السبت, 20-نوفمبر-2004
بقلم‏:‏ فضيلة الشيخ د‏.‏ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الشريف -
نساء تحدث عنهن القرآن(مـــريم ابنة عــمران)
قصة مريم ابنة عمران رضي الله عنها ــ وقصة ابنها عيسي ــ عليه السلام ــ وردتا ــ في القرآن الكريم في سور متعددة‏,‏ وفي مناسبات شتي‏...‏
منها ما جاء في السور المكية ــ التي كان نزولها قبل الهجرة ــ كسورة مريم‏,‏ ومنها ما جاء في السور المدنية ــ التي كان نزولها بعد الهجرة ــ كسورة آل عمران‏.‏
وقد تكرر اسم مريم في القرآن الكريم أربعا وثلاثين مرة‏,‏ بينما تكرر اسم ابنها عيسي خمسا وعشرين مرة‏,‏ ومن الاحاديث الشريفة التي وردت في فضل مريم رضي الله عنها ــ ما جاء في الصحيحين عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت النبي ــ صلي الله عليه وسلم ــ يقول‏:‏ خير نسائها مريم ابنة عمران‏,‏ وخير نسائها خديجة بنت خويلد‏.‏ مريم ابنة عمران خير نساء الدنيا في زمانها‏,‏ وخديجة خير نساء هذه الأمة‏.‏
والذي يقرأ القرآن الكريم يراه قد فصل الحديث عن ولادة مريم ابنة عمران‏,‏ وعن نشأتها‏,‏ وعن فضلها‏,‏ عن طهارتها وعفافها‏,‏ وعن اصطفائها علي نساء زمانها‏,‏ وعما أعده الله ــ تعالي ــ لها من ثواب عظيم‏.‏

من الآيات القرآنية التي وردت في ميلاد مريم وفي شأن نشأتها‏,‏ قوله ــ تعالي ــ‏:[‏ إن الله اصطفي آدم نوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين‏,‏ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم‏,‏ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي‏,‏ والله أعلم بما وضعت‏,‏ وليس الذكر كالأنثي‏,‏ وإني سميتها مريم‏,‏ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏,‏ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا‏,‏ قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله‏,‏ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏][‏ سورة آل عمران‏:‏ الآيات‏33‏ ــ‏37]‏
لفظ اصطفي من الاصطفاء بمعني الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شئ‏.‏ معني إن الله ــ تعالي ــ قد اختار واصطفي آدم أبا البشر‏,‏ بأن جعله خليفة في الأرض‏,‏ وعلمه الاسماء وأسجد له ملائكته‏.‏

اصطفي نوحا لأنه ــ كما يقول الإمام الآلوسي ــ آدم الأصغر‏,‏ والأب الثاني للبشرية‏,‏ وليس أحد علي البسيطة إلا من نسله‏,‏ لقوله سبحانه‏[‏ وجعلنا ذريته هم الباقين‏][‏ سورة الصافات‏:‏ الآية‏77].‏
واصطفي آل ابراهيم أي‏:‏ واختار عشيرة وأقارب وذرية ابراهيم‏,‏ وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما‏.‏

