الأحد, 25-ديسمبر-2005
المؤتمرنت- القاهرة - مروان الغفوري -
( النص الإسلامي على المحك الحضاري الراهن .)
ربما بدا مثيراً لغيري ، كما هو مثير ٌ لي ، ما قاله المفكر الأمريكي " ديفيد بروكس" في مقال مفاجئٍ مثّل صدمةً للكثيرين من متابعيه و قرّاءه منذ عامين " نُشِر في مارس – 2003 م في نيويورك تايمز ". لقد وجدناه ، على غير عادة منهجه الفكري ، يقول : لا أعتقد أني الوحيد في العالم ، من الذين جايلوا أحداث سبتمبر ، الذي يعكفُ الآن على قراءة كتب محمد بن عبد الوهاب و ابن تيمية و سيد قطب " . ثم انطلَق في حديثه عن مستقبل " الآلة و الدين " بشكل ناقد و شجاع ، حتى أنّه عنون مقاله المشار إليه ب" ست خطوات للتعافي من العلمانيّة " . و لا يهمني في هذا المقام أن أستعرض أفكار " بروكس " . لكني أمهّد لطرح مقاربة مع النص " الإسلامي " تحت هذه الإضاءة السابقة التي تشي ، بأكثر من أشد دلالتها وضوحاً ، بأنّنا أمام محكّات جديدة سيتم فيها اختبار حضاري شديد الوطأة على التشريعي الإسلامي بشكل خاص ، كونه النسق الديني الوحيد عالميّاً الذي يفترض في نفسه امتلاكه مشروعاً حضاريّاً متكاملاً ، و الأديان العالمية بشكل عام لتعاظم الحاجة الروحية العالمية للأمن ، الأمر الذي يمثّل اختباراً مباشراً لفاعلية الدين- أي دين - في تحقيق هذا العام .

.. الحاجة البشرية تصنع تشريعها . بهذا التقديم المقتضب نستطيع أن نحدد معالم التشريع في التصور الإسلامي . و لئلا تنفتح آفاق الحديث بعيداً عن ما نريد أن نقدم له هنا فإنّه من الملائم و المنطقي أن أشير إلى الفرق بين الشريعة و الفقه في التصوّر الإسلامي و الواقعية الإسلاميّة . فالشريعة هي " الوضع الإلهي الثابت ، من نبيّ من الأنبياء ، يتخلق به المكلفُ معاشاً و معاداً " بينما ينصرف الفقه إلى " استخلاص الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلة ". ففي حين تتمتّع الشريعة بثبات كلّي يتمتع الفقه ، أيضاً ، بتحوّل كلّي تماماً . و عليه فإنّ اعتبار جوهر المنظومة الإسلامية يقوم على : العقائد ، العبادات ، و المعاملات ، سيدعونا إلى التخفف كثيراً من حالة الخلط الذهنية التي تصيب الكثير من المثقفين في نقدهم للأطروحة الإسلامية، رغم تحفظّي الشديد على هذا التعميم . فنحنُ أمام بنية شموليّة – النظرية الإسلامية - تبدأ من العقائد ، فالعبادات و المعاملات ( مصالح البشر) ، و تنتهي بربط هذه الدعامات الثلاث ببعضها من خلال الاستشعار التعبّدي المؤدّي إلى الغاية الكلّية ( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين ) . و هذه المنظومة الكلّية تشكل ( الشريعة ) التي منها المعاملات ( الفقه ) كأصل فيها، و ليس مقصدها الآحاد. لنصل وفقاً للتعريف العلمي لهذه البنية الشاملة إلى إدراك محايد لمعنى الثابت و المتحوّل ، أو البشري و الإلهي في النظرية الإسلامية . و لأنّ البشري لا يعني امتلاك إجابات جاهزة قدمتها أعينُ الموتى ( طبقاً لتعريفات روجيه غارودي ) ، فإنّ الخاصية البشرية للفقه ( قانون مصالح العباد) لا تعني أنّ أمام المشرّع مهّمة جديدة من الابتداء ، و تأسيس مادة تشريعية منبتّة . الأمرُ هنا يعني : أن الخاصية البشرية للأداء الفقهي تمارسُ " الابتناء " و " الاستئناس" اللذين لا يلغيان المعاصرة و لا يجابهانها . و بالمبدإ نفسه ، الذي انبثقت عنه مدرسة الرأي قديماً ، يكونُ استدعاء المقصد التشريعي بكلّياته الخمس كحجّية ضابطة لمجمل الإجابات الفقهية التي ستقدّم لإصابات و نتاجات المجتمع الراهن .

