بقلم-سعيد السُبكي -
الصحافة العربية والأوروبية... أنماط وأبناط

في صحافتنا العربية المكتوبة كثير من الأشياء تحتاج للتطوير وأكثر لا بد أن نسعى جاهدين لتغييرها، وتحسينها، ومن سمات المساواة والعدل أن نسارع في التعامل مع قضايانا "نحن معشر الإعلاميين" مثلما نتعامل تماما مع كافة القضايا الأخرى بدون تمييز، فمن حق القارئ علينا خاصة في عالم الإعلام والفضائيات المفتوحة أن يعرف كل شيء، وطالما أن الله سبحانه وتعالى منحنا نعمة وفرص القول والكتابة، وأن نرفع أصواتنا أو نكتُب، نوجه اللوم لهذا مرة، ونعترض على ذاك مرة أخرى، وثالثة نتناول المسؤولين والحكومات بالعتاب والاعتراض، في حدود المُتاح طبعا، فواجب علينا ألا نستثني أنفسنا من هذه الأنماط، حتى لا نكسب أبناطاً على حساب الآخرين، وليست المسألة هي بقصد جلد الذات بقدر ما هي نوع من رصد الواقع، أو توجيه النقد لأنفسنا.
في هولندا عدد من المطبوعات الدورية المتخصصة التي تتناول قضايا الإعلام والإعلاميين من الداخل، تكشف بجرأة ودون حساسيات الأخطاء، وتقوم بتعرية المواقف للمشتغلين في المهنة، وهى مطبوعات بمثابة منبر حيادي وموضوعي، هذا إلى جانب أنه توجد في الصحف ذاتها صفحات متخصصة لتلك القضايا، إنه نوع من حُرية التعبير عن الرأي، الذي يدخل في إطار ما يُطلق عليه الديمقراطية، وهو أيضا نوع من الحفاظ على حق القارئ والمسؤول في المساواة، فالكل سواسية من حيث الحقوق والواجبات.
ففي المؤسسات الصحفية الأوروبية والهولندية خاصة أجد مناهج إدارية وأعرافا وعادات إعلامية، أتمنى أن يكون لدينا مثلها في وسائل إعلامنا العربية المكتوبة، ولديهم كم هائل من المطبوعات المُتخصصة في مختلف المجالات، إضافة إلى أن النمط الغالب في الصحافة الهولندية هو أن الغالبية العظمى من المواد الصحفية المنشورة، أي الموضوعات، سواء كانت مقالات الرأي الثابتة.. الخبر المُجرد.. التحليل الإخباري.. التحقيق الصحفي الحي من أرض الواقع.. وغير ذلك الكثير كله يدور ويصُب في إطار خدمي للقارئ، يُباشر ويتوجه للمواطن الذي هو همه الأول، أما الموضوعات السياسية فنصيبها يحتل النسبة الأقل، فقضايا مثل البيئة، من حيث التلوث والتحسين المطلوب، صحة الإنسان والحيوان فيما يختص بالرعاية لها، الصحة النفسية، النظافة العامة والخاصة، مياه الشُرب، الصرف الصحي، الكهرباء، سلوكيات المواطنين، التعليم، وما إلى ذلك من ملفات وقضايا ذات فوائد حقيقية، تعتمد على محاور أساسية أهمها: التنوير، التحريض الإيجابي، إثارة مشاعر الغيرة بهدف حث القارئ على التقليد الإيجابي.
ولكي يخرج هذا العمل كما ينبغي له، ويحقق أهدافه، هناك الأساليب الإدارية الواضحة داخل المؤسسات الصحفية، والوظائف والمهن المُحددة التي تخلو من الخلط، وجمع مهام وواجبات مُتضاربة تؤثر بما لا يدع مجالا للشك في جودة العمل الصحفي، فلا تجد مثلا أدنى علاقة مُباشرة لرئيس تحرير الصحيفة بمسائل إدارية، مثل الإجازات، المرتبات، المنح المالية، المكافآت، لذلك فمنصب رئيس التحرير هو مهنة حرفية إعلامية، يُمارسها وفق خطة عمل مرسومة، بالتنسيق مع رئيس مجلس الإدارة ومُدير التحرير، أما من يقوم بوضع خطة العمل الإعلامية فهو مُتخصص فني، عادة لا يُمارس مهنة الكتابة، ومهمته أيضا تنفيذ "وثيقة التحرير" التي هي قانون وسياسة وفلسفة المطبوعة، ويراقب مسار العمل حفاظا على عدم خروج الصحيفة على الخط المرسوم لها، والذي ارتضاه كل من يعمل بداخلها طوعا، وبدون أي نوع من الضغوط، أو قبول العمل بسبب الاحتياج الاقتصادي، لذلك لا نجد كاتبا من المُحافظين يعمل في صحيفة تدعو للبرالية، أو كاتبا اشتراكيا يساريا يعمل في مطبوعة ليبرالية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفصل في التخصصات، ووجود مُدير إداري "غير مُدير التحرير" يجعل العمل الصحفي ذا شفافية، فهذا المدير الإداري له سلطات يستمدها من ضرورة ومصلحة العمل فقط، وهي اتصاله المُنتظم بمجلس إدارة الصحيفة الإداري والفني، كما أن مسؤوليته لا تقتصر على ذلك فحسب، لأنه مُطالب أمام "نقابة - اتحاد الصحفيين" بتنفيذ القوانين، التي لا يستطيع مُجرد التفكير في مخالفة اللوائح والإجراءات، التي وضعت لحماية القارئ والصحفي، وتضمن عدم تغليب نفوذ أو سُلطة لأي طرف على آخر، كما أنها - النقابة - لا تغالي في مطالبها، ولا تجهض حتى حقوق أصحاب العمل، وذلك في إطار سيادة القانون، والسياسات التوفيقية المرنة التي يلتزم بها كافة الأطراف.
وأيضا من السمات العادلة في الصحافة الهولندية، أن القارئ يعرف الكاتب من عمله فقط، من حيث الأداء الجيد والمُتميز، وليس من حجم البُنط الذي يُكتب به اسمه بجانب المادة الصحفية التي يكتبها، وطبعا الصُحف الهولندية لا تعرف نمط كتابة أسماء الصحفيين بأبناط مُختلفة الأحجام، فأحجام كتابة الأسماء كلها واحدة متساوية في النوع، ولا فرق في ذلك بين صحفي عمره المهني 10 سنوات أو 20 سنة، فالمسألة عندهم ليست كما هو الحال في عدد من الصحف العربية عندنا، تخضع للأنماط والتمييز بحجم الأبناط.
*كاتب صحفي بهولندا
-الوطن السعودية

تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 14-مايو-2024 الساعة: 07:32 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/6141.htm