الجمعة, 01-نوفمبر-2024 الساعة: 03:35 ص - آخر تحديث: 01:40 ص (40: 10) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المستقبل للوحدة
صادق‮ ‬بن‮ ‬أمين‮ ‬أبوراس - رئيس‮ ‬المؤتمر‮ ‬الشعبي‮ ‬العام
حروف موجوعة في رحيل الإعلامي الجميل حسن عبدالوارث
أ.د عبدالعزيز صالح بن حبتور
ثورة الـ "14" من أكتوبر عنوان السيادة والاستقلال والوحدة
بقلم/ يحيى علي الراعي*
14 أكتوبر.. الثورة التي صنعت المستحيل
قاسم‮ محمد ‬لبوزة‮*
زخم الثورة وحاجته لسلوكٍ ثوري
إياد فاضل*
خواطر في ذكرى تأسيس الموتمر الشعبي العام
د. أبو بكر عبدالله القربي
المؤتمر الشعبي رائد البناء والتنمية والوحدة
عبدالسلام الدباء*
شجون وطنية ومؤتمرية في ذكرى التأسيس
أحمد الكحلاني*
ليبارك الله المؤتمر
راسل القرشي
الجديد في ذكرى التأسيس الـ"42"
شوقي شاهر
ميلاد وطن
نبيل سلام الحمادي*
رؤية وطنية تلبّي احتياجات الشعب
أحلام البريهي*
المؤتمر.. حضور وشعبية
أحمد العشاري*
قضايا وآراء
المؤتمر نت -
احمد الحبيشي -
جذور الاعتراض على الدستور والقوانين في سنوات الحرب المعادية للثورة والجمهورية
تناولنا في الحلقات السابقة جانباً من رصيد الرئيس علي عبدالله صالح في الانتقال من الثورة إلى الدولة على امتداد السنوات (32 سنة) من مسيرة الثورة اليمنية التي بدأت في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م والرابع عشر من أكتوبر 1963م، لجهة بناء الدولة الوطنية الحديثة على أسس سياسية ودستورية وقانونية بهدي مبادئ وأهداف الثورة اليمنية بما هي امتداد للقيم الوطنية والقومية والإنسانية التي حمل لواءها الفكر العربي الحديث.
وتأسيسًا على ما تقدم يمكن القول إن أبرز ما تميز به هذا الرصيد هو إصرار الرئيس علي عبدالله صالح على عدم التهادن إزاء الضغوط التي مارستها القوى التقليدية والرجعية منذ انطلاق الثورة اليمنية بهدف إجهاض مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة خلال سنوات الحرب الأهلية، والسعي إلى تجويف الدولة والنظام الجمهوري شكلاً ومضموناً، وفك ارتباطهما بمبادئ وأهداف الثورة اليمنية.
وبوسع التحليل الموضوعي للخطاب السياسي والإعلامي المناهض للثورة والنظام الجمهوري، ملاحظة أن أهم ما تميز به ذلك الخطاب هو محاولة الاستفادة من رواسب التخلف والأمية والجهل والعزلة التي كرسها النظام الإمامي البائد، وتوظيف مفاعيل هذه الرواسب لإضفاء الشرعية الدينية على الحرب المعادية للدولة العصرية الجديدة ونظامها الجمهوري الجديد، بما هما أداة الثورة اليمنية لتحقيق المبادئ والأفكار والأهداف التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة على طريق التحرر من الاستبداد، والخروج من نفق التخلف، والانطلاق لتحقيق أهداف الثورة نحو يمن حر ديمقراطي موحد، حيث سعى الخطاب السياسي والإعلامي المناهض للثورة والنظام الجمهوري إلى تكفير المشروع الوطني الجديد فور قيام مجلس قيادة الثورة بإصدار الإعلان الدستوري المؤقت في سبتمبر 1962م، وإقرار الدستور الدائم في 1963م، وشروع حكومة الثورة ووزاراتها المختلفة بإصدار عدد من القوانين والأنظمة الحديثة، والانضمام إلى بعض المعاهدات الدولية، وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية لتحريم الرق واتفاقيات جنيف بشأن التعامل مع أسرى الحروب وحماية حقوق الإنسان في زمن السلم والحرب، والاتفاقيات الدولية الخاصة بتنظيم العَلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية بين دول العالم وفقًا لقواعد القانون الدولي العام.
