تريم الغناء

المؤتمر نت - إحترت كثيراً عند مفترق الطرق في ( الغُرَف) بين " تَرِيم " أوالذهاب إلى " ساه " حيث مباني "مَشغة " المثلثة و ( مشوار ) معبد الإله السبئي ( سين ) في " سونه "  وبقية مدن وادي " عَدِم " الغارق في الحياة.. كانت تريم أكثر إلحاحاً فهي المدينة التي تأسست قبل الميلاد بقرون وكانت عاصمة حضرموت أيام لبيد بن زياد الأباضي عامل الخلفاء الراشدين ثم عاصمة العلم والفن حتى الآن...
المؤتمر نت - أحمد الحسني -
حضرموت .. التي لم يخلق مثلها في البلاد (4)
إحترت كثيراً عند مفترق الطرق في ( الغُرَف) بين " تَرِيم " أوالذهاب إلى " ساه " حيث مباني "مَشغة " المثلثة و ( مشوار ) معبد الإله السبئي ( سين ) في " سونه " وبقية مدن وادي " عَدِم " الغارق في الحياة.. كانت تريم أكثر إلحاحاً فهي المدينة التي تأسست قبل الميلاد بقرون وكانت عاصمة حضرموت أيام لبيد بن زياد الأباضي عامل الخلفاء الراشدين ثم عاصمة العلم والفن حتى الآن.
كل مكان في حضرموت يشير إلى تريم " فالتهويدة " الإعلان عن موسم زيارة النبي هود يكون من تريم ليلة 27 رجب وقباب الأولياء التي تبهرك بناها تريمي والتوابيب المزخرفة صنعها تريمي والمآذن البديعة أقامها تريمي والقصور الفخمة تأنق في إنشائها معلم من تريم والطرق المرصوفة بالحجارة اختصاص تريمي وبساتين التخيل والنارجيل والمعاجن تشير إلى الفضاء تريم فإن وجدت نقشاً سبيئاً أو حميريا حدثك عن تريم وإن سمعت دانا حضرميا حضرك أبو بكر سالم بالفقيه التريمي وإن رددت مع امرئ القيس
دمُّون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون
خاطبت تريم وإن تلوت سيرة عالم حضرمي وجدت تريم في سطور سيرته الذاتية وإن تحدثت عن المغتربين الحضارم فتريم مرسومة علىقسمات وجوههم تريم مدينة وزعت نفسها على حضرموت أو جمعت فيها كل حضرموت..
تقف بين يدَي تريم فإذا نظرت إلى جزءها الشرقي ورأيت كوت " الدُّوَيل " وكوت
" نافي " يطلان على دمون كصقرين سمعت أم الصريخ الكندية الحضرمية تصف بنيها:

أبو أن يفروا والقنا في نحورهم
وأن يرتقوا من خشيـة الموت سلما
ولو أنهم فروا لكانوا أعزة
ولكن رأوا صبراً على الموت أكرما
ورأيت معن بن زائدة الشيباني يجرجر أ ذيال الهزيمة وعبد الرحمن بن يونس يقول له:
يا معن أصبحت في بيداء مظلمة
من بعدما كنت بين الناس مختـالا
حتى أتاك بن عمرو في أطامره
قـد جاشم الصبر أحوالاً فأحـوالا
حتى سقـاك بها كأساً معتّـقة
من شربة جعلت في الصدر أنكالاً
وإذا تتبعت سور النخيل غربا فستنتقل إلى " شعب عِيديد " جزء المدينة الغربي معبد الجمال ومحراب التقى وسجل التاريخ وسحر الطبيعة.
سلمت على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استشهدوا في حروب الردة ودفنوا في "بشّـار " مقبرة تريم بعد أن سمح لي حارس المقبرة الذي طلب مني أولاً أن ألقي بسيجارتي والقات الذي في فمي بعيدا وأتمضمض فهذه مقبرة أناس طاهرين يقصدها الناس للتبرك بالصحابة والأولياء المقبورين فيها يبخّرون القباب ويضعون أغصان الريحان على قبور ذويهم وهم يقرأون فاتحة الكتاب وآية الكرسي.
