المؤتمر نت - الشاعرة - إبتسام المتوكل
عبد العزيز المقالح -
ابتسام المتوكل شاعرة تخترق اللغة
1 –
من يستطيع أن يصف حالة العائد من الحلم أو الذاهب اليه يستطيع أن يصف حالتي مع الكاتبات النسوية القليلة التي بدأت تكويناتها الأولية تخرج الى النور في يمن كان كل شيء فيه – الى ما قبل أربعين عاماً – يؤكد تغييب المرأة ويحض على إقصائها بصفتها مخلوقاً يخجل الرجال من الحديث عنه أو الإشارة الى وجوده وكانت الغالبية منهم ترى أن سجن هذا المخلوق في البيت الى أن يتولى القبر إخفاءه النهائي هو الحل المناسب... لقد تغيرت دنيا اليمن كثيراً – على رغم بقايا ملامح من ظلام الأمس الذي ظل عالقاً – في أذهان بعض من يجترون تقاليد الماضي البغيض. وكانت بداية التغيير مع دخول الفتيات الى المدرسة ومنها الى الجامعة ومنهما الى مكاتب العمل حيث بدأت المرأة تشارك الرجل بناء الوطن من موقف الندية والمساواة... وباعتبارهن شقيقات الرجال؟!
ربما لم يترك خروج المرأة الى الحياة العامة، مُدرِّسة وطبيبة ومديرة أو نائبة وسفيرة ووزيرة من ردود الأفعال ما تركه خروجها كحاملة قلم تكتب القصيدة والقصة والمقالة الاجتماعية والسياسية لما يشكله فعل الكتابة من تطوير في المفاهيم والمواقف، ومن امتلاك طاقة التعبير بعد قرون من أهوال الصمت، ثم لما للكلمة من تأثير وحضور في الحياة الإنسانية ومن تعزيز لأفكار التقدم والحداثة والإبداع. إن وجود المرأة في العمل وخروجها الى ميدان الحياة في مجتمع تقليدي شديد المحافظة يثير الجدل حقاً لكن ليس بالدرجة التي يثيرها إبداع المرأة والبوح بعفوية عن خصوصية ما كان مسكوتاً عنه عبر العصور.
والشاعرة ابتسام المتوكل صوت شعري يماني له حضوره المتميز في الساحة، وقصائدها المكتوبة بنظام التفعيلة أو تلك التي تمثل قصيدة النثر تحمل قدراً هائلاً من الرفض والاحتجاج والسخط العنيف على ما كانت تعانيه المرأة في عصور خلت وعلى ما تبقى في الواقع من آثار الأزمنة الراكدة، إنها تحلم بأن تجعل الشارع ينهض من سباته الأخير ليغني ويرقص مبتهجاً ويشارك في فرح الكائنات الجديدة، صدرت للشاعرة حتى الآن مجموعتان شعريتان هما «شذا الجمر» و «فلأكن صديقة العائلة»:
«في الشارع الذي لا يفضي/ إلا/ الى نفسه/ في برهة/ تقطع فيها/ ما بيني وبينه/ في سقف الشارع/ في سياق اللحظة/ ها أنا/ ألقن خاصرة الرصيف/ فن الشهقة/ وأذر على الغبار/ مذاقاً تلتاع له ذرّاته». («فلأكن صديقة العائلة»: ص 52).
هذان مقطعان من قصيدة «حارة عميقة» من المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة ابتسام تكشف عن الحنين الى اختراق رتابة الواقع والإمساك بزمام المغامرة التي تشكل نقطة أولى في العبور نحو الزمن الجديد. وفي قصيدة قصيرة من المجموعة ذاتها، بعنوان «تلقين» تكشف الشاعرة أبعاد الخوف الغائر في أعماقنا من الآخر بما في ذلك الذي قد يكون الأقرب الى مشاعرنا:
«لا أجرؤ على التفكير/ بصوت عالٍ/ أدرك – تماماً -/ في الأمر معصيتان:/ أنتَ/ و/ صوتي». («فلأكن صديقة العائلة»: ص 70).