وما زال الجيل الذي عاصر سنوات الحرب المعادية للثورة والجمهورية يتذكر فتاوى رجال الدين الرجعيين ضد قانون إنشاء البنك المركزي وقانون إنشاء البنوك والمصارف وقرار وزارة العدل بشأن تدوين وتوثيق عقود الزواج، حيث دعا كبير فقهاء القوى الملكية آنذاك والذي صار بعد قيام الوحدة نائبا لرئيس الهيئة العليا لحزب التجمع اليمني للإصلاح وواحداً من أبرز المناهضين لدستور دولة الوحدة الى عدم الاعتراف بعقود الزواج التي صدرت بعد قيام النظام الجمهوري، ومقاطعة التعامل مع العملة الورقية التي أصدرها البنك المركزي الوليد في العام الأول للثورة، بذريعة مخالفتها للشريعة الإسلامية حسب زعمه وفهمه.
ومما له دلالة أن رفض القوى الملكية الرجعية للدستور والقوانين والأنظمة التي أصدرها مجلس قيادة الثورة، واتهام حكومة الثورة الوليدة بالسعي إلى إحلال التشريعات الوضعية محل الشريعة الإسلامية، كانا من أبرز مطالب مؤتمر خمر ومؤتمر عمران، بما في ذلك مؤتمر الطائف الذي دعا في عام 1965م إلى استبدال النظام الجمهوري بالدولة الإسلامية، ووقف العمل بالدستور وما أسماه بيان الطائف (القوانين الوضعية).
والثابت أن القوى المناهضة للثورة والنظام الجمهوري لجأت إلى ممارسة التدليس والتلبيس بهدف إضفاء الشرعية الدينية على مشروعها السياسي الرجعي من خلال خطاب ديني يستند إلى مخرجات فقهية تراثية قديمة عكست الثقافة السياسية لفقهاء الملوك والأئمة والسلاطين في العصور التي شهدت غروب شمس الحضارة الإسلامية، بعد ظهور الثورة الصناعية والاكتشافات العلمية والجغرافية، حيث كانت مخرجات التراث الفقهي التي استمد النظام الإمامي البائد شرعيته منها، لا تعدو أن تكون أكثر من تشريعات وضعية مذهبية من صنع البشر في الأرض، وليست منزلة من السماء بحسب ما أوضحناه بالتفصيل في حلقات سابقة من هذا المقال، وهو ما سنعود إليه مرة أخرى لاحقًا عند تناول محاولات التمييز بين الشريعة والقوانين الحديثة من أجل تكريس تشريعات وضعية مذهبية أنتجها الفقه الملكي الإسلامي بشقيه السني والسلفي، ويسعى إلى إعادة إنتاجها الفقهاء التراثيون الذين يصرون على الإقامة الدائمة في الماضي ويتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم، ويتوهمون بامكانية إعادة عجلة الزمن إلى الخلف والقطيعة مع العصر والحضارة الحديثة، انطلاقًا من فهم تراثي دوغمائي لعقائد الولاء والبراء،، التي صاغها بعض الفقهاء الأسلاف في عصور غابرة أصبحت جزءًا من التاريخ، حيث كان الفقهاء يحددون شروطًا ذات طابع (وضعي) و(بشري) محض لمن يحق له استنباط أحكام الشريعة، تتلخص بوجود (فقيه مجتهد)، ثم يلزمون كل من تتوافر فيه تلك الشروط بأن يكون تابعًا ومقلدًا للفقهاء الأسلاف الذين سبقوه، وهم أيضًا بشر اشتغلوا على (وضع) أحكام تشريعية انطلاقاً من فهمهم الخاص الذي لا يمكن فصله عن ثقافتهم السياسية الملتبسة بمصالح ورغبات الملوك والسلاطين الذين كانوا يتحالفون معهم، ويدعون الناس إلى وجوب طاعتهم حتى وإن جلدوا ظهورهم وانتهكوا حقوقهم ونهبوا أموالهم.