واصطفي آل عمران بأن جعل منهم عيسي ـ عليه السلام ـ الذي أتاه الله البينات‏,‏ وأيده بروح القدس‏.‏ والمقصود بعمران هذا‏:‏ والد مريم أم عيسي ـ عليه السلام ـ‏,‏ فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا‏...‏ وينتهي نسبه إلي ابراهيم ـ عليه السلام ـ الذي كان جميع الأنبياء الذين جاءوا من بعده من نسله‏....‏ فقد دعا الله تعالي ـ بقوله‏:‏ واجعل لي لسان صدق في الآخرين‏:‏ أي‏:‏ واجعل لي ذكرا حسنا‏,‏ وسمعة طيبة وأثرا كريما في الأمم الأخري التي ستأتي من بعدي‏,‏ فأجاب الله ـ تعالي ـ له دعاءه‏,‏ فجعل أثره خالدا‏,‏ وجعل من ذريته الأنبياء والصالحين‏,‏ وعلي رأسهم خاتمهم وإمامهم محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي ينتهي نسبه إلي اسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ‏.‏
وإن في ذلك التسلسل المنتقي المختار‏,‏ دليلا علي أن الله ـ تعالي ـ قد اقتضت حكمته أن يجعل في الإنسانية من يهديها إلي الصراط المستقيم‏,‏ ثم جاء من بعده بزمان لا يعلمه إلا الله‏,‏ نوح ـ عليه السلام ـ فمكث يدعو الناس إلي إخلاص العبادة لله وحده ـ عز وجل ـ ألف سنة إلا خمسين عاما‏.‏
ثم جاء من بعد ذلك خليل الله ـ تعالي ـ إبراهيم ـ عليه السلام ـ‏,‏ فدعا الناس إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده‏,‏ وإلي التحلي بمكارم الأخلاق‏,‏ فكان هو وآله صفوة الخلق‏,‏ وفيهم النبوة‏,‏ فمن إسماعيل ـ عليه السلام ـ كان محمد ـ صلي الله وسلم ـ الذي هو أفضل الأنبياء والرسل وخاتمهم‏.‏ ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء‏,‏ منهم‏:‏ داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون‏,‏ ومن فرع اسحاق ـ عليه السلام ـ كان آل عمران‏,‏ وهم ذريته وأقاربه ومنهم زكريا ويحيي وعيسي‏...‏ الذي كان آخر نبي من هذا الفرع‏,‏ كما كان آخر نبي قبل خاتم الأنبياء محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏.‏ ثم قص علينا ــ سبحانه ــ ما قالته امرأة عمران‏,‏ عندما أحست بعلامات الحمل في بطنها ــ فقال تعالي‏:‏ ــ‏[‏ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم‏].‏
وامرأة عمران هذه‏:‏ هي حنة بنت فاقرذا بن قنبل‏..‏ وهي أم مريم‏,‏ وجدة عيسي ــ عليه السلام ــ وعمران هذا هو زوجها‏,‏ وهو والد مريم‏.‏

ولفظ نذرت من النذر‏,‏ ومعناه‏:‏ التزام التقرب إلي الله ــ تعالي ــ بشئ من جنس العبادات التي شرعها الله ــ تعالي ــ لعباده‏,‏ ليتقربوا بها إليه رغبة في ثوابه‏.‏ ولفظ محررا أي‏:‏ خالصا للعبادة لله ــ تعالي ــ متفرغا من شواغل الدنيا‏,‏ متخليا عن شهواتها ومتعها‏,‏ ثم ذكر ــ سبحانه ــ ما قالته أم مريم بعد أن تمت ولادة مريم فقال‏:[‏ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي‏..]‏ أي‏:‏ وبعد أن تضرعت أم مريم إلي ربها وقالت‏:‏ يارب إني نذرت لخدمة بيتك المقدس ما في بطني‏,‏ وبعد أن تم وقت الحمل‏,‏ وضعت مولودها‏,‏ وقالت‏:‏ يارب أنت تعلم أن هذا المولود أنثي‏..‏
وقولها هذا ليس المقصود منه الإجبار‏,‏ فالله ــ تعالي ــ عليم بكل شئ‏,‏ وإنما المقصود منه إظهار النذر‏,‏ وقوله ــ سبحانه ــ‏:[‏ والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثي‏]‏ أي‏:‏ والله ــ عز وجل ــ أعلم منها ومن غيرها بما وضعته أم مريم‏,‏ لأنه ــ سبحانه ــ هو الذي أوجد هذا المولود‏,‏ وهو الذي جعله أنثي‏,‏ وقوله سبحانه‏:(‏وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏)‏ تتمة لكلامها بعد أن وضعتها وكلمة مريم معناها في لغة قومها العابدة‏,‏ وهكذا يسوق القرآن الكريم عن مريم وأمها ما يدل علي كمال قدرته وحكمته‏,‏ وما يشهد بأن الايمان بقدرة الله ووحدانيه يهدي القلوب الي كل خير‏,‏ وبأنه ـ سبحانه ـ يقبل دعاء الصالحين‏,‏ ويرزقهم بغير حساب‏.‏
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 16-مايو-2024 الساعة: 10:41 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/16600.htm