![]() ( سايكس بيكو) لن تتكرر مشروعات تجزئة تجاوزها منطق العصر نسمع ناطقين باسم “عصائب” تقل أو تزيد عدداً من طوائف وعشائر وإثنيات في أقطار عربية ينادون ب “استقلال” هذه العصائب و”انفصالها” عن كياناتها الوطنية التي ضمتها مع إخوانها في الوطن لسنين طويلة، وتتخذ هذه النزعة أحياناً صفة التقوقع على الذات، واجترار أوهامها، إن استحال الانفصال العملي! ونمد البصر إلى الأفق الدولي والاقليمي المحيط بالعرب، فنرى في الشرق صيناً عملاقة تضم ما يزيد على مليار من البشر في دولة واحدة على وشك أن تصبح القوة الأولى في العالم. كما نرى الهند بتعددياتها المعروفة دولة ديمقراطية موحدة في المشهد الإنساني ونرى في الغرب “الاتحاد الأوروبي” عملاقاً دولياً آخر، يولد في وضح التاريخ عاملاً بجد على التوفيق بين تنوعاته بل تناقضاته.. في سبيل وحدته المتنامية.. (التي لن توقفها نتيجة الاستفتاء الفرنسي المعبرة عن احتجاج ضد السلطة المحلية لا يلغي إيمان الفرنسيين بمبدأ الوحدة الأوروبية التي عملوا طويلاً من أجلها). هذا فضلاً عن ظواهر التكتلات الاقتصادية العملاقة بين شمال أمريكا وجنوبها، وشرق آسيا وجنوبها، بين حالات عالمية مماثلة تتكاثر في عصرنا. فكيف يستقيم المشهد العربي المتقزم والمشهد الدولي المتعملق: هنا عصائب صغيرة تريد الانفصال أياً كان حجمها، وهناك قوى ضخمة تريد الاتحاد وإن لم تسعها البراري والقفار وشمل طموحها قارات بأكملها. ما التفسير.. وأين الخلل؟! لنتفق أولاً على أن منطق الحركة في عالم اليوم والغد هو منطق الكيانات الكبيرة القادرة على البقاء والتعايش مع الكيانات الأخرى التي توازيها في القوة الاقتصادية والحضارية.. وإن المنطق المضاد، منطق التقزم والتجرؤ، لم يعد منطقاً أصلاً بل هو “اللامنطق” المؤدي بأهله إلى الاضمحلال والفناء.. وإن ما استطاعت قوى الاستعمار أن تدبره بليل.. ليل التاريخ.. وغفلة العالم في اتفاقية سايكس بيكو، غير قابل للتكرار والتحقق مهما بلغت أطماع القوى التي خلفتها على مسرح التسلط. وما نراه من “انتفاضات” لبعض العصائب والتكوينات المتقادمة في المجتمعات العربية، ما هو إلا وهج احتراقها بنار الانصهار التاريخي في هذه اللحظة الفاصلة، وصدى مقاومتها اليائسة لمطرقة التاريخ وهي تذيب بوتقتها المنعزلة وتدفعها دفعاً إلى الدخول في النطاق الوطني، فتحاول هياكلها المترسبة بحلاوة الروح وانتفاضة النهاية أن تلجأ إلى المغالطة وتفادي حكم التاريخ الذي لا مفر لها ولأمثالها منه، إلا بالاستجابة لدواعي التقدم الذي لم يعد يتقبل ترسبات ما قبل المجتمع الحديث. وسواء مثلت هذه العصائب أقلية أو أغلبية عددية فإنها لا تملك بمنطق العصر والتقدم والبناء الوطني أية إمكانية لفرض كيانها الطائفي المنفرد، وليس من مستقبل مشرف لها غير المشاركة في المشروع الوطني الواحد، الذي يجب ان نعترف أنه وفي كل قطر عربي قد ورث تاريخياً معطيات التباعد العصبوي، المفتوح على الشقاق الأهلي، وأن المحك لأي تحديث وتطوير وإصلاح هو زيادة مساحة التقارب والتشارك تدريجاً، مرحلة بعد أخرى، إلى ان يتحقق الهدف الوطني الأعلى في الانسجام والتعايش، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك لن يتحقق بغمضة عين، ولا بد من جهد حثيث للاقتراب منه بعد زمن.. ومن دون الالتزام بهذا المشروع الوطني والمدني، فإن مجرد قلب المعادلات العصبوية لن يوفر حلاً ناجعاً وسيعود إلى الحلقة المفرغة ذاتها باستبدال تسلط طائفي بآخر.. وكما أثبتت وتثبت التجارب الوطنية العربية القائمة فإن الاتجاه الصحيح هو تعميق التعليم الوطني، وتعزيز السوق والمصالح الوطنية المشتركة والمتبادلة، وتوفير الدعم كل الدعم لمؤسسات المجتمع المدني، وإعادة تأسيس الإدارة الحكومية على أسس التكافؤ الوطني، في ظل مشروع للإصلاح الشامل تقوده الدولة وتلتزم به. ومنذ بداية النهضة الوطنية الحديثة في العالم العربي، توصلت الحركة الوطنية المصرية الرائدة بقيادة حركة الوفد إلى ان: “الدين لله والوطن للجميع”. وتجسيداً لهذا التوجّه صار شعار حزب الوفد المصري: الهلال وهو يحضن الصليب تعبيراً وتجسيداً لهذا المشروع المتقدم الذي لن تتخلص عصائب المنطقة العربية من صراعاتها المهلكة إلا بالعودة إليه. نعم.. الدين لله والوطن للجميع.. هكذا ببساطة وقوة ووضوح.. ولا حاجة لأي “اختراع” آخر!.. وإشارتنا هنا تشمل الحركة الوطنية المصرية بمختلف فصائلها الديمقراطية وضمن سياقها التاريخي، ولا تخص حزباً بعينه. أذكر قبل سنوات، عندما تعثر العمل العربي الوحدوي، بل العمل العربي المشترك لأسباب يساءل عنها أيضاً أصحاب هذا “العمل العربي” ظهرت أصوات تقول بأن اتجاه حركة العصر هو نحو الكيانات الصغرى.. وأنه لا مستقبل لكتلة عربية أكبر. استشهدوا بمطالبة اسكتلندا باستقلالها والباسك في اسبانيا وكورسكا في فرنسا.. وهلم جرا. وغاب عن هذه الأصوات ان هذه الكيانات الصغيرة تريد تصحيح وتعديل العلاقة مع الكيان الكبير الذي تنتمي إليه، ولا تخالجها أدنى فكرة لرفض الكيان الأكبر المقبل.. وهو في هذه الحالات الاتحاد الأوروبي.. وكما ألمحنا، فإن استفتاء التاسع والعشرين من مايو/ايار بفرنسا والذي اسفر عن رفض غالبية الفرنسيين للدستور الأوروبي الجديد، هو من هذا الباب. نعم اسكتلندا مثلاً تريد حكماً ذاتياً معدّلاً ضمن المملكة المتحدة، لكن هل تريد الخروج على أوروبا المتحدة وهل تفكر الباسك وكورسيكا في ذلك؟ وحتى فرنسا اليوم بعد الاستفتاء الأخير! أما في بلادنا العربية فإن أصحاب هذه الأصوات التجزيئية يتوهمون أن مصالحهم الشخصية الخاصة لن تبقى إلا ضمن انفصالية الكيانات الهزيلة التي يتوهمون استمرارها استمراراً لمصالحهم.. وهي كلها أعني المصالح والكيانات في مهب الريح.. ريح الكيانات الأكبر والأقدر! قلنا بالتوجه للتنمية الوطنية في القطر العربي الواحد تعزيزاً لروح المواطنة المسؤولة لدى الإنسان العربي كي لا يبقى معلقاً بانتظار الذي يأتي ولا يأتي من مشروعات “وحدوية” منوه بها كثيراً، لكن ما قصدناه هو التنمية المفتوحة والمشرعة على أفق التكامل مع التنميات الأخرى في جوارها الطبيعي. أما مشروعات التنمية المغلقة في بوتقات و”غيتوات” هزيلة فليس مصيرها إلا الاختناق في شرنقاتها العنكبوتية.. التي نبرأ إلى الله منها، لأنها لا تمثل غير الاحتكام لغرائز وأوهام صغيرة تجاوزتها حركة العصر وتطورات المجتمع الإنساني. نحن لا نجادل أن ثمة مظالم حدثت وتحدث باسم التوحيد والوحدة. ولا بد أن نعترف بها وبضرورة معالجتها. هذا أمر لا مفر منه أمام حركة التاريخ. لكن علينا ان نتذكر وأن نعي بأن هذه المظالم تشمل الجميع بشكل أو بآخر، وهي لا تقتصر على زيد أو عمرو، ولا هذه الطائفة أو تلك، لتصبح اليوم مثل “قميص عثمان” لإشاعة الفتنة والانجراف نحو مزيد من التجزؤ والتقزم. فليس الحل بالعودة إلى الوراء، بل مواجهة مطلب المرحلة التاريخي في الانصهار الوطني، وما ذلك بالأمر اليسير لعصائب تجمدت كالحجر مع ترسبات الماضي المنقضي. وليكن في منتهى الوضوح أن المقصود بهذه العصائب جميع تلاوينها من سنة وشيعة وطوائف أخرى، أكثرية كانت أم أقلية. فلن يجتمع الوطن على تفرد أو تسلط إحداها. وكما لاحظنا في احد المؤلفات فإن السنة العرب يشكلون ما لا يقل عن 80 في المائة من سكان هذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، لكنهم كغيرهم من العصائب كيانات لم تتحد ولا بد من البحث علمياً وموضوعياً عن تبريرات غير مذهبية لتفسير هذا التفرق، فالاختلاف المذهبي في هذه الحالة غير وارد إطلاقاً، وهو بمنطق تطور الوطن ومجتمعه المدني تفسير قاصر حتى لو وُجد، وتم التذرع به في الحالات الأخرى.. وإلا فكيف نفسر تمرد التنظيمات المسلحة في بعض مناطق اليمن والجزائر وعمان ومصر بين أمثلة أخرى ضد كيان الدولة التي تشاركها المذهب؟ للوحدة الوطنية شروطها المغايرة في عصرنا ولن تقوم على دين ولا مذهب أو أثنية، فأما ان يكون المشروع الوطني ودولته الحديثة، أو لا يكون. * |