اليمن والعرب وأزمة السوق العالمية هل يتأثر اليمن بخاصة والعرب عموماً بالازمة الرأسمالية الراهنة كما تأثروا من قبل بانهيار الحرب الباردة؟ ما الدرس الذي تحمله هذه الازمة؟ وهل يمكن الانخراط في النظام العالمي والوقاية من ازماته في الآن معاً؟ هذه الاسئلة جديرة بالمقاربة في ضوء الانهيارالمالي المستمر منذ ازمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الامريكية. نبدأ اولا بتشخيص الازمة ونعود من بعد الى الاسئلة. يخطىء بعض المثقفين العرب إذ يؤكدون أن الرأسمالية لامنظرين لها بخلاف الشيوعية والاشتراكية.ذلك أن «ادم سميث» و«دافيد ريكاردو» و«مالتوس» هم من الاسماء اللامعة بل المؤسسة لاقتصاد السوق ولافكار التبادل الحر في عصر الثورة الصناعية البورجوازية .ولعل «كارل ماركس» كان السباق الى الانتباه الى اهمية المفكرين الثلاثة في بريطانيا وهو الذي بنى نظريته على خلاصة الاقتصاد السياسي الانجليزي والاشتراكية الفرنسية والفلسفة الكلاسيكية الالمانية- أي العلوم الثلاثة الأكثر تطوراً في اوروبا في القرن التاسع عشر.ولايحتاج المرء لان يكون متخصصاً في الاقتصاد كي يقترب من افكارهم بل ربما لايفوت طلاب الثانوية العامة في بعض البلدان العربية الاطلاع بدافع الدراسة على مساهماتهم التأسيسية في التنظير للرأسمالية. ومن بين الثلاثة ربما يمكن اعتبار «ريكاردو» الاب الروحي للتبادل الحر فقد استنتج بالاستناد الى اعمال «ادم سميث» ومن خلال معاينته لحركة الاسواق ان كل الامم لديها مصلحة مؤكدة في الانخراط في التجارة الدولية بما في ذلك الامم الاقل قدرة على المنافسة شرط ان تتخصص في الانتاج. وشرح استنتاجه هذا عبر مقارنة بريطانيا بالبرتغال فكلاهما ينتج النبيذ والقماش. مثال:» البرتغال تنتج عشرين متر قماش و300 ليتر نبيذ في ساعات عمل محددة وبريطانيا تنتج في الساعات نفسها 10 متر قماش و100 ليتر نبيذ.. واوصى بان تتخصص بريطانيا بانتاج القماش لانها يمكن ان تحصل مقابل 10 م قماش على 150 ليتر نبيذ برتغالي في حين انها تحصل على 100 ليتر من النبيذ البريطاني مقابل امتار القماش العشرة إذا ما انحصر تبادل النبيذ بالقماش في سوق بريطاني مغلق. في حين ان البرتغال تحصل بدورها على قماش اكثر مقابل النبيذ الذي تنتجه فيما لو تخصصت بانتاج النبيذ وحده وانخرطت في التبادل الحر في سوق مشترك». واعتبر «ريكاردو» ان التبادل الحر القائم على التخصص يؤدي الى زيادة الانتاج في البلدين وان السوق الحر يضمن سيرورة التبادل و المنافسة لصالح الطرفين عبر تنظيم نفسه بنفسه. وما يصح على بريطانيا والبرتغال يصح على كل امم العالم. والواضح ان نشوء السوق الرأسمالية العالمية هو من أثر نظرية «ريكاردو» الذي شدد على وجوب التخلي عن نظام الحماية إذ يقيد المنافسة الحرة بقيود وطنية, هكذا كانت بريطانيا السباقة الى الغاء قوانين الحماية عام 1846 استناداً الى تشخيصه وبعد اقل من ربع قرن على وفاته. ما من شك أن حجم السوق الحر اتسع ليشمل كل الكرة الارضية وعبره حطمت الرأسمالية كل القيود التي اعترضتها داخل وخارج بلدان المنشأ وما عاد احد يجرؤ على مواجهة جبروتها وماعاد بوسع احد ان ينظم ايقاعها وبالتالي أن يحتمي من اثارها ما خلا فترة الحرب الباردة حيث شكل العالم الشيوعي قطبا كابحا للراسمالية وللتبادل الحر . كانت صراعات الحرب الباردة تدور في احد وجوهها بين افكار « ريكاردو» من ناحية وافكار «كارل ماركس» من ناحية أخرى، فقد اتفق ماركس مع ريكاردو على أن «قوة العمل» هي التي تصنع راس المال وعارضه في وجوب تمتع العمال بنتائج العمل وليس اصحاب الرساميل فكان أن ادت الحرب الباردة الى نشوء سور عملاق بين عالمين وانتهت بانتصار «ريكاردو» على «ماركس» وبالتالي وصول التبادل الحر الى اقاصي العالم وانتشار الراسمالية على كامل مساحة المعمورة ومعها سيطرة الغرب ومن حالفه من الامم القوية شأن اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل والصين وغيرها. «سقوطنا سيكون هدية مسمومة لكم» بهذه العبارة خاطب الروس الولايات المتحدة الامريكية عشية انهيار جدار برلين ولعل الازمة الراهنة التي تضرب اقتصاد السوق والتبادل الحر تعطي هذه النبوءة قدرا من المصداقية ذلك أن الرأسمالية المنتشية بانتصارها على القلاع الشيوعية بقوتها الاقتصادية والاخلاقية صارت بلا منافس وبلا رادع فتخلصت من بعد تدريجياً من اثقالها الاخلاقية واطلقت العنان لنزعتها الوحشية ومعها صار العالم اشبه بغابة