في أجرأ تحريف درامي

المؤتمر نت- نزار خضير العبادي -
الملك( أوديـب) يدخل اليمن بجـواز( سيف بن ذي يزن)

في أول إنتاج فني مشترك بين التلفزيون اليمني وشركة( لين) السورية التلفزيونية يجري حاليا بث المسلسل التاريخي ( سيف بن ذي يزن) الذي يروي قصة أحد ملوك اليمن العظماء في الفترة ( 525-600) ميلادية، وينسب إليه تحرير اليمن من الاحتلال الحبشي ومن ثم توحيدها بالكامل تحت سلطانه.
وبقدر ما ظن التلفزيون اليمني أنه يطلق أبوابه للإنتاج المشترك الذي سيبعث أمجاد اليمن التاريخية ورجالها الخالدين، جاءت ردود الفعل بالكثير من الخيبة والإحباط، وساد الوسط الثقافي اليمني لغط كثير بشأن هذا المسلسل.. ففي الفترة السابقة لعرضه ترددت أنباء انه هناك دعماً يمنياً لانجاز المسلسل بلغ المليون دولار ، أو ما يزيد .. كما وأثير أن الأستاذ مطهر الإرياني- أحد كبار الأدباء والمؤرخين اليمنيين- كان مكلفا بالتعاون مع الجانب السوري في كتابة قصة المسلسل لكنه أنسحب من العمل بعد تأكده من رغبه المخرج ( مأمون البني) في الإفاضة من ( ألا كشن) وعناصر التشويق التي تخرج السيرة التاريخية للملك ( سيف بن ذي يزن) عن ساحة الواقعية ، في حين رفضت الممثلة اليمنية الشهيرة فتحية إبراهيم الاشتراك في هذا العمل الفني بسبب الدور الثانوي الذي أوكل إليها، وأبدت امتعاضها من احتكار الطرف السوري للبطولة والأدوار الرئيسية.
وبعد عرض المسلسل على شاشة الفضائية اليمنية ابتداء بأول أيام شهر رمضان المبارك فوجئنا بمتابعة واحدة من كبريات مهازل العصر الفنية، إذ امتدت مخالب الإنتاج التلفزيوني لواحدة من أنصع صفحات التاريخ الحضاري اليمني، لتعبث بأبجدياتها الواقعية، وتحيلها محض أسطورة من بنيات خيال" الجدة" العزيزة التي طالما كانت تستجدي ودَّنا وسكوننا بحكايا " صَياد" أو كما يسميها البعض" أم الصبيان" وعجائب الجن والعفاريت.. وغيرها مما تستهويه مخيلات أحفادها الصغار. وبدا واضحاً أن الأخوة في التلفزيون اليمني لم يؤمنوا بعد بأن ( سيف بن ذي يزن) كان ملكاً حقيقياً عظيماً، وليس وهماً أسطورياً, أو خرافة من عالم الجن.
 سيف أم أوديب؟
إذا كان اليمنيون قد حلموا بعودة (سيف بن ذي يزن) من الشام بموكبه التاريخي المهيب، فأنني ما أظنُّ الذي عاد إليهم سوى الملك الإغريقي( أوديب) ولكن على نفقة اليمن وبجواز سفر يمني، خطته أنامل مؤلف قصة المسلسل ( عبدالرحمن بكر) وختمه المخرج ( مأمون البني) بلمساته الفنية "الرائعة".
ويبدو لي أن المثقفين العارفين بقصة الملك ( أوديب) لا يروقهم متابعة مسلسل ( سيف بن ذي يزن) خاصة وانه أقرب إلى الأسطورة من الواقع، وإلا لاكتشفوا أن من يرونه على الشاشات الصغيرة هو (أوديب) المتنكر بلباس مليكهم العظيم ليقتص من كبريائهم في زمن عاد به الكثيرون يصفّون حساباتهم القديمة مع أمة العرب.