ما من شك في أن الشاعرة تقوم بمغامرة لكنها مغامرة محسوبة. وما كنت أحسبها وهي تتلمس طريقها الطويل تفعل أكثر من ذلك. ويكفي أنها نجحت في تجاوز الخوف من الكتابة، والكتابة الأجد على وجه الخصوص. إن قصيدة كاشفة ومكثفة كهذه القصيدة تؤكد أن الشاعرة تدرك حدود المحاذير وأبعاد الخطوط الحمر.

- 2 –
كلما ابتعد اليمن الجديد عن أزمنته الراكدة الهامدة تحركت في قلبه الأشواق الى التخلص تدريجاً من آثار خيباته وانكساراته، والأهم في أمره أنه – الآن – يستطيع أن يقول بوضوح تام أن نون النسوة قد حققت وجودها الإبداعي المتميز من خلال نخبة من الرائدات في مجال الكتابة الأدبية، ويستطيع كذلك أن يشير بأصابعه العشر الى ابتسام المتوكل هذه الشاعرة الموهوبة التي صارت تعرف جيداً معنى الشعر ومعنى تراسل الحواس وكيف تتعامل مع ذاتها المبدعة بوعي شعري صاف يقدم نماذج متعددة البناء، شديدة التوهج والخصوصية، لا تذكِّرنا بأحد ممن قرأنا لهم، كما يتجلى ذلك في تعاملها الشعري الواعي والجميل مع المكان اليمني في بعده الزماني والجمالي والوجداني الخالص:
«حضرموت تئن/ عروقي تحن/ والذين مضوا/ في ظنون/ تليق بوحشيتهم./ شرقوا/ غربوا/ شردوا/ كل ما في قوافلهم/ من عصافيرها/ وأراقوك/ يا بُنّها/ في غيوم تجاهر بالانتماء/ الى ضدها/ وترتب أوجاعها/ في مدى يتقد». (من مجموعة شعرية جديدة معدة للطبع).
أرأيتم كيف يتداخل نسيج اللغة هنا في هذا المقطع البالغ العذوبة والرهافة والذي يذكرنا ترابطه الأليف بترابط مماثل للمنازل في حضرموت. ذلك الجزء الغالي والحبيب من أرض المغامرات القاسية. وليس حديث الشاعرة عن حضرموت محض خيال ولا هو محض وصف خارجي وإنما هو حال من الاستبطان والافتتان. ويلاحظ أنه حتى الإيقاع الهادئ يأخذ في هذه القصيدة قيمة عالية وتتجاوز الدور العروضي الى الإيحاء بموسيقى الأرض والتراب ونداءات «الدان» وربما تجسد هذا الأمر أكثر فأكثر في قصيدتها عن مدينة «سيئون» ذات الطابع المعماري الفريد:
«»سيئون» عاشقة تجترح الغيوم هطولها/ فيكون حبٌ/ ويكون خصبٌ/ ويهل ميقات النساء/ (سيئون) يقترح الغواية/ عطرها/ فيصير/ حزن الله/ أشداءٌ/ و/ماء». (من مجموعة شعرية تحت الطبع)
إن القدرة الفذة للشاعرة في اختراق اللغة وإزاحتها عن معناها الأصلي وترك الحرية للصورة الشعرية لكي تقوم بدورها في بناء القصيدة مع الإيجاز في ترتيب الجملة المتسائلة يعطي لهذا الشعر خصوصيته وعمق التاريخ. وأعترف بأنني كلما قرأت قصيدة جديدة لهذه الشاعرة المبدعة تساءلت في سري هل كان على هذا الوطن السعيد ان ينتظر كل هذه القرون قبل أن تضيء افقه أطياف شعر المرأة من جديد فترصعه أصوات مثيرة مثل الشاعرة ابتسام المتوكل التي اختارها الشعر الحقيقي كما اختارته ليكونا رفيقين في مرحلة حداثية ممتعة: «لا أعيد/ جناح الغموض الى عشهِ/ لا أرد/ الغوايةَ عن غيها/ لا أشد/ تلابيب قلبي/ ولا أستعين بغير جنوني المضيء/ الى آخر الماء». (من مجموعة شعرية تحت الطبع)
المصدر (صحيفة الحياة )
تمت طباعة الخبر في: السبت, 27-أبريل-2024 الساعة: 02:15 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/32995.htm