثير من شباب اليوم .
· الدخول إلى الحداثة من الباب الغربي ، والانقطاع التام عن التراث العربي ، بعدم قراءته - أولاً - للاستفادة منه ، بما يؤدي إلى اضطراب الرؤية الشعرية لدى أمثال هؤلاء .
· التجاهل التام لدور المتلقي بعدم عقد صلة (ما)بين الشاعر ، وقارئه.
· الانفتاح على اللغة دون وعي بالأدوات الفنية المساعدة على تبليغ الخطاب الأدبي إلى الآخرين .
· استعمال اللغة الصامتة ، أو الفراغات الصامتة دون إدراك، أو وعي ، بما يدل على الجهل الشديد لدى أمثال هؤلاء ، إذ نجد كثيراً من النصوص ، وقد حشاها صاحبها بالتنقيط الموزع هنا ، وهناك دون علم بما يفعل ، وكأنها " مودرنية" وحسب .
· الانطلاق إلى الحداثة من مفهوم : التخلص من الوزن ، والقافية ، وما أغبى نحو هؤلاء الشعراء ، الذين يعتقدون أن هذه هي الحداثة لأن نحو هذا الاتجاه دال على عجزهم ، وركاكة ثقافاتهم ، ووهنها.
· من أهم عثرات النص الحديث وقوعه في النسقية الواحدة بما ينطبق على كثير من الشعراء قول نزار قباني بأن الشعراء الحداثيين " يتشابهون أسلوباً ، ولغة ، وأداء ، كما يتشابه عشرون توأما ، نزلوا كلهم من بطن واحدة ، فإذا ماقرأت لواحد منهم أغنتك قراءتك عن قراءة الباقين ، فكأنما الشعر الحديث كله قصيدة واحدة يوقعها مئة شاعر " .

**************************
الهوامش
1- الأزمة أمّ الإبداع ، عبد الغفار مكاوي ، مجلة فصول ، جـ2 ، 1992م.
2- موت الشعر ، أحمد مرسي ، إبداع ، عـ 8 ، 1991م.
3- المصدر السابق .
4- انكسار النموذجين : الرومانسي والواقعي في الشعر ، شكري عياد ، عالم الفكر 19/1988م.
5- قتل الأب والكتابة الجديدة ، سهيل نجم ، أصوات عـ(3) ، 1993م.
6- الحداثة : معركة ام أزمة مقاييس ، متري نبهان ، الفكر العربي ، عـ 85 ، 1999م
7- الحداثة في القصيدة المعاصرة ، عبد الله المهنا ، عالم الفكر عـ (19) ، 1988م.
8- التجديد في الشعر العربي الحديث ، د. يوسف عز الدين ، ط 1971م، السعودية.
9- مازلت أؤكد على هذه التسمية لأنها الأنسب – باعتقادي – لهذا الجديد من الشعر .
10- محمد علي شمس الدين : من نص منشور في مجلة الحكمة اليمانية ، عدد 215، 1999م.
11- محمد المنصور ، شاعر يمني ، المصدر السابق .
12-عبد الودود سيف – شاعر يمني – من ديوانه الأول " زفاف الحجارة للبحر " ط، 1999م.
13- محمدعفيفي مطر ، من ديوانه " أنت واحدها " وهي اعضاؤك ، قصيدة " غنائية حجر الولاء والعهد .
14- أيضا ، المصدر السابق ، قصيدة " امرأة … "
15- أخذ هذا المقطع الشعري من دراسة منشورة للدكتور " محمد الخزعلي " مجلة عالم الفكر " . مصدر سابق .
16- يعد الشعر الحديث " جداً " غير خاضع لمفهوم " الأيدلوجية " التي خضع لها شعر التفعيلة في بداياته.
17- شعر الحداثة …، هنري نبهان مصدر سابق .
18- قضايا ومواقف ، ط 1971م ، عبد القادر القط .
19- المفاهيم معالم " محمد مفتاح ، ط 1 ، 1999م .
20- الأقنعة وتعدد الأصوات ، عبد الواسع الحميري ، مجلة الثقافة ، العدد (41-42)1998م .
21- من مقابلة لـ( محمد السرغيني ) " منشورة في صحيفة " الاتحاد الإشتراكي"17 مايو 1992م .
22- علوان الجيلاني – شاعر يمني – من قصيدة " الوردة تفتح سرتها " ديوان الوردة … " ط1 ، 1998م .
23- الدال والاستبدال ، عبد العزيز عرفه ، ط 1 ، 1993م
24- إضاءة النص ، اعتدال عثمان ، ط1 ، 1988م .



تمت طباعة الخبر في: السبت, 20-أبريل-2024 الساعة: 05:23 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/30435.htm