وبتأثير ذلك الفقه، تعرض الوعي الديني على امتداد قرون عديدة للإستلاب بسبب شيوع الإعتقاد بأن ما يسمى (الفقيه المجتهد) هو فقط من يملك الحق في استنباط جميع أحكام الشريعة وإعلانها، بشرط الإتباع والقياس والتقليد لما سار عليه الآباء من الفقهاء السابقين، وبالمقابل يتوجب على الناس إتباع وتقليد (الفقيه المجتهد)، وما يترتب على ذلك من إعادة إنتاج حالة الانغلاق داخل حلقة التقليد والإتباع والقياس المغلقة.. وقد ترسخ هذا الوعي المستلب دون تحليل معمق لمفهوم حكم الشريعة لكل شؤون المجتمع الإسلامي، ولا مناقشة أو تبرير مغزى حصر ونمو صلاحية التشريع الوضعي للفقيه المجتهد فقط، ومنحه الحق في سن الأحكام التشريعية تحت مسمى (استنباط الأحكام الشرعية) مع تجاهل تام ومقصود لحكم الله في القرآن الكريم (وأمرهم شورى بينهم)!!!
وعلى قاعدة الاتباع والقياس والتقليد توارث الأسلاف على امتداد القرون الغابرة اعتقاداً بأن كل حكم لا يصدر عن فقيه (مجتهد) يعد خروجاً عن الشريعة، وحكما بغير ما أنزل الله، وهو ما يستند إليه الفقهاء السلفيون التراثيون في القول بأن أحكام الدستور والقوانين مخالفة للشريعة الاسلامية لأنها صدرت عن مجالس تشريعية منتخبة واستفتاءات شعبية عامة، ولم يقررها (فقيه مجتهد أو فقهاء مجتهدون).. وبالتالي فهي ليست من الشريعة ولا مما أنزل الله وفرض الحكم به وحرم الاحتكام إلى غيره.
ومن المفارقات العجيبة أن الأصوليين بمختلف مذاهبهم المتناحرة والمتناقضة أجمعوا على وصف حكم الفقيه المجتهد بأنه ظني، كما اتفقوا على أن أقصى ما توصلت إليه أدوات التفسير الأصولية هو ترجيح حكم المجتهد، بمعنى أن يبقى الحكم الاجتهادي موصوفاً بالظنية وقابلاً للمراجعة والتغيير، فضلا عن تعدد الاجتهادات التي يندر إتفاقها على تفسير واحد للنص.وقد تسبب الفقه السلفي في الخلط بين الأحكام القطعية والأحكام التشريعية الاجتهادية الظنية التي وضعها من سموا أنفسهم (الفقهاء المجتهدون) وهم بشر في الأرض وليسوا أنبياءً مرسلين من رب السماء، واكتسب هذان النوعان من الأحكام القطعية والاجتهادية صفة أحكام الشريعة التي أنزلها الله، وهو ما يعني نقل الآراء الاجتهادية من مصدرها الوضعي البشري إلى المصدر العلوي الإلهي، وتخليصها في نهاية المطاف من صفتها الظنية بعد أن يتم إلباسها لبوس الدين وأحكام الشريعة القطعية.. وبهذا تكون الآراء الفقهية الاجتهادية الوضعية الظنية متعالية عن النقد والمراجعة والتغيير، وسببا في الدعوة إلى مناهضة حكم القانون الذي يضعه العلماء والخبراء والمختصون، وتقره المجالس التشريعية التي ينتخبها الناس، تجسيداً لحكم الله (وأمرهم شورى بينهم).
