البرنامج النووي الإيراني على مفترق طرق - عن الرؤية الإسرائيلية والأميركية - شروط الضربة الإجهاضية الفعالة - هل يكون العراق قاعدة الهجوم؟ - القوة الصلبة والشعارات المنمقة أصبح البرنامج النووي الإيراني على مفترق طرق حاسم وخطر، فإما أن تخرج إيران من المأزق الحالي قوة إقليمية ودولية يحسب لها العدو والصديق ألف حساب، وإما أن تنفتح عليها أبواب معاناة مريرة، شبيهة بمعاناة العراق خلال العقدين المنصرمين. فإذا نجح الإيرانيون في اكتساب قوة نووية، فسيصبحون قادرين على ردع العدوان الخارجي، وزيادة وزنهم الإقليمي والدولي، وكسر حاجز العزلة عنهم في عالم يحترم القوة ولا يؤمن بالمواعظ. وإذا خسروا التحدي الحالي، فسيكون ذلك فاتحة تراجع كبير في مشروعهم الإسلامي والوطني، وتكريسا لارتهان المنطقة بأسرها للتدخل الخارجي والإخضاع الكامل. ويبدو أن كلا طرفي المعادلة ممكن ووارد اليوم، ويتوقف رجحان أي منهما على عوامل كثيرة، منها مستوى الحنكة لدى القيادة الإيرانية، وردود الفعل الإسرائيلية والأميركية، وإمكانيات التدمير العسكري للمنشآت، وثمن ذلك التدمير إن حصل، وإمكانية حصول إجماع دولي حول الموضوع. يرى الإسرائيليون في البرنامج النووي الإيراني كسرا لاحتكارهم القوة النووية في المنطقة في وقت السلم، وخطرا وجوديا عليهم في وقت الحرب " عن الرؤية الإسرائيلية والأميركية يرى الإسرائيليون في البرنامج النووي الإيراني كسرا لاحتكارهم القوة النووية في المنطقة في وقت السلم، وخطرا وجوديا عليهم في وقت الحرب. فهم يقرؤونه إذن قراءة عسكرية بالأساس. أما الأميركيون فيدركون أن البرنامج النووي الإيراني لا يشكل خطرا عسكريا على الولايات المتحدة، وإنما يقرؤونه برؤية إستراتيجية أوسع وأبعد مدى من المخاطر العسكرية المباشرة، فيرون أنه سيغير المعادلة الإستراتيجية السائدة اليوم في الخليج والشرق الأوسط تغييرا عميقا، يسحب البساط من تحت العملاق الأميركي المخيم بظلاله على المنطقة منذ سبعة عقود. ويخشى الأميركيون من بعض آثار القوة النووية الإيرانية تحديدا، ومن هذه الآثار: أولا: ستصبح إيران منافسا لهم في النفوذ في منطقة الخليج والشرق الأوسط التي طالما انفردوا بها، وستفرض عليهم أن يحسبوا لها حسابا جديا في كل سلوكهم السياسي في المنطقة، فلا توجد يد طليقة في ساحة يوجد بها قوتان نوويتان متنافستان. ثانيا: سيتولد إحساس لدى بعض الدول المسلمة في الخليج والشرق الأوسط أنها أصبحت في غنى عن مظلة واشنطن العسكرية التي ظلت تحتمي بها طيلة العقود السبعة الماضية، وربما يحدث نفس الشيء مع بعض دول آسيا الصغرى المسلمة التي انخرطت في الحلف الأميركي مؤخرا. ثالثا: تستطيع إيران إذا تحولت إلى قوة نووية أن تدخل في حلف مع دول مسلمة في المنطقة منها باكستان وتركيا والعراق والسعودية، فيما يشبه النواة الصلبة لقوة إقليمية مسلمة لها وزنها العسكري والاقتصادي والسياسي، خصوصا إذا حدثت تغييرات في أنظمة الحكم في بعض تلك الدول. رابعا: تستطيع إيران النووية أن