مع فارق معتبر هو ان غابة الرأسمالية منفلتة من كل قيد في حين ان عالم البهائم في الادغال ينتظم في هرمية طبيعية وتوزان بيئي يتيح للوحوش المفترسة التكاثر بقدر تكاثر الحيوانات القارضة. بل تحترم بعض الحيوانات المفترسة الطبيعة غريزياً فلا تصطاد الا الحيوانات المريضة والمصابة أو الاقل قدرة على الدفاع عن نفسها ولا تلتهم الوحوش بعضها البعض الا في حالة واحدة حين يقع الجفاف ويندر الماء ويسود القحط وتموت القطعان فتبادر فصيلة الوحوش الاقوى الى التهام الفصيلة الاقل قوة وهكذا دواليك الى أن يلتهم الاسد أشباله ويموت جوعا. وكما في الغابة حيث تصطاد الذئاب ما يفوق حاجتها للبقاء على قيد الحياة سارت الرساميل المتوحشة على رسم الذئاب فأخذت تفترس طرائدها بلا حساب وبما يتخطى قوانين البشر والطبيعة( رواتب بعض مدراء المصارف والشركات المالية تعادل الميزانيات السنوية للعديد من الدول الفقيرة) فكان أن التهمت ما تيسر لها في البلدان الضعيفة والفقيرة التي خضعت صاغرة لأوامر ووصفات «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» و من ثم انحسرت نحو البلدان الغنية لتلتهم القطاع العام ولتجد نفسها من بعد في مواجهة بعضها البعض تخوض منافسة انتحارية اذا ما قيض لها ان تستمر قد تهدد الرأسمالية نفسها بالفناء وبالتالي تتحقق نبوءة ماركس من أن الرأسمالية تحمل بذور زوالها في رحمها . الا إذا تمكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من إصلاح النظام الرأسمالي العالمي كما يزعم وهذا علمه عند الله وحده. إذا كان صحيحاً أن «كارل ماركس» مؤسس الشيوعية قد سقط بالضربة القاضية بمواجهة «دافيد ريكاردو» منظر السوق الحرة والتبادل غير المقيد فالصحيح ايضا ان انهيار الرأسمالية لا يبعث الماركسية حية فكلا النظريتين تنطلق من السوق المفتوح ومن النظام الصناعي الذي انبثق في القرن التاسع عشر. وما نشهده اليوم هو تغيرات جوهرية في هذا النظام. فقد خرجت «قوة العمل» و«الملكية الخاصة»- التي بنى عليها ماركس جزءاً مهما من نظريته - من عقالها الوطني وما عاد عمال اوروبا والغرب عمالا ينهض على قوتهم العضلية جوهر العملية الاقتصادية.. وما عادت الملكية الخاصة مقيدة بقيود وطنية بحتة بعد ان تداخل الوطني بالعالمي في حين صارت الرأسمالية أممية قاهرة للوطنيات بعد أن ظلت قومية لأكثر من قرنين وصارت مجردة تماما من الاخلاق والمعايير الانسانية ومشدودة نحو الربح المطلق ولا شيء غير الربح، حيث يتجمع أكثر من نصف ثروة البشرية في المحميات الرأسمالية من الضرائب والرقابة شأن سويسرا ولوكسمبورغ ولشنشتاين و بعض جزر الكاريبي وغيرها في حين يتكدس معظم النصف الباقي في المبادلات الافتراضية، أما الانتاج العالمي الحقيقي فهو لا يتعدى ال 2٪ من قيمة التبادل المالي الضخم الذي انفجر مؤخرا و ما زال ينفجر كفقاعة عملاقة. ربما كان اليمن البلد الوحيد في العالم العربي الذي استفاد من انهيار الحرب الباردة عبر استئناف وحدته الوطنية بعد سقوط النظام الماركسي في عدن وهو اليوم البلد العربي الاقل انخراطاً في السوق الافتراضية، حيث لا بورصة معرضة للانهيار ولا سوق مكتملة الرسملة ولا خصخصة شاملة لكل القطاعات الانتاجية ولا ارتباط سياسي عضوي بالدول الرأسمالية العملاقة ولا تطبيق حرفي لوصفات الصناديق الرأسمالية، ما يعني ان آثار الازمة ستكون محدودة على الاقتصاد اليمني.. وهذا ليس مديحاً للواقع الراهن وانتصارا له بل تقريراً لأمر واقع. بالمقابل ربما يستخلص اليمن وتستخلص الدول العربية درساً من هذه الازمة كماهو من انهيار الحرب الباردة من قبل.. وهو انه إذا كان العالم قرية واحدة فإن الخصوصية في هذه القرية تحمي من تقلباتها وازماتها البنيوية و من الزلازل التي تضربها دورياً وذلك عبر الحفاظ على الهوية والثقافة المحلية والتاريخ المشترك ووسائل الانتاج الخاصة ونمط الاستهلاك الوطني.بكلام آخر يمكن لنا ان نستفيد من الثورة الانتاجية في القرية الكونية وهي السبيل الوحيد للتقدم والتنمية دون التخلي عن هويتنا وعن سائر العناصر التي تتيح لنا البقاء سالمين عندما تنهار الانظمة العالمية التي لانملك قرار نهوضها و لاقرار انهيارها. صحيح اننا لسنا بحجم وقوة الصين التي انخرطت في النظام الرأسمالي العالمي محتفظة ب«كونفوشيوس» وغير عابئة ب «ريكاردو» أي بشروطها لكن الصحيح أيضا اننا لن نعدم الارادة اذا قررنا السير على الطريق نفسه. [email protected] *نقلا عن صحيفة 26 سبتمبر |