ولذلك يرى الفقهاء التراثيون المقلدون أن الإثبات بالكتابة، وتوثيق بعض العقود والاتفاقيات بين الأفراد والشركات والدول، وتحديد الحد الأدنى للأجر وساعات العمل والعطل الأسبوعية والسنوية في عقود العمل، وفرض مقتضيات عقود الإيجار لصالح المستأجر، وإقرار التشريعات الخاصة بضمان حقوق الملكية الفكرية،وتحريم الرق وتحديد سن الزواج بأنها مخالفة للشريعة التي يجب حصر أحكامها على ما يضعه ويستنبطه (الفقهاء المجتهدون) بشرط اتباع وتقليد ما وضعه الفقهاء الأسلاف الذين اكتفوا بقصر الإثبات على الشهادة وأجازوا الاكتفاء بالقبول والإيجاب لانعقاد العقد، وأباحوا تزويج الصغيرة ومفاخذة الرضيعة، واسترقاق الأسرى وسبي النساء في الحروب، وبيع وشراء العبيد والجواري في أسواق النخاسة.
ولذلك يعتقد الفقهاء التراثيون المقلدون بأن المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية التي تناهض الرق، وتمنع تزويج ومفاخذة الأطفال الإناث، وتشترط القبول والرضا في الزواج هي تشريعات وضعية تخالف الشريعة على الرغم من أنها أقرب إلى الشريعة من الاجتهادات الفقهية التي وضعها الفقهاء الأسلاف في سياق تاريخي وواقع اجتماعي تغيرت كل ملامحه وقيمه وعناصره شكلا ومضموناً.
مما له دلالة عميقة وجود تشابه كبير بين عناوين الخطاب الديني والسياسي للقوى المناهضة للثورة والجمهورية خلال سنوات الحرب الأهلية وسنوات الركود التي سبقت وصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى السلطة قبل 32 عاماً، وبين عناوين الخطاب الصحوي لجماعات الإسلامي السياسي في سنوات الثمانينات من القرن الماضي التي شهدت دخول الثورة الصناعية الثالثة حقبة جديدة في مسار تطورها الثابت، كان من أبرز معالمها حدوث متغيرات وتحولات عميقة في بنية الحضارة البشرية المعاصرة والمجتمع الحديث من خلال التأثير المتزايد لمنجزات ثورة الاتصالات والمعلومات على عالمية الإنتاج والأسواق، حيث لم يعد بمقدور أية دولة أو أمة الخروج على قواعد العيش المشترك في عالم واحد ومتنوع ومتكامل تحكمه قيم إنسانية مشتركة ومؤطرة في مبادئ القانون الدولي العام والإنساني وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تستلزم تكييف القوانين والتشريعات الوطنية مع مبادئ السلم الدولي وقيم العيش المشتركة بين جميع الدول والشعوب والمجتمعات بمختلف ثقافاتها وأديانها وأعرافها، على أساس الشراكة في المصالح والمنافع المتبادلة، والمساواة في السيادة والاستقلال، وهو ما يراه الفقهاء التراثيون خروجاً على أحكام الشريعة الإسلامية التي لا تجيز مساواة دولة الإسلام مع دول الكفر، بحسب معتقداتهم المذهبية الأحادية والمنغلقة.
لاريب في أنّ موقف الفقهاء والدعاة السلفيين من الدستور والقوانين الوطنية والدولية يعد امتداداً لوعي سياسي مقيم في الماضي وملتبس بالدين، قاوم من خلاله الفقهاء المتشددون كل التحولات التي فرضها العالم الواقعي منذ قيام الثورة الصناعية في عصر النهضة،لأنهم لم ولن يجدوا في كتب التراث وموروث الأسلاف إجابات عن الأسئلة الجديدة التي تطرحها تحديات الحياة في الحقبة الراهنة من الحضارة المعاصرة، ثم استسلموا لها في وقتٍ لاحق بعد ان أضاعوا على بلدانهم ومجتمعاتهم زمناً لا يستهان به.. ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الفكر الديني بما انه أحد مكونات الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّى للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة « التغريب »، ومحاربة «الأفكار المستوردة». كما عارض الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ورفض بعناد شديد تعليم الفتاة و تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق، وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتدثر دائماً بذرائع «الهوية والخصوصية الدينية والثقافية» ومقاومة حملات التغريب الصليبي والحكم بما أنزل الله.
لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج سياق الوعي الآيديولوجي والسياسي للحرس الكهنوتي القديم في حزب (الاصلاح) حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني احمد الثاني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة «ويستفاليا» عام 1648م التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الدينية والإقطاعية التي كانت السمة المميزة لعصر اقتصاد الخراج، وتأسيس مبدأ السيادة الحدودية الوطنية، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة قانونية جديدة للعلاقات بين الأمم والدول.
كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على تلك المعاهدة تعطيلاً لآيات وأحاديث (السيف) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي توجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية.. ولذلك فقد كان طبيعياً أن تؤدي إقامتهم الدائمة في الماضي الى تحذير السلطان العثماني احمد الثاني من مغبة التوقيع على تلك الاتفاقية التي وصفوها بأنها مخالفة للشريعة الاسلامية ومُعطِّلة لجهاد الابتداء والطلب («برنارد لويس «الغرب والشرق» الجامعة الأميريكية دار العلم للملايين بيروت 1966).
والثابت أن علماء اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء اتّهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنها تسعى إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين، (مكسيم رودنسون « تاريخ الشعوب الإسلامية «دار العلم للملايين بيروت 1969م).
ومما له دلالة أن تكون اليمن والسعودية اللتان خضعتا لهيمنة المؤسسة الدينية آخر دولتين حرّمتا الرق في العالم، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية اليمنية في الخامس عشر من أكتوبر 1962م أي بعد ثورة 26 سبتمبر بثلاثة أسابيع مرسوماً جمهورياً قضى بتحريم الرق والتوقيع على المعاهدة الدولية لتحريم الرق، وهو الأمر الذي كان يوجد حقيقة في اليمن، ودفع المملكة العربية السعودية إلى الإسراع -في وقت متأخر جداً - بإلغاء الرق رسمياً في الثامن والعشرين من نوفمبر 1962 («إدجار أوبلانس» اليمن: الثورة والحرب » دار الرقي بيروت 1990م).
عندما فكر السلطان العثماني مصطفى الثالث بادخال المطبعة الى دولة الخلافة عام 1719م، كان رأي الفقهاء في المطبعة على سبيل المثال أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن، (د. موفق الحمداني «الطباعة: من النهضة الى الحداثة «دار دمشق 1971م، راجع أيضا المجلد الثاني من كتاب تاريخ آداب البلدان العربية لجورجي زيدان)، وبسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية. ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن و شرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء، بالإضافة إلى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق أبناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار، (د. محمد عابد الجابري «نقد العقل السياسي العربي» مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1990م).
لم يكتف الفقهاء المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والمنطق والفلك، بل سعوا إلى تكفير العلماء والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم، وكانوا سبباً في إنتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي. وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس ثقافة سلفية طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية، وأدخلت العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً.