توثق علاقاتها مع الصين، فيما يشبه حلفا دوليا جديدا في آسيا، يجعل الهيمنة الأميركية على آسيا تتقلص وتتراجع أمام العملاق الصيني الصاعد وحلفائه من المسلمين الذين ملوا تدخل القوى الغربية في شؤونهم واستهتارها بمصائرهم. شروط الضربة الإجهاضية الفعالة وقد كتب العديد من الإستراتيجيين الإسرائيليين والأميركيين في الأعوام الأخيرة عن البرنامج النووي الإيراني وأهميته العسكرية، ومغزاه السياسي والإستراتيجي، وإمكانات تدميره وقتله في المهد. ومن أهم الدراسات الصادرة حول الموضوع كتاب "الاستعداد لإيران نووية" Getting Ready for a Nuclear-Ready Iran الصادر منذ ثلاثة أشهر عن "معهد الدراسات الإستراتيجية" التابع للجيش الأميركي، بتمويل من وزارة الدفاع الأميركية، واشترك في تأليفه16 خبيرا إستراتيجيا من أميركا وإسرائيل وأوروبا. ويكاد الخبراء الإستراتيجيون يُجمعون على أن نجاح أي ضربة إجهاضية ضد البرنامج النووي الإيراني يتوقف على أربعة شروط هي: " الخيارات الإسرائيلية ليست سهلة في كل الأحوال، لأن احتمال النجاح ليس مضمونا، والمخاطر كبيرة، والثمن الذي ستدفعه إسرائيل جراء عملية ضرب المفاعلات النووية الإيرانية مؤكد " • توفر معلومات دقيقة عن مواقع المفاعلات النووية الإيرانية، وهذا أمر تتكفل به فرق التفتيش الدولية عادة. كما أن الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية والأميركية المصممة لغايات التجسس تزود بمعلومات مهمة عن هذا الشأن. • القرب المكاني الضامن لوصول الطيران العسكري إلى الأهداف داخل إيران وضربها والرجوع إلى القواعد. وهذا يثير إشكالا للإسرائيليين الذين يبعدون عن المفاعلات الإيرانية حوالي 1500 كلم، لكن مصاعب المسافة يمكن التغلب عليها، من خلال الانطلاق من العراق، كما سنرى فيما بعد. • القدرة على مفاجأة السلاح الجوي الإيراني، وإلا فإن الطيران المهاجِم قد يتعرض نظريا للإسقاط، كما يمكن إبعاد بعض المواد والتجهيزات عن منطقة الخطر إذا لم تحصل مفاجأة. لكن سلاح الطيران والدفاع الجوي في إيران متخلفان جدا بالمقارنة مع القوة الأميركية والإسرائيلية. • غطاء سياسي عالمي، وهذا غير متوفر الآن، لكن من الوارد أن يتوفر مستقبلا بيسر. فالمظلة الدولية الوحيدة التي تحتمي بها إيران اليوم هي روسيا والصين، وهما حليفان لا يمكن الوثوق بهما في ساعات الحرج، ولديهما من المصالح المتبادلة مع واشنطن وأوروبا ما يصلح لمقايضات من وراء ستار في شأن إيران. ويبقى العائق الجدي الذي قد يحول دون وقوع أو نجاح ضربة إجهاضية ضد المنشآت النووية الإيرانية محصورا في أمرين اثنين: أولهما:أن المواقع النووية الإيرانية متعددة، حيث يقدر عددها الآن بتسعة عشر موقعا، وهي متباعدة في المكان على مساحة الدولة الإيرانية. كما أن بعض هذه المواقع مبني تحت الأرض، ومحصن تحصينا قويا. فإذا قررت إسرائيل أو الولايات المتحدة أو هما معا ضرب المنشآت الإيرانية فلن يكون الأمر ضربة واحدة، بل حملة جوية شاملة قد تستمر يومين أو ثلاثة على