توجهت بعدها إلى جامع تريم الذي بنى قبل ألف عام وظل برباطه قبلة طلبه العلم على مرور السنين وفي عام 1972م أنشئت في الدور الأرضي منه مكتبة الأحقاف من مجموعة مكتبات أهلية لكل من آل الكاف وآل يحيى وآل بن سهل وآل الحداد ورباط تريم وآل الحسيني والعيدروس من الحزم ومكتبة السلطان القعيطي في المكلا ومصادر أخرى وهي تحوى أكثر من 6200 مخطوطة في التفسير والحديث والفقه والتصوف والتراجم والسير والتاريخ واللغة والطب والمجاميع (مخطوطات تحوي أكثر من نص وموضوع" يعود معظم هذه المخطوطات إلى القرن العاشر والحادي عشر الهجري ومن أقدم المخطوطات فيها نسخة من البيان في تفسير القرآن الجزء الخامس لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي نسخت عام 595هـ بخط نسخ مهمل ونسخة من الجزء الثاني من كتاب القانون في الطب لابن سيناء نسخت سنة 633هـ وبها حواشي منقولة من نسخة المؤلف ونسخة لخمسة أجزاء من الدر المنثور في التفسير للجلال السيوطي نسخت عام 897هـ بالخط المملوكي المذهب وعليها إجازات بخط المؤلف ونسخة من جزئين بخط بديع مذهب لكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض نسخت سنة 763هـ إضافة إلى 1600 مطبوعة.

لقد كانت المدينة بلد العلم في هذه المنطقة كما هي زبيد قلعة الفقه الشافعي وذمار كرسي الزيدية وجبلة قلعة اللغة والأدب وذلك بسبب كثرة المساجد والأربطة فيها فقد أطلق عليها مدينة 360 مسجد أو مدينة صلاة الجماعة فكثرة المساجد فيها تقطع كل عذر لترك الجماعة ولا يزال فيها رغم صغرها أكثر من مائة مسجد تتحلق حول مئذنة مسجد المحضار وهي تشير إلى السماء بشهادة التوحيد ويصدح فيها بالتكبير من على (175) قدما أسسها على التقوى عمر بن الرحمن السقاف وصممها على ذلك الطراز الفريد خيال الشاعر المشهور والعالم الكبير أبو بكر بن شهاب المتوفى سنة 1340 هـ صاحب النظرية المعمارية التي تقول :
كل بيـت بثـلاث يـزدهي في عيون المكتري والمشتري
الهـوا والنـور في داخـله ومن الخارج حسـن المنـظر
وأتقن وضع اللبنات في صرحها وتأنق في زخارفها المعلم "عوض سلمان بن عفيف التميمي" وهكذا اجتمع خيال الشاعر وإبداع الفنان وجلال التقى ليصنعوا من الطين تحفة فنية تناطح السحاب في وقت كانت فيه "منهاتن" مجموعة من العشش كما يتخيله غروري وأنا أشاهد هذه المئذنة وكل فتاة بأبيها معجبة.
هذه المئذنة بجمالها وجلالها لا تلغي نفحات الجمال والإبداع في المآذن الصغيرة للمساجد الأخرى فكل منها لوحة متميزة لها قراءتها الخاصة وليست المآذن والقباب هي وحدها ما أبدعته عبقرية الفنان التريمي فكما تأنقوا في إظهار حبهم لدينهم واعتزازهم به تفننوا بزخارف القصور بأعمدتها ومجسماتها ونقوش شرفاتها ونوافذها وجدرانها وهو أمر يبرز أكثر في قصور آل الكاف في تريم "العشة" "المنيصورة" "دار السلام" قصر القبة " التواهي " وغيرها..خيالي أقصر من أن يستوعب إمكانية تحول الطين إلى كل هذا الحشد من المنمنمات والنقوش التي تكاد تنطق بعظمة الفنان الذي أبدعها آمنت بالذي خلق من الطين بشرا سويا ونفحه ذلك الذوق واليد المبدعة.. إحمل معك البخور والمجامر إذا رغبت في زيارتها فإن روحا بنت هذه القصور على هذا النحو قد خصت من الله بنفحات قدسية ولا تدخل ساحاتها إلا بعد أن تتطهر في مسابح " محسون " وتحمم جسدك بمياهها وروحك بغياض النخيل والنارجيل المحيطة بها وقل كما قال غيرك :
فلو نظرت فلاسفة إليها لقالوا جنة الدنيا تريم
لقد كنت أود لو أن الوقت يسمح للحبيب عمر بن حفيظ بلقاء أطول من السلام عليه وهو خارج عقب صلاة الظهر بين طلابه في دار المصطفى بتريم الذي أسسه عام 1415هـ وتخرجت أولى دفعه عام 1419هـ ويؤمه الدارسون من كل أنحاء اليمن والشام وأندونيسيا وأفريقيا والخليج العربي يتلقون في حلقات المشائخ دروس التفسير والحديث والفقه والسيرة واللغة العربية ويعيشون حياة تصوف وصفاء لمدة أربع سنوات في هذه الدار التي توفر لهم المأكل والمسكن وسبل الاتصال بذويهم من خلال مركز اتصالات وإنترنت وتتبع الدار مدرسة أهلية تدرس مناهج التربية والتعليم كما يقيم الدار دورات لتحفيظ القرآن الكريم فصليه ونصف سنوية..
