المؤتمر نت - الشبزي-تعز

الثلاثاء, 07-أكتوبر-2003
عيسى محمد المساوى- تعز -
يهود تعز.. حضور خجول وآثار تناهبتها السنون

إلى الجانب الأيمن من الخط الدائري وأنت تعتلي قلعة القاهرة التاريخية المطلة على مدينة تعز.. تقع هناك القرية التي كان يقطنها يهود تعز فيما يعرف الآن بحي" السواني" والتي لم يعد لها أي أثر وإذا أمكنك أن تستقل ذاكرة التاريخ لتعود إلى الحقبة الزمنية التي عاشها يهود تعز ستجد أن حي اليهود كان منزويا خارج محيط المجتمع المسلم الذي يحتضنه سور مدينة تعز القديمة المترابط حتى أعلى قلعة القاهرة.. الحلقة الأخيرة لهذا السور. لعل هذا الانزواء الذي يفضله اليهود- بطبيعة الحال- قد فرضته أيضا تقاليد السكان الأصليين التي أنتجها المذهب الشافعي السائد في المناطق اليمنية الجنوبية والذي أظهر تشددا في معاملة الطائفة اليهودية بعكس المذهب الزيدي السائد في المناطق الشمالية وما يبديه من تسامح مع نفس الطائفة. ولعل هذا السبب تسانده أسباب أخرى هو ما دفع يهود تعز إلى مغادرتها عن بكرة أبيهم, فلم يبق من أصولهم عين تطرف خلافا لما هو عليه الحال في صنعاء وصعده، ولحق بهم جزء لا بأس, به من معالمهم المشاهدة وما تبقى لا يتجاوز أصابع اليد، اختزلت معظمها في شخص الشبزي وحياته. فمن هو الشبزي وما قصة الماء المنسوبة إليه في الروايات الشعبية؟
عين الشبزي
انه زعيم الجماعة اليهودية في مدينة تعز وممثلهم لدى رجال الدولة ولم تكن هذه الزعامة مقتصرة على تنظيم أمور الحياة والقواعد التي تحكم العلاقة فيما بينهم وتلك التي تفرضها علاقة الجوار بالمجتمع المسلم، فهو إلى جانب ذلك يحظى بمكانة دينية رفيعة لدى يهود تعز هي التي احتلت حيزا كبيرا من الروايات التي تتحدث عن الطائفة اليهودية في هذه المدينة.. هذا الجانب الديني من حياة الشبزي يكاد يكون الشيء الوحيد الذي استطاعت ذاكرة الشيوخ الاحتفاظ .
إذ لم يبق من تراث هذه الجماعة اليهودية وآثارها سوى الشبزي وما تركه من كرامات تعرف لدى العامة بماء الشبزي, وهو عبارة عن عين ماء طبيعية على هيئة أخدود صغيرة في حوض الأرض تقصده الأمهات لمداواة أطفالهن من أمراض الهزال وضعف البنية الجسمية, وتشرف على أمر هذا التداوي امرأتان مسلمتان هما: نعمة عبدالله ثابت ومسك عبده المشهورة بامرأة الحبيشي. تفيد طقوس التداوي- حسب روايتهما- بأن يؤتى بالطفل المريض فيوضع على قبر الشبزي ويعرى من ثيابه لينقل بعد ذلك إلى العين ويغسل بمائها ويشترط لحصول النفع أن تكون طريق العودة غير التي جاء منها.
إلا أن المثير للدهشة والاستغراب هو أن هذا التقليد لم يقتصر على أبناء الطائفة اليهودية فحسب بل انتشر في أوساط بعض المسلمين من أبناء المدينة, فرغم الاختلاف الديني ونظرة الازدراء التي أفرزتها تقاليد المجتمع لكل ما هو يهودي بعض الأمهات المسلمات لم يجدن غضاضة في ممارسة هذا التقليد والاستفادة من بركات الشبزي. الماء أصبح الآن مزارا لعدد من السياح الأجانب الذين يتوافدون عليه بين الفينة والأخرى.
اختفاء بشري
ولكي نتتبع معالم هذا التداوي ونراها رأي العين انتقلنا إلى المرحلة الثانية في زيارتنا الميدانية وطلبنا من مرافقنا إن يرينا ضريح الشبزي والذي يبعد حوالي مائة متر عن موقع الماء: ترتسم على وجه محمد ملامح الاستياء والاستنكار "للأسف لا يمكنكم ذلك، لقد كنت أحد الشهود العيان على جرف ما تبقى من آثار الضريح في بداية الثمانينات ليبن مكانه معهد السعيد للتعليم للأساسي" يضيف كنت حينها وأسرته نمنع أعمال الجرف ليس حفاظا على ضريح الشبزي ولكن تعويضاً باعتبار أن الأرض اشتراها أجدادي
المعبد المعنوي عليه
المحطة الثالثة خصصت لزيارة موقع آخر لعله أكثر أهمية من غيره يقع على ارتفاع مائة وعشرين متراً تقريباً قرب ضريح الشبزي في منطقة الشامر. إنه الموضع الذي بني فيه معبد اليهود ليمارسوا فيه طقوسهم التعبدية ويحتفلوا بمختلف المناسبات والشعائر الدينية لاسيما عاشورا الذي يمثل تظاهرة دينية متميزة بالنسبة لليهود ويوافق العاشر من محرم من كل سنة. تقول اليهود أنه اليوم الذي نصر فيه موسى عليه السلام على فرعون. احتل هذا المعبد أهمية بارزة لدى اليهود يؤمونه من مختلف أماكن تواجدهم في اليمن ومن خارج اليمن أيضاً غير أن الاحتفالات كما تقول الروايات غلب عليها طابع الهدوء والتحفظ نتيجة لما أفرزته تقاليد المسلمين من ضوابط صارمة تنظم ممارسات اليهود لمثل تلك الطقوس،
عندما وصلنا إلى موقع المعبد وجدنا مبنى قديماً هدمت سقوفه وجدرانه ويعاد إنشاؤه من جديد ولم يكن ذلك المبنى سوى مدرسة قديمة انشأت على موقع المعبد الذي لم يتبق من آثاره شيء يذكر ولا حتى بقايا طلل.