مدار الساعة، بحكم تعدد المنشآت الإيرانية وتباعدها. وفي هذا الشأن يقول الجنرال شلومو بروم رئيس دائرة التخطيط بالجيش الإسرائيلي سابقا: "إن أي محاولة لضرب البرنامج النووي الإيراني تستلزم هجمات متواصلة على أهداف كثيرة نسبيا، ومحصنة تحصينا قويا". ونجاح حملة مستمرة أصعب وأكثر تعقيدا من نجاح ضربة واحدة شبيهة بضربة المفاعل النووي العراقي عام 1981، كما أن عنصر المفاجأة سينتهي مع أول ضربة، وهو ما سيمكِّن الإيرانيين من تنظيم دفاعاتهم واستنقاذ ما يمكن إنقاذه. وثانيهما: أن ردود الفعل الإيرانية مؤكدة وباهظة الثمن. ويخشى الإسرائيليون على وجه التحديد من صواريخ "فجر" التي زودت بها إيران حزب الله اللبناني، والتي تؤرق سكان شمال إسرائيل، وصواريخ "شهاب" الإيرانية البعيدة المدى، لأنها قادرة على الوصول إلى المدن الإسرائيلية. فإذا أدى قصف إسرائيل للمواقع النووية الإيرانية إلى تسرب إشعاعي، فإن استعمال الإيرانيين للسلاح الكيماوي ضد إسرائيل يصبح أمرا مؤكدا، وهو ما يرعب الإسرائيليين. ومن ردود الفعل الإيرانية الممكنة ضد إسرائيل ضرب المصالح الإسرائيلية عبر العالم من خلال الجماعات الإسلامية واليسارية ذات الصلة بإيران. وقد توصل العديد من الإستراتيجيين الإسرائيليين إلى أن الخيارات الإسرائيلية ليست سهلة في كل الأحوال، لأن "احتمال النجاح ليس مضمونا، والمخاطر كبيرة، والثمن الذي ستدفعه إسرائيل جراء العملية مؤكد" حسب تعبير الجنرال شلومو بروم في بحث له ضمن كتاب "الاستعداد لإيران نووية" الذي أشرنا إليه في صدر هذه المقال. ضرب النووي الإيراني سيزيد التأزم في المنطقة ويرفع نصيب القائلين بالحرب الأبدية بين أميركا والمسلمين مثل تنظيم القاعدة، ويقرب الهوة بين الإيرانيين الشيعة والجهاديين السلفيين، وهو ما يضيع على واشنطن لعبة ضرب بعضهما ببعض " هل يكون العراق قاعدة الهجوم؟ غزو العراق غير خريطة العمليات، وجعل ضرب إيران وتدمير برنامجها النووي أمرا ميسورا من الناحية العسكرية، وإن كان ثمنه السياسي أغلى، فوجود الجيش الأميركي في العراق يعطي الإسرائيليين فرصة ذهبية قد لا تتكرر أبدا، لأن الأميركيين يستطيعون إمداد الطيران الإسرائيلي بالتسهيلات والوقود، وبالأجواء الآمنة في طريقه إلى إيران ذهابا وإيابا. بل يستطيعون السماح للطيران الإسرائيلي بالانطلاق من العراق – مع التستر على ذلك طبعا- وهو ما يختصر على الإسرائيليين المسافة، ويجعل طيرانهم قادرا على ضرب المنشآت الإيرانية بسهولة أكبر، ثم يرجع بعد الضربة إلى إسرائيل رأسا، ويتولى الإعلام بعد ذلك إخراج الأمر على أنه بطولات إسرائيلية محضة. لكن الأمر لن ينطلي على الإيرانيين، وسيكون الثمن السياسي الذي ستدفعه أميركا جراء ذلك باهظا، وليس أقله أن تقرر إيران الوقوف وراء المقاومة العراقية، وتزويدها بالتدريب وبالسلاح، أو تقرر استعمال نفوذها السياسي على شيعة العراق لإحداث مصاعب سياسية كثيرة لواشنطن في العراق، كما تستطيع إيران فتح حرب مناوشات مع الأميركيين في منطقة