كان الحبيب عمر قد أسلم يدي مبتسما إلى مدير مكتبه "بالفقيه" ومضى على عجلة من أمره إلى موعده وكان بالفقيه مدير مكتب الحبيب شابا كأن الله براه من الرقة واللطف وغذاه حسن الخلق وطيب المعشر فكان يحدثني مبتسما ويقدم لي نسخة صغيرة من التعريف بالدار معتذراً عن انشغال الحبيب عمر وعدم إمكانية مقابلته إلا في الساعة الخامسة بعد العصر وحين بدأت اوجه إليه الأسئلة حول الدار رد علي بابتسامة ودودة توحي بالحنكة : "ربع ساعة مع الحبيب عمر تغنيك عن كل شيء وترد على جميع استفساراتك " وطلب مني أن أتبعه إلى استراحة صغيرة بسيطة الأثاث شديدة النظافة وفيها شيخان يرتديان البياض لعلهما ضيوفا وطلب مني الانتظار قليلا ومضى , وبسرعة قدم إلينا الغداء وهو طبق من الرز والسمك كان سائق السيارة الذي يرافقني ينظر باستقلال إلى الزاد المقدم فهمست إليه علينا أن نحترم ضيافة الناس لنا وعندما نخرج سنتغدى حتى نشبع" ولكننا قمنا بعد أن شبعنا وما زال في الطبق بعض الرز والسمك وحين نظر إلي مندهشا قلت له هذه هي التي تسمى " البَرَكة " أستأذنت من بالفقيه وتمنيت أن أقدر على العودة لمقابلة الشيخ ومضيت مع دليلي الشاب "صالح هود حسان" أحد طلاب الدار فأراني سكن الطلاب ومكتبة الدار الذي كان يناوب فيها فتى بسنه وقف لاستقبالنا والبشاشة تقطر من وجهه "إنه ابن أخ الحبيب عمر وأحد طلبة الدار"أما أنا فقد حفظته في راسي هو وبالفقيه باسم "إبنا النور " وخرجت من الدار مع طالب الدار الصالح (صالح) الذي تطوع لمرافقتي من سيئون ولا أستطيع أن أثني عليه أكثر من أن أقول أني رأيت صورته في كتاب "صفة الصفوة" لابن الجوزي ..محمد الجيلاني شاب من الأردن يحمل أمتعته من الدار مغادراً إلى بلده وهو يوشك أن يبكي على فراق تريم وإخوانه في دار المصطفى سألته مالذي أتى بك إلى هنا قال: "تريم والحبيب عمر" لم أرجع لمقابلة الحبيب عمر بن حفيظ واكتفيت بصالح وبالفقيه وأبن أخ الحبيب عمر والجيلاني جوابا على أسئلتي وأتمنى على الحبيب عمر أن يجعل شعار الدار ودعاء طلابه في الأسحار قول ابن عطاء الله السكندري :
"اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً حقاً فيه رضاك أبتغي به أحداً سواك.
وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك
وأعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ".
