المؤتمر نت -
هشام سعيد شمسان -
النقد الأدبي وتشكيل فضاء النص
أضحى مصطلح "النقد" لدى الكثير من أدبائنا يضيق في معناه، وينحسر في وظائفه المتوخاة، فأصبح الكثير منَّا ، وعلى مستوى الوطن العربي – يمارس أحد نقدين:
أولاهما : نقد الانطباع التأثري ، ذلك الذي لا يخضع في جلّه إلى التذوق السَّليم ، وإنما يركن إلى نوع من التأثير الوقتي الذي يلم بالمرء ساعة قراءته لعمل ما. ويدخل تحت هذا النوع –غالباً- النقد المتأثر بالصداقة ، أو مَتّ القرابة للمنقود ، ولا أدل على ذلك ما نقرؤه اليوم من تنصيص للمقدمات التي تصاحب طبع المجاميع الشعريَّة ، أو القصصيَّة ، أو تلك المقالات التهليليَّة التبشيرية؛ التي ترافق مواعيد نزول هذه المجاميع إلى الأسواق. ونحو هذا النقد –التأثيري ، أو المتأثِّر –بكسر الثاء- له خطورته التي قد تحوّل النقد إلى خواطر نفسيّة. وعلى جانب آخر يتحوّل النقد إلى إعلان دعائي ، به يتحول الناقد –غالباً- إلى مهرّج يلعبُ لعبة واحدة ، أو راقص لا يعرف سوى إيقاع واحد ، يرقص عليه في مختلف الظروف. وما أشدها جنايةً في حق الإبداع ، حين نجد النقد وقد وصل إلى هذا المنحدر المخزي. وإذا كان النقد الانطباعي –كمنهج- عُرِف حديثاً مع الفن التشكيلي ، إلا أن استخدامه في الأدب العربي على وجه خاص ، خاضع أو داخل في المنهج "الفني"؛ وهو ما يفسّر ضرورة وجود الملكة –بفتح الكاف- والحدس الفني القائم على أصالة التذوق ، وحساسية التلقي.

وفي العصر الحديث كان الناقد المصري "محمد مندور" (1907-1965) أكثر من عرف بهذا النوع من النقد ، والقائم على المنهج الفني اللغوي ، رافضاً بذلك جميع المناهج الأخرى؛ لا سيَّما المنهج النفسي القائم على "تطبيق علم النفس على الأدب" جاعلاً من التذوق الصحيح أساساً لما يكتبه ؛ إذ أن الذوق لديه "ليس معناه ذلك الشيء العام المبهم التحكمي ، بل هو ملكة ، إن يكن مردها ككل شيء في نفوسنا إلى أصالة الطبع ، إلا أنَّها تنمو ، وتصقل بالمران"( ) .. لكنَّ مجرّد التسمية قد أتاحت للكثير من الحداثيين الآن الدخول إليه ، فصار كل من "الهاوي ، والغاوي" يتساقط على النقد تحت مفهوم الانطباعيَّة ، حتى تحوّلت تلك الكتابات في جانب منها إلى معميّات تحتاج إلى تفسيرٍ ، بسبب مجانبتها للحقائق الشعوريَّة، والجماليَّة في العمل الأدبي المنقود.. وعلى الجانب الآخر منها أحكاماً عامّة اعتباطيَّة ، لا برهان عليها أو دليل نقدي متوخّى..

