الانطلاق من الواقع والعودة إليه وقف الشاعر بابلو نيرودا ذات يوم، أمام اجتماع عمالي حاشد، وهو يلقي نماذج من شعره، وسط تصفيق حاد، وهتافات حماسية مؤثرة. وبعد أن انتهى نيرودا من إلقاء بعض قصائده، سأله أحد أصدقائه عما إذا كان العمال قد فهموا شعره واستوعبوا مضامين قصائده ؟ فأجابه نيرودا على الفور: « لا .. ولكنهم فهموا من مضامينها أني أدافع عن قضيتهم» ! تأسيسا على ذلك، يمكن القول بأن بابلو نيرودا كان يحاول تحطيم الجدار الذي يحول دون تجديد بنية القصيدة، وإيصالها إلى وعي الناس.. وكان بذلك يدرك حقيقة أن الشاعر المعاصر حين يجسد في شعره موضوعات عصره، أو موضوعات الحضارة الإنسانية قديمها وحديثها فإنَّه يجسد في واقع الأمر وحدة الوجود الذي يشمل الإنسان والعالم والزمن. من نافل القول أن الإبداع الفني والأدبي كان وما يزال تعبيرا عن حاجة إنسانية، بيد أنه لم يعد موجودا في عصرنا ، ذلك الزمن الذي كان المبدعون يعبرون فيه عن وجودهم ورؤاهم للحياة، بالاستناد إلى قدراتهم الفطرية على الوصف والمدح والذم والغزل وتفسير الظواهر. وكما هو الحال بالنسبة للفلسفة، فإن الإبداع الفني والأدبي أضحى اليوم موقفا متكاملا إزاء قضايا الكون والعالم يقوم على حرية التفكير وحرية التعبير، ويستهدف الإسهام مع الناس في تغيير العالم ، وهو ما عبر عنه بول إيلوار بقوله : ( لقد جاء الوقت الذي أصبح فيه من حق جميع الشعراء ومن واجبهم أيضا أن يؤكدوا انغماسهم بقوة وعمق في حياة سائر الناس.. وينبغي للشعر أن يصنعه الجميع، لا شخص واحد ) . وعندما تنفصل الكتابة الإبداعية عن الواقع، يبدو الكاتب وكأنه لا يعي حركته.. ولا يقوى على التأثير في بيئته ، وبالتالي يفقد حريته، لأن الإبداع الحقيقي لا يكون حرا إلا من خلال ارتباطه بحرية الإنسان.. ولا يغدو جديدا ومتجددا، ألا بمدى مقاومته للسكون في عالم القصيدة الافتراضي ، وللثبات والجمود في العالم الواقعي المتغير عموما. لا نبالغ حين نقول بأن الأعمال الإبداعية الجديدة في اليمن والعالم العربي، نشأت وتطورت بصورة مطردة، بالارتباط الوثيق مع ظهور المفاهيم التنويرية والأفكار الثورية التي أسهمت في تغيير حركة الواقع الاجتماعي، وتطوير وعي الناس . ومما له دلالة أن الكتابات الأدبية الغارقة في التجريب الشكلي، لم تستطع الوصول إلى وعي الناس، إذ أضحت اللغة والأدوات الفنية التي استخدمتها تلك الكتابات مجرد كيمياء بدون معادلات تحدد عَلاقاتها الداخلية، وبالتالي علاقاتها بالطبيعة والمجتمع الإنساني، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي أيضا إلى العودة بدون وعي وبدون قصد إلى ما أسماه النقاد الواقعيون بميتافيزيقا اللغة، التي ظهرت في أحسن صورها على يد الاتجاه الفلسفي في الشعر المعاصر، ثم اكتسب طابعا هروبيا وغير عقلاني على يد الاتجاه السوريالي القديم والنزعة الوجودية البرجوازية الحديثة، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الفلسفة تشكل إبداعا عقليا خالصا، بينما