نستطيع الآن ، بجلاء عامٍ ، أن نعيد قراءة الحوار السريع ، الذي أجراه الرسول الكريم مع علي بن أبي طالب و هو على مشارف سفرٍ إلى اليمن ، وفقاً لأدواتنا المعرفية الراهنة. كان " الإمام " يحدد مصادر التشريع ( النصوص ) أمام الرسول الكريم و موقفه منها كمرجعيّة ثابتة تتصالح مع التأويل البشري بما ينتج ( فقهاً ) مرناً لا ترهنه الجغرافيا و لا الوقت : أحكم بينهم بكتاب الله . ( فإن لم تجد ) قال : فبسنة رسول الله ، (فإن لم تجد ) قال : ( أجتهد رأيي و لا آلو ) – بمعنى : لن أقصّر . و من خلال قراءة علامات الرضا ( ضرَبه على صدره و هو يقول : الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي الله ) على وجه رسول الله سنعطي أنفسنا فرصة جديدة لإعادة تفكيك معنى ( التشريع ) وفقاً لمعطيات التصور الإسلامي الكلّيّة .

نحنُ نجدُ أنفسنا أمام ( نصّ ثابت) لا يمثّل أكثر من علاقات خطّية بين علاماته الداخلية . و لهذا النص مؤدّىً ما ( دلالة إشاريّة ) تكشف عن تشريع / حكم / نقد . و هي ثلاث مجلّات لدالة واحدة تماماً . و بعيداً عن الجدل الدائم حول ثبوت نسبة النص ( النبوي بشكل حصري ) إلى رسول الله ، و هو ما عرفناه بمعارك الأسانيد ، فثمّة أمرٌ لا يقلُّ أهميّة عن معرفة أخلاق الرجال التي ستنعكس بالضرورة على ثبوتيّة نسبة النص ( الحديث النبوي) إلى الرسول الكريم . أعني أنّ ثمّ مساحةً هامة للدخول في استحقاق جديد يفتح الباب إلى نقد المتن ( النص ) ذاته في محاولة تفكيك علميّة تستدعي مقاصدية المشرّع ، عملاً بحقيقة أنّه (حيثُ تكون مصالح العباد فثم شرعُ الله ) . نقرأ في روايات متواترة أن الخليفة الفاروق عطّل حق المؤلفة قلوبهم من بيت المال، و عطّل حد ( قانون / نص ) السرقة في عام الرمادة، و أعاد تعريف معنى ( و اعلموا أن ما غنمتم من شيءٍ فإنّ لله خمسَه ) بما يخالف الصورة الذهنية السائدة عن المعنى المشار إليه و بشكل يفهم منه تماماً أنه تعطيل لنص واضح الإشارة ، في حين اكتفى الخليفة بتقديم توضيحاته النظرية منطلقاً من مقاصدية النص القرآني .. و هي رعاية مصالح العباد ( الأمّة ) . الأمر هنا لا يتعلّق بتعطيل نص، في الواقع ، بل في إعادة تأهيل الوعي ( المعنى ) المشار إليه لمصلحة الدلالة النهائية لمجمل التصوّر الإسلامي، و هو ما يمكن أن نصفه بقولنا : هناك قراءة تنازلية لمجمل النصوص الثابتة تؤدي – بالضرورة – إلى صورة إجمالية عن المشار إليه ( غرض الشارِع ) . و من خلال النفاذ إلى النصوص الجزئية لاستخراج دوال تحقّق المعنى الكلّي لمجمل منظومة النصوص ( الحق الإلهي الثابت ) سيتوفّر أمامنا حقل دلالي جديد يمتاز بوجود العديد من الإشارات : مضادات لمجمل المعنى العام ، و مؤيّدات . في هذه المنطقة الهامّة من القراءة يتم ترشيح الدوال المفضية للمؤدّى العام لفلسفة التشريع في مقابل تنحية الدوال المعاكسة له ، و هو ما عرف بالاجتهاد المقاصدي .

