الحوار ثقافة وليس سياسة مازلنا نحدَّثُ العالم بأننا بلد الحكمة؛ غير أن كثيرين يجهلون أن الحكمة لا تتجلى في خطاب أو شعار، وإنما بحسن سلوك وممارسة تستوي بها قيم الحياة الحرة الكريمة. ولولا أنها كذلك ما انتكست الحياة اليمنية في بعض حقبها، ولما جددت انبعاث مجدها مرة أخرى، واستعادت وحدتها، وإرادتها الوطنية في وقت كان العالم يجزم بأن ذلك مستحيلاً. فحين تتحدث القيادة السياسية عن الحوار الوطني، فإن ذلك ليس تحولاً لمنهج أو خيار سياسي غير مطروق ليستدعي تفكيراً أو جهداً أو بحثاً في اجتماعات مغلقة بقدر ما هو سلوك متأصل في ثقافة الأخ الرئيس وحمله -بعد تسلمه -مقاليد الحكم إلى دائرة صنع القرار ليراهن من خلاله على تجاوز المأزق السياسي الذي كانت تعيشه البلاد أنذاك من خلال ما تمخض عنه من صيغ عمل سياسي موحد، يضم مختلف القوى الوطنية وكذلك برامج كانت بمثابة كلمة سر العبور إلى إعادة توحيد شطري اليمن بعد طول شتات، وتمزق. إن الحقيقة -التي يجب استيعابها -هي أن التحاور ثقافة وسلوك يتحلى به الإنسان أسوة بالأمانة والصدق، وحب عمل الخير، وغيرها من الصفات التي نتقلدها ليس لندخرها لصفقة سياسية أو تجارية، وإنما لنمارسها في تعاملاتنا اليومية حتى داخل بيوتنا، فإذا ما افتقدناها داخل الأسرة الصغيرة، لا يمكن أن نستحضرها في محافلنا الوطنية الكبيرة.. وهنا تكمن والإشكالية حين نكون مطالبين بعقد الاجتماعات تلو الاجتماعات لاتخاذ قرار فيما إذا نتحاور أم لا.. نتحلى بهذه الثقافة أم ننبذها..! ومع أننا جميعاً نؤمن بالإسلام مصدراً لكل تشريعاتنا وعقيدة نستمد منها كل قيمنا، إلا أننا عندما نصل إلى موضوع الحوار نتعاطى معه وكأنه ثقافة غريبة عن دستور حياتنا -الإسلام -في الوقت الذي لو اقتدينا بمعلم البشرية الأول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم واستلهمنا منه دروس بناء أمتنا العظيمة، لوجدناه يبدأ نشر رسالته السماوية بلغة الحوار والجدل بالتي هي أحسن، رغم أنه هو النبي الذي وصفه ربه بأنه ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، لكنه لم يتعال عن الحوار مع المشركين، ممن أذاقوه ألوان الأذى، لأنه كان يرجو من حواره أمراً عظيماً به تستقيم الحياة ويسترد الإنسان حريته وكرامته، ويتحقق ا لعدل والمساواة بين بني البشر. وهو الأمر الذي يثير حيرة أبناء الأمة اليوم، ويجعلهم يتساءلون .. لماذا إذن لا نتحلى بتلك الثقافة؟ وما هو فضلنا على بعضنا لنترفع عن الحوار فيما بيننا البين في الوقت الذي لم يترفع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن التحاور مع المشركين، وأهل الكتاب، ومن قبله سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام حين حاور قومه حول ما يعبدون...! لا شك أننا اليوم لسنا بحاجة إلى تأسيس منظمات تحت شعار (الحوار) كما أن من السخرية بمكان أن تؤسس تنظيمات سياسية تحت شعار (التصحيح والتسامح) في الوقت الذي كل هذه الأمور تمثل جزءاً أساسياً من عقيدتنا الإسلامية، بل حتى من أعرافنا وتقاليدنا الاجتماعية. فالأخ رئيس الجمهورية بعد إعلان الوحدة المباركة دعا أبناء الشعب لدمل جروح الماضي التشطيري، وقال: إن الوحدة ( تجب ما قبلها)، مقتدياً بمعلم البشرية صلى الله علين وسلم حين قال للناس: (إن الإسلام يجبُّ ما قبله). كما أنه خلال أحداث حرب 1994م أعلن العفو العام عن جميع المتورطين ولم يكن بحاجة لحزب أو منظمة تحمل شعار " التصالح والتسامح" ليبادر إلى ذلك لأن مثل هذه الأمور تمثل ثقافة أخلاقية، وقيمة عقائدية يفترض أن نتحلى بها جميعاً دون حاجة لتسييسها، أو أدلجتها في قالب جديد يستدعى عقد اجتماعات واتخاذ قرارات فيما إذا نتسامح ونتصالح أم لا..!؟ إن تجربتنا الوطنية غنية بالدروس والعبر التي يجب أن نتعلم منها، وننطلق من أساساتها في مواجهة كل التحديات التي تعترض مسيرة حياتنا وكذلك في ترسيخ وحدتنا الوطنية، وتصنيف مشاكلنا، وتحديد رؤانا لمعالجتها وتجاوز آثارها مهما كانت درجة تعقيد ظروفنا، أو خلافاتنا .. ولا شك أن الضمان الوحيد للمخارج الآمنة لن تأتي بغير تشاور وتحاور وتعاون وقبل كل ذلك نية صادقة ومخلصة لبلوغ آمالنا التي نتحدث عنها في خطاباتنا ووسائل إعلامنا، وفي كل أدبياتنا السياسية. كما أننا يجب أن نؤمن بأن كثيراً من الأحداث لا تخضع لأجندة أحد من القوى الوطنية وإنما تتسبب بها ظروف ثقافية واجتماعية وأخلاقية وأن المجتمع بأمس الحاجة لكل القوى بلا استثناء لتقويمه والأخذ بأيدي أبنائه وتوعيتهم وتعزيز أواصر المحبة و التعاون بين مختلف شرائحه.. وبغير ذلك فإن الفوضى لا تخدم أحداً، كما أنها لا تفرق بين بيت وآخر، لأنها كما النار إذا ما اشتعلت في بيت لن تتوقف عن التهام كل ما هو قابل للاحتراق. *عضو اللجنة العامة بالمؤتمر الشعبي العام -رئيس معهد الميثاق للتدريب والدراسات والبحوث |