يشكل الأدب والفن إبداعا وجدانيا وعقلانيا في آن واحد. وبوسعنا القول إن آفاق ازدهار التجريب الشكلي في بلادنا تكاد تكون معدومة، ليس فقط بسبب المسافة الكبيرة، التي تفصل نتاجاته عن القراء، وكذا امتلاء المخازن بالكتب التجريبية التي لم تجد من يقرؤها، بل ولأننا بالإضافة إلى ذلك نتفق مع الناقد الكبير محمود أمين العالم، الذي تنبأ بفشل أية محاولة واعية أو غير واعية في عالمنا المعاصر، للعودة إلى ميتافيزيقا اللغة، و التجريب الشكلي، بعيدا عن تجسيد المعاني الدلالية والعلاقات الداخلية للأشياء والظواهر، وبالتالي العجز عن توظيف اللغة والشكل الفني في مجرى عمليات إنتاج الوعي المعرفي الذي يسهم في اكتشاف الواقع وإعادة صياغته واستشراف آفاقه. عند ظهور ما تسمى بقصيدة النثر، انبرى بعض المتحمسين لها إلى القول بأنها تشكل صرخة متقدمة في عالم القصيدة الواقعية.. فيما انطلق كثيرون لتقليد أو محاكاة هذا النمط من الكتابة. ولسوء حظ هؤلاء، فإن الغالبية العظمى من الذين ركبوا هذه الموجة كانوا من عديمي المواهب ، وذوي الضعف المفضوح في قدراتهم اللغوية، الأمر الذي أغرق صحفنا ومجلاتنا ومخازن الكتب في بلادنا بالأعمال الهابطة أحيانا وغير المفهومة أحيانا أخرى. وكما هو معروف، فإن قصيدة النثر تعتبر المجال الحيوي للتجريب الشكلي بكل سلبياته وعيوبه، باستثناء النادر القليل منها. ومن أجل إيضاح المنطلقات الفنية والفكرية لهذا النوع من الكتابة، فإننا سنحرص على عدم تحميل رأينا ما قد يستكثره البعض علينا، ولكننا وبكل تواضع، سنحاول الاستعانة بمواقف الواقعيين من مختلف المدارس الفكرية والفنية، التي تؤكد أن الواقعية في العمل الأدبي تفترض التفاعل والتبادل بين العناصر الأساسية المكونة للعمل الإبداعي، وهي الفنان والفن والحياة والناس.. بمعنى أن يصل الإبداع الأدبي والفني إلى أعلى شكل من الترابط والتفاعل بين وعي الفرد في هذه العملية ، والوعي الاجتماعي الطليعي، حيث أن من شأن ذلك فتح آفاق رحبة أمام محاولة استبصار الواقع الاجتماعي من قبل المبدعين، بدلا من التوجه إلى محاولة استبصار الفضاء الكوني، الذي يحتاج إلى العلم والتكنولوجيا، ولا يحتاج إلى الخيال الذي يصدر عن كيمياء أدبية طفيلية وغير مفهومة، ذلك أن الواقع الإنساني هو وحده الشرط الذي يوفر لنا إمكانية تحقيق القيمة الإنسانية الكبرى للعمل الإبداعي، بدلا من الغرق في متاهات التجريب الشكلي اللا مجدي. قد يستنتج بعض من كلامنا، بأننا ننظر إلى التجريب الشكلي في قصيدة النثر خاصة والإبداع بمختلف فنونه عموما، بوصفه اتجاها برجوازيا خالصا. مع ضرورة ‘الأحذ بعين الاعتبار أن التجريب الشكلي لم يكن فقط ظاهرة من مخرجات الحضارة الرأسمالية، بل إنه ظهر أيضا في داخل الواقعية الثورية النقدية عند مطلع هذا القرن، وكذا في الواقعية الاشتراكية بعد قيام الثورة االاشتراكية في روسيا عام 1917م ، حيث تعرض الشاعر ماياكوفسكي لنقد قاس من قادة تلك الثورة بسبب الشكل الفني الضعيف الذي