الإثنين, 31-يوليو-2006
بقلم/ مني سلمان -
المجد للمجانين ولا نامت أعين الحكماء.
كان يمكن لعرابي أن يكون أكثر حكمة وتعقلا فلا يواجه استبداد الخديوي كما فعل أو يصرخ في وجهه بأننا لسنا تراثا أو عقارا ولن نورث بعد اليوم.
فالحكمة كانت تقتضي أن يكتفي بما وصل إليه ويحمد الله ويقبل يديه ظهر بطن، فهو في النهاية مجرد (فلاح) استطاع في غفلة من الزمان أن يصل لجيش بلاده ويحمل السلاح الي جوار عساكر الغز ، العقل يقول إنه كان عليه أن يسترخي وينعم بثمرة هذا الحراك الاجتماعي الذي حمله الي طبقة الصفوة، ثم انه علي الأقل كان سيتجنب سنوات النفي والسجن والعذاب ناهيك عن التجريس (من الجرسة وهي الفضيحة) الذي لحق به، وتحميله مسؤولية دخول الاحتلال الإنكليزي الي مصر، الأمر الذي لم ينطل علي المصريين فظلوا يتوارثون عبارة صارت مثلا وهي ان الولس كسر عرابي والولس هو الموالسة والتواطؤ، فما بين طعنة الخلف التي جاءت من الباب العالي بإصدار الخليفة مرسوما بعصيان عرابي، وخيانة قبائل البدو في التل الكبير واستعانة الخديوي بالأسطول الإنكليزي الرابض أمام الإسكندرية في وضع الاستعداد، لم يبتلع المصريون أن وقفة عرابي المطالبة بالكرامة لشعبه هي التي أدخلت الاحتلال الي بلادهم، فالاحتلال كان في طريقه ولم تكن تنقصه الذرائع، لكن ذلك لم يحم عرابي من الوصف الذي أطلقه الذين يرتدون ثياب الحكمة من معاصريه باعتباره مجنونا ومغامرا، (هل تتذكر بعض أسمائهم؟).
ووفقا للحكمة كذلك لم يكن يليق بشيخ في سن عمر المختار أن يضع رأسه برأس جيوش الاحتلال الإيطالي، علي الأقل كان سيحتفظ برأسه ليموت في فراشه كما يليق بالشيوخ.
كذلك كان يمكن لأكثر من مليون شهيد دفعوا أعمارهم في الجزائر ثمنا لحرية بلادهم أن يكونوا أكثر تعقلا ويستكينوا في دفء بيوتهم، قانعين بحياة، حتي لم تكن لينة، فهي في النهاية حياة.
وكانت الحكمة أيضا تفرض علي شيخ أزهري في وقار علي عبد الرازق ألا يقف في وجه أحلام فؤاد الأول في أن يصبح خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة في اسطنبول ويؤلف كتابا يدخله في مواجهة مع المؤسسة، علي الأقل كان سيحتفظ بتقاعد مريح.
ولم يكن من التعقل علي الإطلاق أن يضحي أحمد لطفي السيد بمنصب رئاسة الجامعة العريقة احتجاجا علي المساس باستقلال الجامعة المتمثل في إقالة أحد أساتذتها وهو طه حسين، الذي كان عليه بدوره أن يتعقل ويقنع بقدره ليصبح في أفضل تقدير مقرئا كفيفا في المقابر.
وكان ضربا من الجنون بلا شك أن يقف غاليليو في وجه سلطة الكنيسة قائلا بأن الأرض تدور حول نفسها، فماذا كان عليه لو تركها ثابتة في مكانها، أليس الثبات هو أحد مظاهر التعقل؟
أما هؤلاء الذين حلموا بان أصواتنا يمكنها أن تصعد الي السماء في شكل موجات تعود الي الأرض وتسمع في أماكن أخري من الكرة الأرضية، وان الأوبئة ليست لعنة بل أمراض يمكن مداواتها والشفاء منها، أو أن بلاد واق الواق ليست بعيدة كما تبدو، فهؤلاء لا شك علي الإطلاق في جنونهم وأنهم كانوا من الحماقة بحيث لم يستمعوا لأصوات الحكماء من معاصريهم.
وفي الغالب لم يكن من الحكمة أيضا أن أكتب هذه السطور لأوفر علي نفسي ما قد تجره من وجع الرأس (علما بان ذلك نوع خفيف جدا من الجنون لا يمكن مقارنته بأي حال بالأمثلة السابقة، لذا وجب التنويه).
السؤال إذا ماذا لو كنا جميعا من الحكماء أو علي الأقل نستمع الي أصوات القادة المتحلين بالعقل والحكمة، أنصار الاستمرار والاستقرار والثبات والتبات والنبات (عذرا القافية تحكم)، الذين يحكمون علي الفعل ـ أي فعل ـ بالجنون والمغامرة، ما الذي كان يمكن أن يحدث؟
في الغالب وعلي الأرجح وعلي أكثر تقدير.... لا شيء لا شيء علي الإطلاق.
فالتاريخ ليس إلا حصاد خطوات من يطلق عليهم السادة مرتدي ثياب الحكمة والعقل مجانين ومغامرين.
فالمجد إذن للمجانين، ولا نامت أعين الحكماء.

نقلا عن القدس العربي
تمت طباعة الخبر في: السبت, 27-أبريل-2024 الساعة: 03:59 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/33327.htm