عبده بورجي -
مات (العفيف)!
كما أراد "العفيف" تماماً رحمه الله كان تقبل العزاء في رحيله مميزاً واستثنائياً بما اتسم به من التواضع والبساطة والتفرد والتمرد على تلك العادات والتقاليد الرتيبة التي تصاحب عادة مثل هذه المناسبات الاجتماعية وطقوسها الغريبة التي نسميها "مجابرة" وهي في حقيقتها لا تعدو أن تكون مناسبات لإثقال كاهل أهل الميت بالتزامات مالية ومجاملات اجتماعية تزيد من أحزانهم بميتهم أحزاناً وكمداً ناهيك عما تسببه أيضاً من متاعب لتلك الجموع من الناس التي تتوافد زرافات ووحدانا إلى صالات العزاء ومقايلها وقد تأبط غالبيتهم (قاتهم) وحيث يضطر المريض منهم والمنهك بدواء الجسد وأسقام المرض الراغب في تقديم واجب العزاء لأهل الفقيد إلى تحميل نفسه وقلبه وصحته عموماً ما لا يحتمل من متاعب المجاملة وملء صدره قسراً بأدخنة السجائر التي تملأ فضاءات تلك القاعات والأمكنة المكتظة عادة بالبشر المدخنين ناهيك عن احتمالات التعرض لفيروسات الأمراض المعدية المنتقلة عبر المصافحة أو العناق أو "العطس" أو الاستنشاق وغيرها وهكذا يتحول العزاء في مثل هذه المجالس والصالات والأمكنة إلى تعذيب للنفوس العليلة وإرهاق للأجساد المنهكة واستنزاف لجيوب الأهل والأقارب! فلقد أوصى "العفيف" قبل رحيله أن يتم العزاء فيه بصورة بسيطة ومتواضعة ودون قات مجرد مصافحة سريعة لأولاده وأقاربه وكتابة أسطر أو خواطر في سجلات عزاء لمن شاء ذلك كيف لا وهو الذي كرس نفسه وفي أواخر ما تبقى له من سنوات العمر وضمن قضايا عديدة لمحاربة ظاهرة تعاطي القات وكان رئيساً للجنة وطنية أسسها لهذه الغاية باعتبار القات من وجهة نظره الثاقبة نبتة شيطانية وآفة اجتماعية أعاقت تقدم اليمن وأرهقت اقتصاد اليمنيين وجيوبهم وبددت صحتهم ومياههم الجوفية وأشياء كثيرة!.
إذا رحل العفيف الذي ملأ الدنيا صيتاً حسناً بما اكتنف مسيرته من عطاءات خيرة لوطنه وأبناء شعبه وكان عنواناً لقصة نجاح تستحق أن تروى للأجيال.. فمن ذا الذي لا يذكر هذا "العفيف" أحمد أو ينساه وهو الذي سطر في سفر التميز والنجاح حكايات وحيث عمل بتفوق ودأب لا يكل وفي كل موقع من مواقع العمل والمسؤوليات التي أسندت إليه خلال سنوات عمره المديد فكان هو التربوي القدير الذي أعطى لوجوده على رأس وزارة التربية والتعليم حضوراً له معنى جعل من هذا المنصب ورغم تواضع الامكانات وشحتها حينها مدخلاً لبناء أجيال يمنية على أسس وطنية وتربوية سليمة كم نحتاجها اليوم أمام مشاهد من الاختلالات والقصور وغياب الرؤية أصابت العملية التعليمية والتربوية في مقتل وحيث يعاني الوطن اليوم من مخرجاتها المحزنة فيما نلمسه في واقع ذلك الجيل من الشباب والنشء الذي تتعالى الصيحات لإنقاذه وإعادة بنائه وتشكيل وعيه وتحصينه بالعلوم والمعارف وبالتربية الوطنية السليمة المؤطرة بقيم الولاء والانتماء للوطن أولاً وأخيراً.. وعلى نفس القدر من الحماس والوعي والعزيمة كان هو الرائد في بناء النواة الأولى للتعليم الجامعي عندما تولى مسؤولية الإشراف على تأسيس جامعة صنعاء في بواكيرها الأولى لينتقل النجاح والتميز معه وهو على رأس بنك التسليف للإسكان الذي جعل منه صرحاً اقتصادياً أسهم بدور إيجابي في عملية التنمية والنهضة العمرانية من خلال تلك المشاريع الاسكانية التي أنجزها البنك أثناء توليه مسؤوليته وكانت مدينة حدة السكنية التي نفذها البنك وحيث كان اليمن وعاصمته صنعاء أشد حاجة إلى وجود مثل هذه المشاريع العمرانية الحديثة التي لبت حاجة متزايدة لدى الكثيرين للمسكن النظيف اللائق وما زالت تلك المشاريع تمثل حتى اليوم شواهد حية تدلل على ما أعطاه "العفيف" وعلو همته وصفاء عقله.. حتى أن ذلك البنك وبعد أن غادره الرجل منذ زمن بعيد غاب دوره وطويت صفحته في غياهب النسيان والعجز عن تكرار ذات التجربة.
وحين انكفأ "العفيف" على ذاته وزهد في المناصب الحكومية أو زهدت عنه لم يستكن للراحة أو يهدأ له بال أو تنطفئ له شعلة.. بل قدم وعبر مؤسسة العفيف الثقافية التي أسسها طوبة طوبة وسخر لها كل ما تبقى له من جهد وطاقة وعمر وما ادخره في حياته من مال بسيط وأفكار مستنيرة ليجعل منها منبراً ثقافياً متدفقاً بالعطاء قدم رسائل تنويرية متألقة بالإبداع والحداثة والتنوع والغنى وكانت العفيف المؤسسة وفي ظل رعايته لها منارة يسترشد بها العديد من مثقفي اليمن من مختلف أطيافهم وفئاتهم وأعمارهم احتضنتهم جميعاً كالأم الرؤوم فكانت وطناً ثقافياً تعلموا فيه ومنه معاني الوطنية الصادقة وحب اليمن والتغزل فيه أرضاً وإنساناً تاريخاً وحضارة وأمجاداً وكينونة.
وها هو العفيف رائد التنوير والعقل المتفتح بالوعي وحسن الإدراك والمتقد بالذكاء وسعة الإطلاع وصاحب النفس الخيرة المتشبعة بالتسامح وحب الوطن وأهله وبالثقافة والقيم الأصيلة يرحل عنا بهدوء وقد ترك لنا من بعده الكثير الذي يستحق أن نسطره عنه ونحكيه عن ذلك الإنسان العصامي البسيط والمكافح القادم من ريف تهامة وإحياء بيت الفقيه العتيقة حيث شق طريقه إلى النجاح بتميز وريادة فكان النموذج المثال الذي سوف تستلهم منه الأجيال المتعاقبة قدوتها الحسنة وتتعلم من عطاياه السخية لوطنه كيف يكون حب الوطن وكيف يكون الانتماء إليه.. عاش "عفيفاً" في حياته مميزاً بسجل حافل بالإنجاز المتألق.. ومات رحمه الله متميزاً أيضاً بما ظل يؤمن به من القناعات الراسخة والسلوك الوطني والإنساني الذي لم تغيره الخطوب والمغريات فكانت لحظة موته وتقديم واجب العزاء لأهله في فقدانه هي الأخرى لحظة إيجابية متميزة لا تنسى ولا تبارح الذاكرة، رحم الله الأستاذ أحمد جابر عفيف وألهمنا جميعاً الصبر الجميل والسلوان لرحيله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.