كان يتبناه في أشعاره بحسب وصف لينين. وكذلك الحال بالنسبة للنقد العنيف الذي تعرض له الكسندر بلوك وبريوسوف من قبل زملائهم الواقعيين النقديين بسبب إسرافهما في الرمزية ، حتى تحولا عنها إلى تعزيز اتجاههما الواقعي وتأصيله شكلا ومضمونا بعد ثورة 1905م في روسيا قبل قيام الثورة الاشتراكية. وعليه.. فإننا لا ندعو إلى أن يكون الشعر بسيطا ومفهوما بالضرورة، مع إيماننا الشديد بأن أعظم القصائد والأعمال الإبداعية في عصرنا والعصور الفارطة. هي تلك التي عرف أصحابها كيف يوصلونها إلى الناس بأعظم قدر من الأدوات الفنية الجمالية والمضامين الفكرية السامية ، أو تلك التي يتفاعل الناس مع شكلها الجمالي التعبيري بواسطة تفاعلهم العميق مع مضامينها، على النحو الذي تجسد في واقعة الشاعر بابلو نيرودا المشار إليها في مقدمة هذا المقال ، الأمر الذي يجعل موسيقى الشعر واحدة من أبرز إشكاليات التجريب الشكلي، في ما تسمى بقصيدة النثر وغيرها من الأعمال التي تدعي الانتساب إلى فن الشعر، حيث يتوهم بعض كتاب قصيدة النثر أن الالتزام الصارم بموسيقى الشعر العربي يتعارض مع روح التجديد الحر لبنية القصيدة!!. ولاريب في إن أصحاب هذا الرأي، ينطلقون من هواجس شكلية بحتة.. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن المدارس الفنية البرجوازية كالرمزية والسوريالية والوجودية، لا تعادي الاتجاهات الواقعية التقدمية بسبب تجديد الشكل، وإنما بسبب المحتوى، وسرعان ما يتحول ذلك العداء إلى رفقة ووئام خصوصا عندما يتغير الموقف الأيديولوجي لمضمون عمل أي من الأدباء الواقعيين مع تمسكهم بالشكل الفني الذي كانوا يأخذون به قبل تحولهم الفكري . ورأينا في هذه المسألة يتفق مع الذين يميلون الى التمييز بين الصفة المطلقة للإيقاع اللغوي والعنصر الموسيقى، وبين الصفة النسبية والمحدودة التي يراد بها تقنين الأوزان الموروثة التي أحصاها الخليل بن أحمد، مع أنه أحصى خمسة عشر وزنا فقط، ثم جاء الأخفش فألحق بها وزنا آخر، حتى صارت ستة عشر وزنا.. وقد يأتي من يكتشف وزنا آخر، كما فعلت نازك الملائكة في قصيدتها «يغير ألوانه البحر» والمنشورة في عام 1977م. وما من شك في أن تطور الأذواق والأحاسيس الفنية للبشر، يرتبط بتطور الحياة و المجتمع، وتطور الاتصالات والعلاقات الحضارية المتبادلة بين شعوب وأمم العالم في العصر الراهن، حيث يمكن أن يقود ذلك إلى اختفاء أوزان كانت شائعة في أزمنة ما، وشيوع أوزان جديدة يفرضها التطور المستمر في إيقاعات المتغيرات الحاصلة في الحياة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقارب في الحس الجمالي والحس الموسيقي، بيد أن المهم هو عدم إفقاد هذا التقارب مضمونه الحضاري التاريخي الذي يعكس نجاحات وانتصارات الإنسان في نضاله ضد كل عوامل القهر والاستلاب والعصبية والظلم والحروب، ذلك أن المهمة الجوهرية للإنسان والشاعر إنسان بطبيعة الحال هي اكتشاف الضرورة وتوسيع مجال نشاطه الواعي والهادف باتجاه السيطرة على