أكثر ماستقرأه على الجدران وأنت تتجول في تريم هو المنشورات الداعية للقضاء على ديكتاتورية " السيسبان " هذه الشجرة التي انتشرت في المنطقة كالسرطان خصوصا في مجاري السيول مسببة فيضانها وتهديد المدن المجاورة ومنها تريم بالخراب
مضيت إلى "ساه" وأنا أقول
يا لله بعودة في سفوح القرن وإلا في شعب عيديد

تقع هذه المدينة على وادي "عَدِم " وتسمى المدينة بلاد عبدالرحيم نسبة إلى مؤسسها وباني جامعها القريب من قبته عبدالرحيم بن عبدالله بن سعيد باوزير أحد أحفاد سعيد محمد مولى عرف في ضواحي الشحر. وهذا الوادي من أقدم المناطق التي استوطنها الإنسان في هذه المنطقة حيث أظهرت الكشوف الأثرية معبداً ومذبحا للإله السبئي "سين" في مدينة "سونة" على الطريق إلى ساه أما الناس هنا فيسمونه "العادية" نسبة إلى قبيلة عاد ويأخذون من ترابه أسمدة لزرعهم فترابه محروق منذ أن أنزل الله العذاب بعاد وأهلكهم وهناك مناطق متفرقة في الوادي يطلقون عليها العادية لنفس السبب ولم تحظ بالتنقيب فيها وهو أمر لا يقل أهمية عن التنقيب عن النفط في الجبال المحيطة بالوادي قبل أن نصل سونة كنا نشاهد البيوت المثلة "في مشغة" وهو طراز معماري فريد من نوعه في المنطقة كلها واليمن أيضاً
يمتد وادي عدم عشرات الكيلو مترات من الأراضي الصالحة للزراعة ولكن بسط الخضرة متقطعة وقليلة وهي عبارة عن مزارع خاصة لمقتدرين على حفر الآبار وإيصال المضخات كان هناك عرض من البنك الدولي باستصلاح الأراضي وتقسيمها على الناس فدادين معلومة ولكن لسعة التأميم جعلت الناس يخشون اقتراح البنك الدولي وأبقى عجز الناس وإهمال الدولة هذه الأراضي قفارا جرداء يقول الزبيدي "كان عمي عبدالله قد ذهب إلى كينيا مغتربا فطلب منه صاحب العمل أن يقوم بعمل يظنه مهنياً فغضب وقال له أنا ابن فلان وعندي من الأراضي أكبر من مزرعتك هذه فقال له الكيني لو كنت عزيزا حقا لأصلحت مزرعتك بدلا من الغربة فعاد إلى هنا وبنى ذلك المنزل وأقام هذه المزرعة الكبيرة... " أتظن أن على الناس أن يهاجروا إلى كينيا ليفهموا هذه الحقيقة؟؟؟ ويواصل: " هذا شعب السيد مالكه أراد أن يوصل له الماء من رأس الوادي على بعد عدة كيلو مترات وظل يشتري الأراضي التي ستمر منها الساقية حتى وصل منطقة رفض أصحاب الأراضي ان يبيعوه فبدأ بحفر نفق تحت الأرض المملوكة وكان الذي يأتي إليه وهو يعمل في مشروعه هذا يقول له هذا مستحيل فيقوم بطرده وذات يوم جاءه رجل وقال له إنه عمل عظيم فأضافه وأكرمه وهكذا أصبح من يريد الضيافة يأتي إليه ليشجعه لقد كان ذا عزيمة ويكره أن يثبطها أحد لكنه مات قبل أن يكمل مشروعه ولم يبق غير النفق أتخيل ما الذي كان يمكن أن يصنعه ذلك السيد لو عاصر المعدات الحديثة أي جنة سيكون هذا الشعب لو كان هذا الرجل حيا أو لو أنه ورّث عزيمته تلك لأحفاده الذين يبيعون الشعب حالياً؟! رحم الله المتنبي..