وثانيهما: ذلك النقد الذي يجترّ النظريات النقديَّة الغربيَّة ، محاولاً بهذا الاجترار أن يخلق نقداً عربياً من آخر فرنسي –مثلاً- مطبقاً التجارب الأوربيَّة على الأدب العربي ، دون إخضاع أمثال هذه النظريات ، أو المناهج إلى مستويات من الوعي ، والتكيّف ، والمواءمة؛ بأخذ المناسب منها ، ومزجه بالخبرة الذاتيَّة ، أو الجماعيَّة ؛ للخروج بمفاهيم نقديَّة تنضاف إلى العقل العربي دون الوقوع في شرك النقل ، والتقليد والتبعيَّة الفاضحة. وثمّة من العرب ممّن وقع في هذا الشرك نحو د/ كمال أبو ديب " على سبيل المثال.. حيث أضحى نقد أمثال هؤلاء مغيباً عن وظائفه المرتجاة وصار "بسبب من المدرسة البنيويَّة ، أو الهيكليَّة نوعاً من التحليلات الهندسيَّة ، والرياضيَّة"( ) وأصبح "هناك نقاد يكتبون كلاماً فرنسياً باللغة العربيَّة ويحاولون تطبيق قوانين لا يمكن أن تطبق على تجربتنا العربيَّة"( ).. فإذا كانت النظريات النقديَّة الحديثة نظير البنيويَّة ، والأسلوبيَّة اللسانية ،والتفكيكيَّة..الخ لا يصلح أن تطبق على تجاربنا العربيَّة ، إلاّ أن عدم هذه الصلاحيًّة ليست مطلقة ، فثمّة أفكار ، ومفاهيم هامَّة يمكن الأخذ بها ، وإضافتها إلى التجربة العربيَّة ولا يجب أن نغفل عنها لما لها من تدعيم للمسار النقدي الحديث نحو مفاهيم: الدوال المعجميَّة ، والتعالق النصيّ ، والخصائص السيمائيّة ، وسمات الأدب المورفولوجيَّة ، والظواهر النحويَّة ،والتصويريَّة، ومفهوم الوظيفة الشعريَّة والتعبيريَّة ، والإرجاعيّة ،والثنائيات…الخ ؛ ذلك أن نحو هذه المفهومات ليست في كثير منها ببعيدة عن التجارب العربيَّة: قديمها ، أو حديثها ؛ لذلك صحَّ ألا نغفل عنها عند تشريح النصوص ، لكن إضاءتها وتفسيرها وفق راهننا الإبداعي هو ما يجعلنا أمام تحدٍّ كبير يكمن في كيفيَّة هذه الاستفادة ، ومداها ، وما يمكن تحويره بما يتفق مع التجارب ، والخبرة الذاتيَّة ، والقرائيّة ، والمدى الثقافيّ للمجتمع ؛ لنستطيع بذلك أن نكوّن هويتنا النقديَّة ، والمعرفيَّة دون الوقوع المحض في شرك الأقوى حضارةً ، وحداثة.. فإذا ما علمنا بأن النقد في تعريفه هو: بيان الفاسد من الصحيح ، والجميل من القبيح ، توصلنا إلى حقيقة مفادها أن عملية النقد قد تبدو هينًّةً ، لتمثلها في أبسط الأشياء ظهوراً أمام القارئ من نحو اكتشافنا لخطأ إملائي ، أو نحوي وظيفي في عبارة ما ، والتنبيه إليه ، أو اكتشافنا لسياق جمالي ما، أو نظام بلاغي غير مألوف ، أو لعلاقة منطقيَّة ، أو غير منطقيَّة في نظام لغوي ما ، أو التنبه لصدق التجربة من عدمها، بما يحدثه العمل من تأثير في الوجدان ، والشعور…الخ. وكل ذلك يدخل ضمن الإطار النقدي أو الميزان النقدي للأدب ، إلاّ أن نحو هذه المشاهدات النقديَّة ، إذا ما بدت في ظاهرها يسيرة المأتى ، فإنها من جانب آخر تبدو عسيرة الكشف ؛ لأن استشفاف سياق جمالي ما –على سبيل المثال- يلزمه قارئ متعمق في الدراسات الأدبيَّة ،والبلاغيّة . ونحو مشاهدة نظام لغوي غير صائب –مثلاً- يلزمه دراسة لوظائف النحو ، والبلاغة ، والتمكن من ذلك. والتنبه لصدق التجربة ، أو كسلها بحاجة إلى ملكة تذوقيَّة صحيحة ، مما يضع الناقد أمام مسئوليَّة عظيمة تنأى به عن المجازفة في الأحكام ، وتقرير النتائج ، ومما سبق يترامى إلينا سؤال ملح هو : هل نحتاج إلى المنهج النقدي ؛ كيما نستطيع أن نقرّر طرق الدراسة ، والبحث النقدي في الأدب؟ أقول: نعم.. نحتاج إلى المنهج ؛ لنتجاوز به الكثير من عثراتنا ، وإحالاتنا الذاتيَّة الخاطئة ، وإسقاطاتنا الذهنية والنفسيَّة اللامعللة ، والتي تسقطنا –غالباً- في معتقل المزاجيَّة، والتخبط ؛ بالانتقال بالمنهج إلى رؤى تتحدّد وفق استنباطات مقبولة في الواقع الأدبي ، والنقدي خصوصاً . وثمّة مناهج نقديَّة كثيرة يمكن الأخذ بها للوصول إلى الغاية : كالمنهج الفنِّي ، أو النفسي ، أو التاريخي ، أو الاجتماعي ، أو أحد المناهج النقدية الحديثة ، كالبنويَّة اللسانية ، والأسلوبيَّة…الخ ولكن يجدر بنا أن نشير إلى أنَّ الأخذ بالمنهج لا يعني التطبيق الحرفي لتعليمات هذا المنهج أو ذاك ، إذْ لا بد من مراعاة أشياء عدَّة عند الأخذ بالمنهج ، ومنها: تطويعه إلى الثقافة السائدة ، والمجتمع القارئ ، مع إمكانية الأخذ بأكثر من منهج في وقت واحد ، والمزج بينها ، ويرى "سيد قطب" –مثلاً- بأن "أفضل منهج هو الجمع بين النفسي ، والتاريخي والفنيِّ" ( ) فأما المنهج النفسي فأنه يشترط في حكم الناقد أن يكون مبنياً على دراسة النص وفق منظور يُبين مدى تأثر هذا العمل بالحالة النفسيَّة للكاتب ومدى ترابطه مع هذه النفسيَّة للشاعر ، أو الكاتب ، ثم مدى استجابة العمل المنقود للتأثيرات الشعوريَّة وقد كان "عبد القاهر الجرجاني" (471هـ) ، أول من حاول التوسع في هذا المنهج ، وإبرازه كمنهج نقدي أفاد منه النقاد في العصر الحديث ، "ومع تأسيس علم النفس التحليلي على يد "فرويد" وصدور دراساته التي في مقدمتها تفسير الأحلام"( ) انتقل هذا العلم إلى الميدان الأدبي ، "وأعد "سانت بيف" من الممهدين لتطور هذا المنهج –حديثاً- حيث راح يربط بين حياة الأديب ، وشخصيته ، ونتاجه"( ) وممن عرفوا باستخدام هذا المنهج –في العصر الحديث- في بعض نقوداتهم: "عباس محمود العقاد (1889-1964) ..أما المنهج "الفني" فعلى ضوئه يكون الناقد باحثاً في القيم الشعوريَّة ، والفكريَّة والجماليّة ، ومحدداً للصور الجزئية ، أو الكلية ، ناهيك عن دراسة البناء الداخلي ، والخارجي للعمل المنقود ، والنظر في الجمل: تراكيبها، تنوعاتها، تنقلاتها ، ضروبها الفنيَّة ، مع الكشف عن الوحدة العضويَّة فيه، ومدى توافق كل ذلك ، وترابطه. لقد عرف هذا المنهج –في مبدئه المبَّسط- على يد بعض رجال البلاغة ، والنقد في العصر العباسي نحو: الجرجاني: عبد القاهر ، والجرجاني: أبو الحسن ، والآمدى: ابن بشر ، وأبي هلال العسكري، وتطوّر إلى ما نعرفه اليوم عن هذا المنهج في العصر الحديث. وقد كان النقد –في معظمه- يدور في هذا المنحى قبل سيطرة المناهج الحديثة ، التي تميل إلى الدراسات اللغويَّة ،واستخدام العلوم النفسيَّة ، والطبيعيَّة في النقد. ولعلَّ "زكي نجيب محمود" في الوطن العربي يعد أبرز ممن استفاد من نظريَّة "النظم" الجرجانيَّة ، ومزجها بفلسفته الوضعيَّة في النقد التي تميل إلى إدخال علم النفس ، والعلوم الطبيعيَّة ، والأنثربولوجيا ، ونظريات أخرى كالنسبيَّة -مثلاً- لكن أصدق مثال على استخدام المنهج "الفنِّي" بمفهومه الحديث هو "سيّد قطب" الذي كان يركز على هذا المنحى في دراساته الأدبيَّة ، والقرآنيَّة خصوصاً ، مع الإفادة من المنهج النفسي إلى حدٍ ما( ).