قوانين الطبيعة والمجتمع، وتوظيفها في سبيل تعزيز وتعميق الحياة الإنسانية وتوجهها صوب آفاق الحرية والتقدم. وبهذا المعنى .. يمكن اعتبار التجديد في العمل الإبداعي قضية تاريخية للمبدعين في بلادنا وكل البلدان المناضلة والتواقة إلى آفاق الحرية والتقدم ، لأن الزمن وهو جزء هام من الإطار التاريخي للعمل الإبداعي، هو الذي يجعل من الإبداع قضية تاريخية تتجدد في رحاب انتماء الإنسان إلى الزمن الجديد، حيث يسعى المبدعون إلى تأكيد ارتباطهم بالعالم الإنساني الكبير. ومع اكتشاف المبدع لذاته في سياق وعيه لتفاعلات الزمن الحاضر والعالم المعاصر ورفضه لثوابت الماضي الجامدة ، وتطلعه إلى المستقبل الأجمل ، يدرك الإنسان معنى الحرية والتقدم الاجتماعي.. معنى الوطن والحضارة.. معنى العلم والخرافة. ومع كل ولادة لزمن جديد ومتغيرات جديدة ، يولد بالضرورة إبداع جديد يتسع ليتوحد مع تفاعلات العصر وأشواق وهموم الإنسان. بعض المبدعين يرفضون ربط حق الكتاب الإبداعي في الوجود والتعبير عن نفسه، بطائفة من الشروط الإدارية، التي تتعامل مع مشروعية نشر الكتاب الإبداعي من منظور تجاري صرف، ويطالبون بأن ترتبط عملية النشر بسياسة ثقافية تنطلق من رؤية فكرية وفنية تتجه نحو آفاق العملية الإبداعية، بدلا من أن تتجه نحو مراعاة اعتبارات المخازن وسندات البيع والشراء. ويدعم هؤلاء المثقفون وجهة نظرهم بالإشارة إلى أن كتب مايا كوفسكي التي لم تجد من يقرؤها في العشرينات من القرن الماضي ، أضحت تطبع بملايين النسخ في منتصف ذلك القرن، ويعاد نشرها على نحو واسع ومستمر في الوقت الحاضر، ولا ينسون التذكير أيضا بأن الشاعر العربي حبيب بن أوس الطائي المعروف ب (أبي تمام) أصبح مقروءا في عصرنا بشكل واسع، بينما كان منتقدوه في عصره يقولون له: لماذا تقول ما لا يفهم؟.. فيرد عليهم.. ولماذا لا تفهمون ما يقال! ويذهب قسم آخر من المثقفين إلى أبعد من وجهة النظر السابقة، حيث يعربون عن خشيتهم من أن تكون هذه التدابير مؤشرا لسياسة ثقافية تطلب من المبدعين تكييف أساليبهم الإبداعية شكلا ومضمونا لمقتضيات الترويج التجاري، وما قد ينجم عن ذلك من عودة للمفاهيم التي تطلب من المبدع أن يتخلى عن موقفه الفني الإبداعي، وتكييف إبداعاته لشروط السوق الخارجة على عملية الإبداع، بما في ذلك المفاهيم الفوضوية والليبرالية، التي تدعو إلى تبسيط الثقافة، وتفرض شروطا قسرية ومسبقة للعملية الإبداعية، لاعتبارات سياسية أو أيديولوجية ذات طبيعة يسارية انعزالية أو يمينية دوغمائية، أو لاعتبارات تجارية، وجميعها شروط لا تخدم قضية نشر الثقافة الجديدة، ولا تسهم في تعزيز عملية التجديد الديمقراطي للثقافة. في ضوء هذه الإشكالية التي تتعلق بتقنين عملية النشر، تبرز إشكالية أكثر عمقا، وتتمثل في سبل زيادة نشاط ومشاركة الجمهور المتلقي في آلية العملية الثقافية.. ذلك أن ديمقراطية الحياة الثقافية لا تنحصر فقط على حقوق المبدعين، ولكنها تشمل أيضا حقوق الجماهير في الاستمتاع بالأعمال