ولأنَّ الكثيرين ممن يتابعون المسلسل لا يعلمون شيئا عن الملك الإغريقي ( أوديب) ولن يكون بمقدورهم المقارنة بين الشخصيتين، لذا سأقص فيما يلي- وبإيجاز شديد- قصة الملك ( أوديب) تاركا للقارئ الكريم المقارنة والحكم فيما يشاهده وما يقرأه:
 ملخص قصة أوديب
(( يُروى أن ملكاً رزقه الله بمولود ذكر أسماه" أوديب" ولأن بمولده هاجت السماء وأبرقت و أرعدت بقوة، أستدعى الملك عرّافاً ممن يقرءون الطالع لينبأه بالخطب الذي يحمله وليده، فأنبأه العَرّاف بأن هذا الطفل عندما يكبر يقتل أباه ويتزوج أمه.. فتوجس الملك خيفة من سوء طالع الطفل. فأمر أحد رعاته بأن يصطحب الطفل معه صباحا ويرمي به في الفلاء لتأكله الوحوش. لكن الراعي عندما وصل المكان أشفق لحال الطفل، فأبى قلبه أن يرميه للوحوش، فقام وعلق الطفل من ثيابه على غصن شجرة كبيرة على قارعة طريق تمر منها بعض مواكب المسافرين، ثم عاد للملك وأخبره أنه نفذ ما أمره به.
وبعد ساعات مر موكب ملك إحدى الممالك المجاورة، ورغب بالاستراحة تحت فيء تلك الشجرة، وما أن بلغها حتى سمع صراخ الطفل الصغير- أوديب- فاقترحت عليه الملكة أن يتبناه إبناً كونهما بلا ذرية، ففعل . وهكذا عاش أوديب في القصر الملكي وربا على النبل والفروسية والشجاعة حتى أصبح شاباً بالغاً.. وفي أحد الأيام مرَّ به عرّاف ممن يقرءون الطالع أو النجم، فسأله أن يقرأ له نجمه.. وبعد تردد من البوح بالحقيقة أخبر " أوديب" بأن فأله سيء وانه سيقتل أباه ويتزوج أمه.
أشفق" أوديب" على من تربى على فضلهما من المصير البشع الذي ينتظرهما على يديه من غير أن يدري أنهما ليسا أبوية الحقيقيين. فآثر الرحيل بعيدا عنهما، وهام على وجهه بين البراري يخوض المغامرة البطولية تلو الأخرى, إلى أن شاءت الأقدار أن تضعه مع أبية الحقيقي" الملك" على طريق واحدة ، وطلب منه الجند التنحّي عن طريق الملك فأبى، ومنها دارت معركة بينه وبين الملك وجنده انتصر فيها أوديب بعد أن قتل الجميع إلا واحدا فرَّ من المعركة.. وهكذا قتل أباه من غير علم.
وكان على طرف من مملكة أبويه الحقيقيين يقف وحش عظيم لا يسمح لأحدٍ بدخول المملكة إلا إذا أجابه عن كل الأسئلة التي يُلقيها عليه، فأصدرت الملكة قرارا يقضي بأن الذي سيخلص المملكة من ويلات الوحش ستتزوجه وتنصبه ملكا ولما مرَّ " أوديب" بتلك الجهة أوقفه الوحش وسأله : ما الذي يصبح ماشيا على أربع وعند الظهيرة على أثنين ومساءً على ثلاث؟ فأجابه" أوديب" : أنه الإنسان. فرمى الوحش بنفسه إلى هاوية ودخل" أوديب" المملكة وتزوج من الملكة وانجب منها بنتين دون أن يعلم أنها أمه الحقيقة.
وبعد سنوات طوال ضرب البلاد وباء وتساقطت بسببه الآلاف حتى كاد يقضي على الجميع ، ولما عجز الحكماء عن معرفة أسرار علاجه لجأ الملك "أوديب" للعرافين فأخبره أحدهم – وكان ضريراً – أن في البلاد مفسداً ، ولن ينتهي منها الوباء إلاّ بخروج المفسد.. فسأله عمَّن يكون المفسد ، فأخبره بأنه هو المفسد لانه قتل أباه وتزوج أمه وانجب منها.. فكان الأمر فاجعة تم التأكد من صحتها لاحقاً, فألقت الملكة بنفسها من أعلى القصر لتموت. أمّا" أوديب" فقد أخذ السيف وفقأ عينية ، عملا بحكمة العراف الضرير الذي يقول: أن القلوب هي التي تبصر وليس العيون.. وهكذا ساح" أوديب" في الأرض تقوده أبنتاه، وتنبأ العرافون بأن البلاد التي سيموت فيها ستكون مباركة.. فمات في أثينا)).