لم يتوقف عجز الفكر الديني عن تقديم إجابات جديدة على أسئلة الحياة الجديدة عند هذا الحد، نتيجة إقامته الدائمة في الماضي، فقد شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر موقفاً سلبياً آخراً من قبل الفقهاء وكان هذه المرة إزاء تعليم الفتاة، حيث أصدر فقهاء الأزهر بياناً يحذر الخديوي إسماعيل من فتح مدارس لتعليم البنات بدعوى أنّ الإسلام لا يجيز ذلك. بيد أنّ الخديوي إسماعيل تجاهل موقف الأزهر وأصر على فتح أول مدرستين لتعليم البنات في مصر والعالم العربي ارتبطت بالإصلاحات التي أدخلها في مصر. وعندما أطل القرن العشرون كانت مدارس تعليم البنات منتشرة في المشرق العربي ومصر وسوريا ولبنان وبغداد وتونس والجزائر والمغرب، الأمر الذي شجع الملك سعود بن عبدالعزيزعام 1947م عندما كان وليا للعهد على افتتاح أول مدرسة لتعليم البنات في شبه جزيرة العرب، وسط حركة احتجاج واسعة نظمها الفقهاء المتشددون، وكانت في قصر المربع؛ حيث أقام هذه المدرسة لتعليم كريماته في بادئ الأمر، ولتكون حافزاً ومشجعاً للأهالي ليتقبلوا فكرة تعليم الفتاة، وقد كان الملك سعود يرى أن تعليم الفتاة السعودية أمر ملح لبناء الدولة الحديثة وتحقيق النهضة العصرية في السعودية، وهو ما لم يفهمه رجال الدين الذي حشدوا وفداً كبيراً من جميع انحاء المملكة، ثم توجهوا لمقابلة الأمير سعود من أجل اقناعه باغلاق تلك المدرسة، حيث عززوا مطالبتهم باغلاق تلك المدرسة بأحاديث نبوية اخترعها القصاص والوضاعون الحنبليون في عهد الخليفة العباسي ابو الفضل جعفر المتوكل على الله، ثم نسبوها للرسول عليه الصلاة والسلام زوراً وبهتاناً، ومن بينها: (لا تعلموا بناتكم القراءة والكتابة) وفي رواية أخرى (لا تعلموا بناتكم القراءة والكتابة فالشؤم في ثلاثة: الدار والمرأة والفرس)!!. ومما له دلالة أن تلك المدرسة التي حملت ومازالت تحمل اسم معهد (الكريمات)، شيدت على نمط المدارس الأوروبية الحديثة المتكاملة في التجهيزات المدرسية، حيث انضم إليها عدد كبير من الطالبات في مدينة الرياض، وكان مما شجع الأهالي على إرسال بناتهم إلى هذه المدرسة أنها كانت داخل أسوار قصر الملك سعود وتحت حمايته شخصياً، بسبب خوفه من أن يؤدي موقف رجال الدين المعادي لتعليم البنات الى تعريض مدارس البنات للخطر، بذريعة ازالة المنكر باليد، وما يترتب على ذلك من صدام بين الدولة ورجال الدين على نحو ما حدث عام 1934 عندما اعترض رجال الدين على قيام الملك عبدالعزيز باصدار تشريعات وضعية تنظم استخدام المطابع و الهاتف والراديو وأجهزة الجرامفون ومحلات التصوير التي كان رجال الدين يعتبرونها مخالفة للشريعة الاسلامية وبرروا تحريمها بايراد آيات قرآنية وأحاديث نبوية تصدرت رسالتهم للملك عبد العزيز قبل ان يضطروا لمواجهتهم بالقوة!!.
في السياق نفسه عارض فقهاء مصر والسعودية والعراق واليمن معاهدة جنيف بشأن أسرى الحروب عام 1927م، حيث أوجبت هذه المعاهدة ضرورة احسان معاملة الأسرى وتحريم تعذيبهم أو قتلهم أو أسرهم، ونصت المعاهدة على أنه لايجوز قتل أو أسر المقاتلين الذين يلقون بسلاحهم، ويرضخون للعدو أو يستسلمون له، كما لايجوز أيضاً الاستيلاء على المبالغ النقدية والأشياء النفيسة التي يحملها الأسير كغنائم حرب، على أن تلتزم الدولة الآسرة بردها واعادتها الى الأسير عند اطلاق سراحه.
واللافت للنظر أن الشيخ العلياني وهو أحد رعاة وموجهي وممولي المدارس والمراكز والجمعيات السلفية في اليمن أصدر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الارهابية كتاباً تعرض لنقد شديد من الدكتور يوسف القرضاوي دعا فيه الحكومات العربية الى الالتزام ببيان أصدره ووقع عليه عدد ممن أسماهم الشيخ العلياني (علماء الدين) في العالم الاسلامي عام 1927، عندما صدرت معاهدة جنيف بشأن أسرى الحرب، مشيرا الى أن البيان كان حاسما في التأكيد على أن (كل من يقر اتفاقية جنيف وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي يفرضها الغرب الكافر على العالم الاسلامي سيجدها مبدلا للدين، مغيرا لأحكام الشرع، لأن الاسلام يجيز قتل الأسير واسترقاقه، فكيف نغير أحكام الله؟) (أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة للشيخ الدكتور علي بن نفيع العلياني دار جامعة أم القرى)!!.








أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "قضايا وآراء"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024