الإبداعية الجيدة . وإذا كان من المهم التأكيد على وظيفة الآداب والفنون في تطوير أذواق ومدارك الجمهور باستمرار وبوتائر أكبر، فإنه من الواجب أيضا أن نؤكد أهمية الدور الذي يلعبه الجمهور بدوره في التأثير على العملية الإبداعية وتطويرها، دون أن ينفي ذلك أهمية تربية وإعداد الجمهور الذي يقدر ويستوعب الأعمال الإبداعية الهامة. وعلى قاعدة هذا التأثير المتبادل والمتواصل ، يمكن للعملية الإبداعية أن تكتسب مضامينها الجديدة، التي تستند إلى دورها التأثيري في حياة الناس، كما يمكن لعملية إشاعة الديمقراطية في الحياة الثقافية أن تكتسب دعامتها الصلبة التي تستند إلى بنية جديدة وواسعة للثقافة الجماهيرية. تأسيسا على ما تقدم، تبرز أمامنا مجددا إشكالية العلاقة بين المبدع والمتلقي.. وبصرف النظر عن وجهة نظرنا إزاء تدابير النشر الجديدة وما تثيره من تساؤلات وانتقادات بين صفوف المثقفين ، إلا أن تلك الإجراءات تعكس جانبا من أزمة المسافة بين أدبنا وفكرنا من جهة، وبين واقعنا الاجتماعي من جهة أخرى، وهي قضية سبق أن طرحها المفكر العربي اللبناني الشهيد حسين مروة قبل حوالي نصف قرن في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه القيم (دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي) ، حيث وصف علاقة الأدب الثوري العربي بالواقع، بأنها ( تتحرك على مسافة بعيدة عن أعماق هذا الواقع، وخارجة على نظرية هذه الممارسة، وعلى الأفق الثوري لهذه النظرية ) . واليوم وفي ظروف التحولات الثورية الواسعة التي شهدها ويشهدها واقعنا الاجتماعي منذ قيام الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر 14 اكتوبر ) ، تحققت تغيرات كبيرة في ميدان إشاعة الديمقراطية في ثقافتنا، وتحسنت على نحو مطرد المستويات الفكرية والثقافية للجماهير، فيما تنتشر على نطاق واسع ميول الناس نحو التغيير في الحياة السياسية و الاجتماعية.. وتتعزز يوما بعد يوم مكانة الافكار التقدمية في الوعي الاجتماعي، الأمر الذي يستلزم بالضرورة أن يتجه الإبداع الفني والثقافي صوب أفاق الواقع بواسطة الجمهور، وأن يتصل بالناس من خلال حركة صراعهم مع العوامل والمتغيرات التي تحول دون تقدمهم في الحياة. ومن أجل تأمين ارتباط هذه الصلة بالممارسة الكفاحية للناس، وبنظرية هذه الممارسة، ومن أجل توجيه هذا الارتباط نحو الأفق الثوري الرحب لهذه النظرية.. لابد من الانطلاق من الواقع والعودة إليه. ولا نبالغ حين نقول بأن الكتابة النظرية النصية التي تبتعد عن الناس والحياة، لا تعزل كاتبها فقط في طوطم النزعة المدرسية غير المبدعة، بل أنها تفقده القدرة على ملامسة الواقع، وتعزله في مدار ضيق بعيدا عن الحياة بتغيراتها وآفاقها ، حيث، تنطوي الكتابات الإبداعية الغارقة في تجريبها الشكلي على نفسها ، عندما يختط أصحابها لأنفسهم طريقة خاصة يشكلون بها صورة جديدة للحياة بأدوات فنية تتجاهل وعي الناس، ومساهماتهم في تشكيل الواقع الاجتماعي الجديد .. فينعزل هؤلاء