 تعليـــق
الملك سيف بن ذي يزن في المسلسل يمرُّ بنفس المراحل، ويصاحب ولادته برق ورعد، ويتنبأ الكُهّان بسوء طالعه، ويتخلص منه والداه بنفس الطريقة، ويؤول مصيره إلى نفس الشجرة ، ثم نفس الأسرة الملكية ..ومثلما واجه( أوديب) أسئلة الوحش ، واجه "سيف" أسئلة الجن ثم تزوج من زوجة أبية ( وأن لم تكن هنا أمه الحقيقية).. ومثلما عاقبت الأم وأوديب نفسيهما، فإن زوجة الأب في حالة "سيف" هي من أمسك بالخنجر وطعنت الملك "سيف".. وهناك الكثير جداً من التفاصيل المتماثلة التي لا يمكن لمقال صغير استيعابها، لكنها جميعا تؤكد أن السوريين لم يحتكروا البطولة والأدوار الرئيسية وحسب، بل أنهم استبدلوا البطل نفسه.
وبكل أسف، لم يكن مسلسل( سيف بن ذي يزن) يحمل أي صبغة تراثية يمنية، وقد أخفق المخرج( مأمون البني) في رسم معالم واضحة ومفهومة للحياة اليمنية الحقيقية . فالبيئة كانت مختلفة، وما نعرفه عن حياة الحميريين لم نجده، فهم الشعب الذي سكن أعالي الجبال، ونحت سفحها بيوتا، وخزانات مياه، ومدافن حبوب وغيرها.. وهذه أمور لها أولوياتها في أي عمل تاريخي هادف.
أما الملابس فكانت غريبة، وتعكس الذوق الروماني ، وبعضها الفارسي أيضا. وكم كان يبدو مضحكا أن نرى النساء اليمنيات وهن يلبسن الثياب الضيقة ذات الأكمام النصفية، مع أن المعروف في شتى بقاع الأرض أن الملابس الجبلية فضفاضة تتيح حرية الحركة فوق الصخور، كما أن نساء المجتمعات القروية الزراعية - كما هو شأن الحميريين - يعتبرون غطاء الرأس جزءً أساسياً من لباسهم يمنع عنهم حرارة الشمس والرياح والأتربة ، والنساء أكثر اهتماما به لأنه يحمي نضارة البشرة ، حتى أنهن مازلن يستعملن "الهرد" لحماية الوجه من أثر الشمس.
ومن جهة أخرى فإن المجتمع اليمني المشهور بفنون الشعر والفصاحة، وحكمة الأدب الرفيع ، بدا مجردا من أي لغة شعرية، أو حكمة بلاغية.. وحتى فنون التراث الشعبي اليمني كانت غائبة تماما، ولولا ترديد الممثلين لكلمة ( اليمن) و( اليماني) لما علم أحد بأن أحداث المسلسل تدور على أرض الجنيتين.
وإذا ما تجاوزنا كل تلك الإشكاليات لاعترضت رأينا مئات الاختراقات والمخالفات للحقائق التاريخية بدءً من إرجاء نسب ( سيف بن ذي يزن) إلى أم ( أكسومية) من الجواري - في حين أنها في مقدمة ( أبن خلدون) كانت يمنية حرّة.
ربما كان على اليمن أن تصبر قليلا على توثيق تراثها الحضاري.. وتفكر ملياً قبل الأذن لـ (سيف بن ذي يزن) بشد الرحال إلى الشام.. فاليمنيون هُم من علّموا البشرية أن ( عِزُّ القَبيلي بِلادَه ، ولَوْ تَجَرَّعْ وَباها) ، وهُم من دأبوا على نُصح أبنائهم بالقول: ( يابـاني في غَيْر بَلَدَك لا لَكْ وَلا لِوَلَدَكْ) .. وهُم مَن حملوا الحكمة للعالم.. فماذا دَهانا لنُسافر بملكٍ وُحدَوي عظيم، ونعود بملك ( مُوَلَّد حبشي ) يمتهنُ السّحر ويُصاحب الجّـان..!؟
تمت طباعة الخبر في: السبت, 20-أبريل-2024 الساعة: 03:31 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/4303.htm