الخليج، ومع الإسرائيليين في جنوب لبنان، هذا إلى استعمال الصواريخ لضرب إسرائيل مباشرة. وليس من شك في أن ضرب المنشآت النووية الإيرانية –خصوصا إذا انطلق من العراق- سيزيد التأزم السائد في المنطقة، وسيرفع نصيب القائلين بالحرب الأبدية بين أميركا والعالم الإسلامي، مثل تنظيم القاعدة وحواشيه، كما أنه سيقرب الهوة بين الإيرانيين الشيعة والتنظيمات الجهادية السلفية، وهو ما يضيع على واشنطن لعبة ضرب بعضهما ببعض في العراق وفي مواطن أخرى. القوة الصلبة والشعارات المنمقة يقول الإسرائيليون إن المشكلة ليس السلاح النووي، بل النوايا الإيرانية، وهو قول باطل على أية حال، فإيران النووية ستفكر بطريقة مختلفة في علاقاتها الدولية، وستخشى التدمير المتبادل كما يخشاه الآخرون. لكن الرئيس أحمدي نجاد منح الإسرائيليين ذريعة لتسويغ "عدوانية إيران" و"خطرها على العالم المتحضر" أمام الشعوب الغربية، من خلال خطاباته النارية حول اليهود والهولوكوست. مآل البرنامج النووي الإيراني لا تتوقف آثاره عند حدود إيران، بل هو معلم من معالم التطور السياسي والعسكري في منطقة الخليج والشرق الأوسط سيكون له ما بعده " فإذا اقتنع العالم الغربي بأن القيادة الإيرانية لا تؤمن بتبادل الرعب رادعا، فسيتكون حلف دولي عريض ضد برنامج إيران النووي، وستخسر إيران أقرب القوى الدولية إليها اليوم، وهي الصين وروسيا. ويبدو أن القيادة الإيرانية الجديدة لا تفهم حساسية الضمير الغربي تجاه كل ما يتعلق باليهود وبالهولوكوست. وكان جديرا بالرئيس الإيراني أن يتعلم من المأساة العراقية أن الشعارات المنمقة لا تغير المعادلات الإستراتيجية، لكن القوة الصلبة تغيرها، وأن يحذر من ارتكاب الحماقات التي ارتكبها صدام من قبل، فأضاع العراق ولم يكسب فلسطين. فالتبرع بخمسة ملايين دولار لأرامل ويتامى فلسطين أعظم نفعا للقضية الفلسطينية من شتم اليهود وإنكار الهولوكوست. لقد اعتمدت إسرائيل أسلوب التستر على برنامجها النووي، رغم أن لا أحد يشك في وجود قنابل نووية بحوزتها منذ عقود، إدراكا من قادتها أن العنتريات تضر بقضيتهم ولا تخدمها، بينما انتحى صدام حسين بالأمس، وأحمدي نجاد اليوم، أسلوب الإثارة والعنتريات، فأثار كلاهما العالم الغربي ضد بلده في لحظة حرجة هو فيها في أمس الحاجة إلى هدنة حتى يستكمل بناء قوته الرادعة. وحتى الإسرائيليون يعلمون جيدا أن شيئا من الحكمة والحنكة سيمكنان الإيرانيين من تحقيق مطامحهم النووية، فهذا "أفرايم أسكولاي" من مركز "جافي" للدراسات الإستراتيجية بتل أبيب، يتوصل في مقال له مؤخرا، إلى أن "الإيرانيين إذا لم يرتكبوا حماقة سيحققون أهدافهم دون أي عقوبات". ومهما يكن من أمر، فإن مآل البرنامج النووي الإيراني لا تتوقف آثاره عند حدود إيران، بل هو معلم من معالم التطور السياسي والعسكري في منطقة الخليج والشرق الأوسط، سيكون له ما بعده. فهل يدرك أهل الرأي والقرار في إيران والمنطقة معنى ذلك ومغزاه..؟. __________________ كاتب موريتاني المصدر الجزيرة نت |