عن أبطال الحياة الحقيقيين، ويغتربون عن واقعهم الحقيقي، بانتظار أبطال يولدون من أفق غير معلوم لأجيال بعيدة ستأتي بعد وقت طويل لتتسلم منهم نبوءاتهم!! وهكذا يبتعد هذا الصنف من المبدعين عن الناس انطلاقا مما يعتقدونه يقينا فنيا ثابتا، بيد أن هذا اليقين لا يحررهم من معاناة أزمة المسافة الفاصلة بين النقطة، التي تتراكم فيها كتاباتهم الإبداعية، وبين النقطة التي يبدأ منها الاستهلاك الحقيقي للثقافة. ومما لا شك فيه إن الإنتاج الإبداعي يتميز بصفات خاصة تجعل منه عملا ذاتيا يرتبط بصاحبه، ويضاف إلى رصيده الشخصي وحده.. بخلاف الإنتاج المادي، الذي ينسب عادة إلى المجتمع بأسره، وإلى الرصيد الاجتماعي للناس عموما. وهذه الذاتية، هي إحدى الخصائص الرئيسة للتعبير الفني، وعلى أساسها يرى المبدعون وجودهم ويدركون بها آفاق عالمهم كما يقول غرامشي ، إلا أنه من غير الممكن اتخاذ هذه الذاتية كمبرر لتجاهل علاقة الناس بالإبداع مثلما لا يمكن تجاهل حق المبدع في أن يذيب ذاته في النص الإبداعي. وإذا كانت القيم الديمقراطية التي بشر بها الفكر الإنساني التقدمي، تجسد الضمان لتحرير الإبداع من القيود التي تقنن علاقة الثقافة بالمجتمع، فإنه من الأحرى بالإبداع أن يتجه المبدعون والمثقفون عموما انطلاقا من هذه القيم الديمقراطية نحو الناس بأكبر قدر من التجربة الجمالية التي تؤكد الموقف الديمقراطي الحقيقي للمثقفين من الناس ومن ا لثقافة، بحيث تنتشر هذه التجربة الجمالية في مساحة واسعة داخل وعي الناس، وفي أعماق واقعهم أيضا. ويبقى القول إن الثقافة الجديدة، تستمد بريقها من مضامينها الديمقراطية وأبعادها الإنسانية، التي تجعل منها ثقافة شعبية حقا على النقيض من الثقافات البرجوازية والإقطاعية الموجهة لخدمة حلقات ضيقة من النخب في المجتمعات الاستغلالية التي تتميز ثقافاتها بالقطيعة الكاملة بين دائرة الإنتاج الروحي ودائرة الاستهلاك الشعبي . بمعنى إنها عملية جدلية معقدة تشتمل على تعاملات مركبة للعلاقات القائمة بين المبدع والمتلقي في سياق التحولات الجديدة، التي يشارك في صنعها الناس عموما، قبل أن تتميز هذه المشاركة بتمايزهم في صورة مبدعين ومتلقين على صعيد الثقافة. ولذلك تبرز ضرورة الحيلولة دون تحويل هذا التمايز إلى مدارين منعزلين، مدار للإنتاج الروحي يتحرك بعيدا عن مدار آخر للاستهلاك. وهنا تزداد أيضا أهمية السياسة الثقافية في النظام الاجتماعي الذي يسعى الناس تحت ظله إلى بناء حياة جديدة، وقيم إنسانية وبلوغ مزيد من الآفاق الجديدة.. وهي سياسة لا يجوز أن تكون ساذجة في تشجيع نشر الكتب بغثها وسمينها.. كما لا يجوز أيضا أن تلعب هذه السياسة دور التاجر الذي يتعامل مع الإبداع كسلعة تجارية. و تبقى قضية العلاقة العضوية بين الكتابة والسياسة والناس بحاجة إلى مزيد من البحث المعمق والمتواصل.. والتأصيل الواقعي الملموس.. وهي قضية لم تجد في هذا الحيز الضيق حقها من البحث والتأصيل.. ليس لأني لم أفعل ذلك.. بل لأني لا أستطيع. |