…أما المنهج التاريخي ، ولكي يصدر الناقد حكماً فلا بد له من دراسة شخصيَّة الكاتب ، وبيئته: الدينيّة ، والاجتماعيَّة ، والسياسية ، والاقتصاديَّة ، والزمان ، والمكان .. ثم يربط ما بين كل ذلك ، والعمل الأدبي المنقود ، ويعتمد هذا المنهج في بعض جوانبه على المنهج الفنِّي.. وفي العصر الحديث يعد "طه حسين" "أحد من برز من خلاله؛ بدراسة بعض جوانب الأدب العربي القديم نحو: تجديد ذكرى أبي العلاء ، وغيرها من الدراسات"( ) وقمين بنا أن ننبّه –هنا- على وجوب استفادة الناقد من المدارس الأدبيَّة ، كيما يستطيع أن يصدر حكمه الصَّـادق ، بعيداً عن حدس الاستظهار الاستعراضي الواهم.. وبهذه الدعوة إلى الأخذ بالمنهج ، فإنني –بالمقابل- لا أدعو إلى صرامته الجامدة ، وذلك إذا أخذنا بمبدأ عدم التسليم النهائي بالأحكام النقديَّة ، فالناقد قد يستغني –بعض الأحايين- عن المنهجيَّة بصرامتها ، أو كليتها ، ويكتفي بأخذ رؤية عامَّة يعمِّمها على رؤيته الخاصَّة ؛ ذلك أن الناقد قد تعنّ له تجليات يرى ضرورة ألاّ تخضع إلى المنهج بصرامته ، وخطواته ، وإنما قد تخضع لمدى الخبرة ، والمكوِّن الثقافي ، والمعرفي المكتسب من قبل الناقد ، لكن تظل الحاجة قائمة إلى وضع منهجيَّة –لا منهج- محدَّدة ، وإن كانت خاصَّة ، حتى تظل ثمَّة موضوعية، أو معياريَّة لازمة ؛ لينفلت بها خارج مسار التوهم ، والبهرجة ، والعشواء.

ويظل –في النهاية- العامل المعرفي ، والثقافي ، إلى جانب الخبرة ، والمهارة ، والمدى الاستفادي من النظريات النقديَّة: قديمها ، وحديثها ، والمدارس الأدبيَّة بأنواعها من عوامل نجاة الناقد من الادعائيّة النقديَّة التي قد يوسم بها من قبل الآخرين..


* الهوامش

(1)- محمد مندور: "في الميزان الجديد" ، وانظر مجلّة الفصول ، عدد (9) 1991م.
(2)- مجلّة الحوادث ع (2190) حوار مع محمود أمين العالم
(3)- من أقوال خلدون الشمعة : كتاب أسئلة النقد : جهاد فاضل
(4)- النقد الأدبي: أصوله ومناهجه: سيد قطب ، ط : 1980م
(5)- النقد الأدبي الحديث: عبد الرضى علي ، وفائق مصطفى
(6) المصدر السابق
7)- انظر مثلاً : التصوير الفني في القرآن ، و"تحت ظلال القرآن" والنقد الأدبي: أصوله ومناهجه . سيد قطب..
(8)- في النقد الأدبي الحديث: م . س

*عن صحيفة الثورة
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 26-أبريل-2024 الساعة: 06:08 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/48608.htm