المؤتمر نت - محمد حسين العيدروس
محمد حسين العيدروس -
الاحتقان الثقافي في زمن ديمقراطي
ليس من خطر يواجه الشعوب أعظم من خطر الثقافة إذا ما انحرفت عن مسارها، وانقلبت على توجهات عصرها، وانسلخت من هويتها الوطنية، فالثقافة هي في الأساس مجموعة قيم وأفكار تحرص المجتمعات على التحلي بها كأطر للتعامل والتعايش اليومي بين أفرادها، لذلك يكون الخروج عن مسارها بمثابة شذوذاً عن القاعدة الأخلاقية العامة للمجتمع.

إلا أننا بين الحين والآخر نتحدث عن ما نسميه بـ(الاحتقانات) الثقافية، والإعلامية، وفي الخطابات السياسية، ويجد البعض منا صعوبة في فهم دواعي وجود هذا الاحتقان في ثقافة الفرد، أو المجموعة عندما نكون في بيئة ديمقراطية، تعيش الكثير من الانفتاح في حريات الرأي والتعبير، وتمتلك وسائل متعددة للتعبير، أو الاحتجاج، أو للتغيير، ومقاومة الانتهاكات التي قد تطول أي حقوق إنسانية، والأهم من كل ذلك هو إنها بيئة مؤمنة بثقافة التحاور والتشاور وتجاذب الآراء.

وفي الحقيقة إن حالة كهذه ليست قرينة مجتمع أو بلد بعينه دون سواه، بل إن معظم المجتمعات تعاني منها، ونحن في اليمن أيضاً نعاني منها، وإن اختلفت نسب المعاناة من مجتمع لآخر.. فالاحتقان هو توتر باتجاه معين، غالباً ما يتولد عن سلوك تعصبي إزاء موقف أو فكرة، أو نهج معين ينتهجه أحد الأطراف فيتخذ الطرف الآخر إزاءه سلوك متشدد، ومتوتر يرفض في ظله كل الخيارات المتاحة أو البدائل المقدمة.
فإذا ما تحدثنا عن واقعنا اليمني، نجد أن هناك قوى سياسية رافضة لكل شيء مما يدور حولها طالما وان هذا الشيء لم يأت عبرها، فهناك من يرفض الاعتراف حتى بالشارع الذي يسير عليه لمجرد أن هذا الشارع أنجزته الحكومة التي هو ليس جزء منها، ويرفض الاعتراف بالمدرسة التي يراها بأم عينيه، وأبنائه يدرسون فيها لمجرد أنه لم يكن مشاركاً في بنائها، وإذا ما تقدم الحزب الحاكم أو غيره من القوى بمشروع سياسي معين فإنه يقف منه موقف المقاوم، ويجند كل إمكانياته لإعاقته طالما وان هذا المشروع لم يكتب في مقره الحزبي، ولا بقلمه ولا يوافق أهوائه حتى وإن كان يوافق أهواء الملايين من أبناء الشعب.

وبطبيعة الحال إن الموقف المتزمت الرافض للآخر –جملة وتفصيلاً- هو ليس إلا ترجمة لأنانية هذا الطرف، وغروره وتعصبه الأعمى لأفكاره وأساليبه في العمل السياسي الوطني، ومن ناحية أخرى فإنه يمثل أيضاً تقوقعاً على ثقافة معينة مرتبطة بأدبيات الماضي وظروفه وخياراته، وعندما نبحث عن أسباب هذا التقوقع، والتزمت نجد أن هناك مخاوف شديدة لدى أصحابه من الانعتاق منه ومجاراة ثقافة العصر، ليس لأن الحياة العصرية تسير على غير هدى، لأنهم بالأصل يندمجون في ممارساتها الديمقراطية والانفتاحية، ويتمتعون بمباهجها المختلفة، بل لأنهم أدوات تفتقر إلى المهارات الثقافية والسياسية التي يحتاجها العصر، لذلك يسعون جاهدين لتطويع العصر لثقافتهم، وأساليبهم في العمل ولأدبياتهم.

إن مشكلة الاحتقان أو التوتر والشد النفسي الذي تعيشه بعض القوى السياسية ما هو إلا مقاومة نفسية لثقافة العصر، أي أنها مقاومة لثقافة الحوار، وللشفافية، وللاعتراف بالآخر، وللتنافس النزيه والمشروع من أجل صناعة القرار، فبعض القوى ما زالت تفضل الأساليب القديمة في الوصول للسلطة والتي غالباً ما كانت تعتمد على الانقلابات والصراعات الدموية، والاغتيالات السياسية، والثورات، والعمل المسلح، وهي طبقاً لتلك العقلية لا تستطيع أن تتخيل كيف يمكن أن يؤدي صندوق الاقتراع إلى السلطة، ولا تستطيع هضم أن المواطن الفلاح والعامل والموظف الصغير والمرأة هم من بأيديهم قرار منحها حق الحكم، وليس الدبابة والمدفع والرشاش، وليس أيضاً مباركة الدول الكبرى كما كان سائداً في الماضي.

من هنا يتولد الاحتقان داخل المجتمعات، وتبدأ بعض القوى بالإصرار على قبول خياراتها وأفكارها وأساليبها ورفض كل ما هو قائم حولها لأنها تعجز من مجاراة التطور الهائل في مفاهيم الحياة العصرية الديمقراطية التي لا حياة فيها للرأي الواحد، ولا حياة فيها لمن يدعي الأفضلية لنفسه ولا يترك ذلك لقرار أبناء الشعب وصناديق الاقتراع التي تناط بها مسئولية منح الأفضلية لمن اختاره الشعب لتحقيق أحلامه وأمانيه وبناء مستقبل أجياله.
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 10-مايو-2024 الساعة: 11:35 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/54107.htm