هكذا قلت وأنا أترجل مع صديقي الزبيدي من السيارة متوجهين إلى وادي حاميم أوحميم أحد روافد وادي عدم قال صديقي الزبيدي وهو يشير إلى صخرة : " هذه حصأة (الصّغرة ) أي حصأة العشاق لقد كان من عادات الناس هنا إلى عهد قريب "الصغرة" وهي أشبه بما يسمى الآن حب ما قبل الزواج حيث يقوم الشاب باختيار فتاة معينة يصغر معها أي يبادلها الحب بمعرفة الجميع ويزورها في منزل أهلها يشربان القهوة ويتبادلان الأحاديث حتى يصبحا مستعدان للزواج وحينها يقوم بطلب يدها ويتزوج بها ولا يعتدي شاب او يحاول إقامة علاقة ما حبيبة شاب آخر ما لم يكن قد تخلى حبيبهاعنها وعند هذه الصخرة يلتقي الأحبة تاركين مواشيهم ترعى في هذه المراعي التي كانت أكثر خضرة يستمتعان بوقتهما دون ما يعكر صفوهما , يلطفان حرارة هذا الجو برقيق الغزل ويستعينان على قساوة الحياة بالحب ألسنا الآن نسعى بتحضرنا جاهدين إلى أن تعيش حياة أبائنا البسطاء ثم لا نقدر.
أما هذه فحصأة "بن دحم" وهي عبارة عن صخرة فيها شق يتسع لشخص تروى الأسطورة أن ابنة أحد السلاطين هربت إليها فراراً من أبيها الذي يريد تزويجها بشخص لا تريده فحملت زينتها وجواهرها الثمينة والثياب السلطانية وخبأت ذلك في جوف هذه الصخرة وارتدت ملابس عادية ولجأت إلى أحد مشايخ القبائل هنا لتعمل عنده مقابل حمايتها ورزقها فكان يرسلها مع خادمه المسمى بن دحم لرعي الغنم هنا فكانت تصعد على الصخرة وتترك بن دحم يرعى وحده وحين شكاها إلى سيده أتت في اليوم الثاني ولبست حلتها السلطانية وصعدت على الحصأة (الصخرة) وهي تصرخ
يابن دحم يابن دحم إرعى الغنم لا تحسبني راعية
أني الابنـيّة ســلطان حجـلي يـرج القـافلة

وحين شاهدها ذهل وعاد إلى سيده يجري وهو يقول "زين واسيدي زين" ويعود إلى الصخرة وهو يقول "زين واسيدي زين" فتبعه ابن شيخ القبيلة الشاب وحين رآها عشقها وعشقته وأعطته الكنز وألبسته ثوبا سلطانيا وسيفا محلى ولما عاد إلى والديه برفقة زوجته لم يعرفاه حتى أخبرهم الحكاية."
رغم الفرق الهائل بين مدلول الصخرتين لم تكن المسافة بينهما سوى أمتار قليلة كنا قد تجاوزناهما كثيرا حين فرغ صاحبي من حكايتهما وكان كل ما حولنا قاحل والنسائم التي تلفح وجوهنا كأنما تأتي من فوهة تنور وليس سوى الجبال تحيط بنا وأسرة بدوية أمام الكهف الذي تسكنه والأغنام رابضة تحت الأشجار الشوكية تلتقط ما يتأتى لها من الظل بصعوبة التهام الأوراق الشحيحة بين الأشواك والبدوية تهدهد رضيعها في المهد المعلق بأسفل الشجرة كيف يعيش هذا الرضيع وأنا أحس بالموت ؟؟! نفذ صبري من اتباع صديقي الزبيدي الذي أتى بي من السيارة إلى هنا وأية متعة سأجدها في جهنم ؟ لم يجبني وإنما طلب مني التريث والسير وراءه وفي أسفل الجبل أشار إلى بضع تكلسات تتدلى من الجبل على شكل أثداء وقال لي هذه هي الغبراء قلت دون شك فأنا أراها غبراء بنت أغبر وما أن وصلنا حتى أنستني الدهشة كل ما حولي.