تمتاز نصوص التشريع الإسلامي بمرونة عالية في تعرّفها على الإصابات البشرية و استجابتها لها . و هي نصوص أثبتت قدرتها على التجاوب الذكّي مع حركة المجتمع البشري ؛ لكنّها – كنصوص خطّية – بحاجة إلى ورشة مستمرة تمارسُ نشاط الصناعات التحويلية و تخليق أدوات التصنيع ذاتها – كما يقول د . محمد عمارة – بعيداً عن كلاسيّة تصنيع مستحضرات الحياة اليومية البسيطة . و عند هذا المستوى من الوعي سيستدعي الأمرُ إعادة الاعتبار إلى الكلّيات الخمس ، التي هي مناط التشريع الإسلامي و حجّيته . هناك حيثُ : الحفاظ على النفس و النسل و العقل و المال و الدّين . و لأنّ هذه الكلّيات تتغير و تتحوّل بفعل تحوّلات حركة البشر : ثقافيّاً و اجتماعيّاً و حضاريّاً ، فإنّ النص التشريعي سيواجه – و هو ما نراهُ الآن – تهديداً مباشراً بالنسخِ و التجاوز . فهناك إجماع من قبل العقل البشري كلّه ، يستوي في ذلك ما يقوله ماركس في رأس المال ( إن الاجتماع يصنع الوعي و ليس العكس ) و مقاصدية التشريع الإسلامي التي أشرنا إليها آناً ، على أهمّية أن يعي النص معادلات ( الضرورة و الحاجة و التحسين ) التي يخلقها المجتمع بفعل ديناميكيّته و تراكماتها في الخبرة و المعرفة .

كان النبي الكريم يشيرُ بذكاء محض إلى تغيّر قيم المجتمعات ، و خبراتها ، المفضية – بالطبع – إلى حضاراتها و أعرافها الخاصة بها .. ذلك حين نبّه الإمام عليّ إلى إمكانية أن يواجه في اليمن – البلد الذي يتمتع بحضارة متنوعة و خبرة وجودية أعلى من مثيلتها في الجغرافيا المحيطة بالجزيرة و الداخلة فيها . و بالرغم من هذا الإدراك النبوي إلا أنّ الرسول الكريم لم يزوّد رسولَه ( الإمام علي ) بمادة قانونية إضافية . لقد كان الوعي بالمقصد الإسلامي من التشريع كافيَاً لإحداث عملية التراسل المطلوبة بين المشرّع و المشرّع له ، من خلال علاقات كلّية تحيط بالخبرة البشرية إحاطة مجازية و حقيقية في آن واحدة . و هي الصورة ذاتها التي رأيناها في الثنائية الفكرية التي نتجت عقب انتقال طائفة من كبار الصحابة إلى العراق ( الإمام علي، المغيرة بن شعبة ، آخرون.. ) حيثُ نشأت مدرسة جديدة للفكر ، أسميت : مدرسة الرأي ، مقابل مدرسة ( الحديث ) التي سادت في المدينة . و هي الثنائية التي عكست حقيقة التشريع الإسلامي المرن ، و المعتمد في أساس ( فقهه ) على أن ممارسات المجتمع البشري تصنعُ حاجته ، و تثير كمون النص المُحيط الكلّي ( التشريع ) للتجاوب معها وفقاً لمحصّلته الواسعة من إدراك إلهي لما يصلح البشر ( ألا يعلمُ من خلق و هو اللطيف الخبير) .. و بذكاء ،كان متوقّعاً حين استطعنا بعد أكثر من ألف عام أن نتنبأ به ، استوعبت النظرية الإسلامية كل أعراف البشرية و حضاراتها ، و لم توجد تلك الثنائية ( أو الانتقال المخيف ،وفق تعبير جان روسو ) بين النظرية و التطبيق ، حتى في تلك اللحظات التي نادى فيها بعض مثقفي ( فقهاء القرن السابع الهجري ) المجتمع الإسلامي : إذا خالف الواقع النظرية غيّر النظرية . و لن يكون مفيداً كثيراً – و إن كان يكونُ كذلك - هنا أن أشير إلى ما قاله " آين شتاين " منذ أكثر من نصف قرن : إذا خالف الواقع النظرية غيّر الواقع .. فكما قلتُ : التصور الإسلامي يمتاز بمرونة استوعبت الهوّة المحتملة بين النظرية و التطبيق لاستدعائه الدائم لمقاصدية التشريع ، و التي منها ( حفظ الدين ) و ليس ( الإسلام) في دلالة تحفظ عبقرية الفلسفة الإسلامية التي تهدفُ ، في أول ما تهدفُ ، إلى حفظ ( الأمن الاجتماعي ) ..

إنّ حديثنا هذا لا يرادُ به التأكيد سوى على عبقرية النص الإسلامي المرن ، غير أنّه لا ينفي – بل يؤكّد – وجود أزمة فكر إسلامي مخيفة .. تضع النظرية الإسلامية حاليّاً على المحك أمام تساؤلات الحضارة اللانهائية ..


تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 14-مايو-2024 الساعة: 09:42 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/26799.htm