القبة المتنفس
قبة العويدة كانت المحطة الرابعة وهي ليست كالقباب التي كانت تعمل لمشائخ الصوفية. إنها أشبه باستراحة على هيئة قبة، لها منافذ واسعة من جميع الجهات تضم في جانبها الأمامي بركة مبنية من الحجارة الصلبة والقضاض يبلغ طولها حوالي سبعة أمتار وعرضها ثلاثة تقريبا وهي عبارة عن خزان مكشوف يستخدم عادة لحفظ مياه الأمطار إلا أنها هذه المرة بدت لغرض آخر لعله ترويح النفس والتخفيف عليها من وطأة الهجير الذي يكتم على الأنفاس في هذه المدينة الحارة،
يرى الجالس على هذه القبة صفحة الماء تداعبها الرياح فتتماوج متلألأة ملء العيون، لتغمرها البهجة وتنسى جهد الحياة النازفة عرقا. فأين تقع هذه القبة؟ إنها خلف قلعة القاهرة تماما باتجاه الغرب وترى منها الضواحي الغربية لمدينة تعز ولكن ما حقيقة هذه القبة؟
اختلفت الروايات في مسمياتها وتاريخها فجزء منها يسميها قبة الشبزي على أنها كانت المكان الذي أوى إليه كلما أراد خلوة بنفسه والجزء الآخر ويبدو أنه الغالب يسمى قبة العويد، ويرجع تاريخ بنائها إلى العهد الأيوبي في القرن الثاني عشر للميلاد وعندما حاولنا البحث عن تواريخ محفورة على جدرانها استوقفتنا أربع نجمات مرسومة في مقدماتها الأربع وهي المشهورة بنجمة داود عليه السلام السداسية ولعل هذا ما استندت عليه الروايات التي نسبتها للشبزي، وهنا توقفنا بعد انتهـاء المعالـم التي تقـول الروايات أن لها صلة بيهود تعز.
الغموض لم يرحل
إن الغموض الذي ساد زوايا الأسر اليهودية في تعز والتخفي البارز في تعاملاتهم الاجتماعية مع غيرهم من المسلمين لم يغادر هو الآخر معها حين أزمعت الرحيل. لقد آثر البقاء لنشر الضباب الكثيف على كل ما يمت إليها بصلة. ولم يبق إلا النذر اليسير الذي لم يستطع اتقاء مخالب الزمن شاهداً على حياتهم في هذه المدينة الحاضنة لتراث دويلات وملوك لهم مكانتهم في تاريخ اليمن.


تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 29-أبريل-2024 الساعة: 12:39 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/3493.htm