كانت تلك الأثدا تقطر ماءً في حوض مستدير أسفلها ونخلة وشجرة خضراء أخرى بجوارها.. أثداء النار تلك تقطر ماء بارداً شربنا وتوضأنا وأخذنا في الحديث لكنه قاطعني قائلاً ألا تلاحظ أن المياه بدأت تقطر بغزارة عن ذي قبل كنت ألاحظ ذلك ولكنى عجزت عن تقبل الأمر على أنه حقيقة وارجعته إلى إصابتي بضربة شمس شرع صديقي يقول هذه من عجائب الله في الأرض كان هذا الحوض أكبر من هذا والماء أغزر، وكما ترى فإن عمق الحوض لا يزيد عن عشرين سنتيمتراً، ومهما شرب منه الناس والمواشي لا ينضب ومهما تركوه لا يفيض عن الحوض لأنه كلما كثر المتحدثون حولها زادت القطرات غزارة، وكلما قل العدد شح القطر ويبدو انه حين لا يكون هنا أحد لا تسقط قطرة من المياه، وبدأ يقص عليَّ أسطورة ارتبطت بهذه العين السحرية تقول أن أحد شيوخ القبائل كانت له بنت مسترجلة أقسم ألا يزوجها إلا برضاها وأشترط لمن يريد الزواج بها، أن يعجزها في رحلة صيد للوعل، لم يفلح الكثيرون حتى أتى شاب طلب منها أن تخرج معه للصيد دون ماء وكان يقول لها أنه يعرف عين ماء قريبة، وهكذا حتى كادت أن تهلك من العطش، وهو يمنيّها فسلمت له سلاحها ليحمله واستسلمت وفجأة وجد هذا الماء على غير معرفة وبعد أن شربا واستراحا تمكن بحيلة من مضاجعتها، وحين قصت على أبيها القصة بعد عودتها وهي لم تفهم بعد ماذا صنعت مع الشاب أمرها بالزواج، وعندما قالت أنها لم توافق بعد قال قد وافقت وزوجها دون انتظار.
عادة تنظّر للحب قبل الزواج وأسطورة تنظّر لاحترام رأي المرأة فيمن ستقترن به والثانية للعكس والآراء الثلاثة من أكبر الجدل الاجتماعي في مجتمعاتنا مازالت تدر الدخل على عشرات الجمعيات والإتحادات النسائية دون ان تحرز فيها تقدما.
لم أستطع أن أفلت من قيد الدهشة التي تملكتني بسبب هذه العين الغبراء الخضراء التي تحس لا تحس.
صديقي الزبيدي قال معلقا " أعتقد أنها فتاة أسرتها الجن في هذا المكان، فكلما سمعت حديثنا تحتها زاد بكاءها طلباً للنجدة والمساعدة.
ثم أضاف ضاحكاً ونحن نغادر هذه الأعجوبة موجهاً خطابه لي " قل لها لو تعرفين أيتها الحبيسة من أين أتيت إليك لبكيت لفراقي أكثر من بكاءك لحضوري. " قلت لها بل ابكي على هذا الزبيدي الذي ترك شهادته العليا في الإعلام ووظيفته في السلك الديبلوماسي وفتح له فندقا ولوكندة ..قال ضاحكا بل تبكي على الذين مازالوا يعملون في الملحقيات الإعلامية لسفاراتناولم يعملوا مثلي..
