الجمعة, 12-سبتمبر-2008
المؤتمر نت -   محمد حسين العيدروس* -
التخريب السياسي للصروح العلمية
لا يمكن بناء الأوطان بغير بناء الإنسان أولاً، وهذا الأمر لا يتحقق دون إعداد الفرد أخلاقياً، وعلمياً، وثقافياً، وتزويده بكافة المهارات التي تكفل له صناعة الحياة الكريمة والآمنة والمستقرة.

ففي بعض الحضارات القديمة-كالتي نشأت في أثينا واسبارطة- كانت الدول تهتم بالبناء البدني والعسكري للفرد لأن حياتها لم تشهد الاستقرار، وكانت الصراعات هي الثقافة السائدة.. إلا أن هذا المفهوم تبدل بمرور الوقت، وظهر معنى جديد يقوم على أساس بناء عقلية الإنسان وفكره الحضاري المتمدن الذي صار الجميع فيه يتسابق علمياً، ويرى رفعته وقوته بحجم ما يمتلك من علوم وفنون وعقول بشرية تتكفل إدارة شئون المجتمع المختلفة.

ومع أن هذا المعنى رسخه الدين الإسلامي الحنيف في عقيدتنا بقوله تعالى: (قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعملون)، إلا أن تحول شعوبنا إلى السياسات العصرية والتقاليد الديمقراطية وما يرافقها من حريات وتعددية حزبية فتح ثغرة لذوي الثقافات المغلقة من التيارات العاجزة عن الانعتاق من الماضي، لتحاول تسكين الحراك العلمي التقدمي، وكبح جماحه عن أي خطوة للأمام لأن تلك التيارات تجد صعوبة في مجاراتها، وبالتالي تسعى لعرقلتها من خلال إفساد مؤسسات التأهيل العلمي والأكاديمي.

وبطبيعة الحال إن هذا اللون من الفساد لا يتشكل بصيغ مادية، وإنما بصيغ فكرية من خلال إخضاع الأجيال لدراسة نوع واحد من المعارف الإنسانية وتجاهل كل الأنواع الأخرى التي ترتبط بالنهضة الصناعية والتجارية ومختلف الجوانب العلمية التي تتسابق بها بقية الأمم.. متجاهلة في ذلك أمر الله تعالى بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فهي ترى العالم يبني قوته الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية ورغم هذا تنكر على الأمة حقها في بلوغ الأشكال من القوة وتحصرها في قوة "العبادة" في الوقت الذي كان معلم البشرية المصطفى عليه الصلاة والسلام لا يفوقه مخلوق بقوة إيمانه، ومع هذا حمل سيفاً للذود عن راية الإسلام، وعلم البشرية كرامة العمل وبنى أمة منتجة وليس على الأرض من يضاهيها بعلومها.


كما أننا نجد في العصر الحديث من يسعى لإفساد النهضة العلمية بنقل صراعاته الحزبية، وخلافاته السياسية إلى الصروح العلمية من مدارس وجامعات، فيغرس الفرقة بين الشباب، ويعزز الضغينة في نفوسهم، ويصنفهم إلى فرق وتكتلات لا شغل يشغلها غير إشعال الفتن فيما بينها البين، وتعطيل فرص الحصول على العلم والمعرفة.. ولنا في بلادنا تجارب كثيرة ومريرة لتخريب مسيرة التعليم بلغت مستوى الإدمان على الإضرابات والاعتصامات لأشهر طويلة تحت مسميات حقوقية دونما الاكتراث إلى مستقبل الأجيال، وإلى مدى الضرر الذي قد يلحق بها جراء تخلفها لعام و لعامين عن ركب أقرانها في بلدان أخرى من العالم.

ولعل الأمر المشين حقاً أن تتحول ساحات هذه الصروح العلمية إلى ميدان لتصفية خلافات سياسية، أو أن يستغل أبنائنا الطلاب في مسيرات ومظاهرات لا طائل منها غير التعطيل المتعمد لمسيرة التعليم، بل وصل الأمر إلى قيام بعض القوى السياسية إلى عقد تجمعات أمام بوابات الجامعات تدعو الطلاب إلى الرسوب في الدراسة بحجة أنهم لن يحصلوا على وظائف بعد التخرج..!!

هكذا يجري صراع العصر بين القوى التقدمية والقوى المختلفة الرافضة لمواكبة الحضارة، والتي تصر على إعادة التاريخ رجعياً إلى زمنها المليء بالظلم والاستبداد، وذلك لأنها تدرك مسبقاً أن لا بقاء لها في عصر حريات الرأي والتعبير القادر على توجيه الانتقادات اللاذعة لها والقضاء على وجودها.

وكما يعرف الجميع أن منابر العلم في بلداننا الإسلامية غير قاصرة على المدارس والجامعات، بل تمتد إلى المساجد التي كانت هي الأساس والمنطلق للأمة الإسلامية لبلوغ مشارق الأرض ومغاربها، لكن للأسف في عصرنا التالي طالت بعضها أيدي التخريب المتربصة لكل نهضة علمية في البلد؛ حيث أن بعض القوى قامت بتسريب سمومها إلى هذه الأماكن المقدسة، واستغلتها لأعمال حزبية وغايات تعبوية فئوية لإذكاء الفتن والخلافات والفرقة بين أبناء الأمة التي لا تحمل أي وازع ديني لمخافة الله تعالى.

اليوم ونحن نعيش أيام الشهر الفضيل علينا أن نتذكر دائماً أن الدولة الحديثة تمتلك ذاتها بالإيمان والعلم والبناء المتين، وما لم نهيئ لأبنائنا إلى جانب المسجد صرحاً أكاديمياً خالياً من أي صراعات ومناكفات وحسابات حزبية، فإننا قد نخسرهم.. فلنتق الله بهم عسى أن يكتب لهم مخرجاً لحياة أفضل.


تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 29-أبريل-2024 الساعة: 11:37 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/2014x/62379.htm