كانت هذه الغبراء قد أنستنا في غمرة السرور مرور الوقت الذي تجاوز الثانية والنصف بعد الظهر فأسرعنا متجهين إلى ساه كناقد وصلنا إلى نقطة التقاء وادي عدم بغيل عمر حيث، عبرنا إليه جنانا من النخيل بدأ الموت يدب في أطرافها بسبب الجفاف، هذا غيل عمر با وزير ولأجله سميت ساه بلد المليون نخلة، وهذا مسجده وقبره، الذي أوقف عليه كل هذا النخيل، وها هو مهجور القمامة في داخله بعد أن كان يقام في ساحاته مهرجان سنوي للعطف على الفقراء... باسم محاربة البدعة حورب الخير، ولو كان خيراً لكان في المحافظة على هذا المسجد وإبقاء القبر خلفه وتوعية الناس بما يصح وما لا يصح من على منبره
دفع بي الغيظ والقيظ إلى مياه الغيل الباردة، ولم أتركها إلا وقد شعرت بخدر النشوة يدب في عروقي فعدت مع صاحبي أدراجنا، حيث كان عليَّ أن أصلي في جامع علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر الذي توفي سنة 412هـ. في " بور" 10كم، تقريباً شمال شرق سيئون أقيم هذا المسجد قبل ألف عام وتراكم التراب على جهاته حتى اصبح ينزل المصلى إلى داخله على درج وأغرب ما في بنائه أنه مقطع من داخله إلى جدران تفصل بين صفوف المصلين، في كل جدار فتحة كالباب يُرى منها الصف الأول وهكذا حتى الإمام ولعل بانيه أراد الحرص على تسوية الصفوف أو عدم تخطي الرقاب، وأظن ذلك المسجد هو الشارة التي قصدها محمد عبدالله با مخرمة بقوله:
يا بور يا جنة الدنيا يا مصرنا ذي لها شارة
قال صاحب إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت

وفيها بئر "الأعمش الإغتسال فيها مجرب لحمى الرابع، كنت بخير والحمد لله فلم أجرب صدق تلك الرواية وذهبت مع محمد با جرى إلى ما اسماه قبر " حنظل" و"حنظلة" إنهما نبيان " ذكر وأنثى كانا في حضرموت طول الواحد منهم ستون ذراعاً وإذا قست طول أحدهما من جهة فإنه يختلف عن قياسه من الجهة المقابلة " لم يكن الكلام منطقيا خصوصاً أن حنظلة اسم مذكر وإن كان هناك قبران طول الواحد منهما قريب من عشرة أمتار ظننتهما أولاً أطلال لسور مندثر لكنهما ليسا على امتداد، واحد وهو ما جعلني ألقي افتراض السور، لقد كانت طريقة الدفن في المقبرة تلك فريدة حيث تدفن الأسرة في قبور متجاورة متلاحقة، تظهر وكأنها قبر واحد على شكل " حدوة" أو حرف (C).
لقد ذكر صاحب "إدام القوت في بلدن حضرموت أنه يوجد في بور قبر النبي حنظلة، بن صفوان الذي أرسل إلى أصحاب الرّس، كما ورد في القرآن الكريم، حيث قال عن بور: " وفي غربيه بحضيض الجبل الغربي قبر يقال أنه قبر حنظلة بن صفوان عليه السلام، وقد دللت على كونه بحضرموت بجملة من الأدلة منها أن الله قرن قومه – وهم أصحاب الرس - بعاد وثمود في سياقة واحدة، حيث يقول في آية الفرقان: " وعاداً وثمود وأصحاب الرس.." وقد قال بدلالة الاقتران، جماعة من أهل العلم كالمزني، وابن هريرة من الشافعية وأبي يوسف من الحنفية، وغيرهم " إلى أن يذكر ما ذكره الهمداني في الجزء الأول من الإكليل " وولد الحارث بن قحطان بن هود قيناً - بطناً - يقال لهم الأقيون دخلوا في حمير وهم رهط حنظلة بن صفوان ووجد في قبره لوح مكتوب فيه أنا حنظلة بن صفوان أنا رسول الله بعثني إلى حمير وهمدان والعرب، من أهل اليمن فكذبوني،وقتلوني، فمن يقول بهذا الخبر يرى أنه بعث إلى سبأ بمأرب".
وعموماً فإن علامات الاستفهام على قبور الأنبياء هنا كما يقول الأستاذ علي با رجاء؛ حيث تطرح بعض الآراء أنه قد يكون للتنافس بين القحطانية والعدنانية دور في هذا، غير أن الشك لا يلغي كل هذا الحشد من المعتقدات المتوارثة.
أما أنا فقد كنت أرى في المقبرة العجيبة بجدرانها شيئاً يستحق الاهتمام، والزيارة، وإذا كان هناك شك فيمن تحت التراب فإن التشكيلات الصخرية التي تظهر تماثيل عملاقة مصفوفة على الجبل حقيقة أدهشتني، وزاد من جمالها شمس الغروب، وقد طلت تلك التماثيل بلون الذهب، وأنذرتني بحلول المساء، فعدت إلى سيئون، وأنا أدعو الله ألا يسلط على هذه اللوحة الطبيعية طالباني، يذيقها ما ذاقته تماثيل بوذا المشابهة في أفغانستان.
تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 23-أبريل-2024 الساعة: 05:41 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/14775.htm