المؤتمر نت -  صورة رمزية لفتاة خائفة
سعاد عبدالله الحليمي -
الثوب الأخيــر ..قصة قصيرة لـ(سعادالحليمي)
عندما يُـــروض الإنسان على ( نعم وحاضر ) يصبح لسانه مع مضي الوقت لا يقدر حتى على نطق كلمة ( لكن ) ..

هكذا عاشت وهكذا تربت على يد والديها .. وهكذا سلكت نفس المنهج مع زوجها الكهل العجوز بعد ذلك ..

بيت الطين كان منزلها الجديد ، حيث لا شيء هناك إلا غرفة واحدة وعلى بعد بضعة أمتار المطبخ الصغير و بين هذه وذاك مساحة شاسعة من الرمال إلى نهاية باب المنزل ونصيبها من الكهل ليلة واحدة ، ورغيف خبز ... وأيام من الجفاء والإهمال تصل إلى أربعة أيام أو الأسبوع أحيانا كثيرة ...... .
ومجموعة أوامر ونواهي :ــــ

لا تذهبي إلى بيت والدك في غيابي ... أو أحد الجارات ... لا تفتحي الباب لأحد .. لا .. لا .. لا .

ــــ حاضر ... أمرك .. كما تريد .

وعندما همّ بإغلاق الباب نظر إليها بإزدراء :

ــــ إن ثوبك نتن للغاية ألا تملكين غيره .. ؟

وقبل أن تجيبه بالنفي كان يوصد باب السجن في وجهها
وكثيراً ما حدثت نفسها وهي أمام المرآة :

ــــ ماذا ينقصني ؟ إنني بالتأكيد أصغر سناً من زوجته الأولى ، ترى أبسبب ثوبي البالي لا يطيق المكوث معي ويذهب مسرعاً إليها ؟
ألهذا السبب حرمني طفلاً يملأ علي أيام عزوفه عن البيت ؟

ولكن ماذا أفعل ... فهذا ما لدي ، ولا أملك ثوباً غيره

. وهكذا بدأت تمر أيامها وشهورها كئيبة ... ثقيلة ، لا يحرك سكون قلبها إلا صوت بائع الملابس ، ففي كل يوم خميس ، وما إن تحين الساعة الحادية عشر ظهراً حتى تسمع صوته يصيح في الشوارع والحارات معلناً عن قدومه ، وما إن يقترب من منزلها حتى يبدأ قلبها يدق طبولاً ونواقيس ، واللحظة التي يضع فيها يده على باب المنزل قائلاً :ـ

ـــ ملابس .. أقمشة .. كل ما تريدون .. ملابس .. أقمشة .. .

حينها يكون دمها قد وصل درجة الغليان صاعداً إلى أعلى قمة رأسها ، يرافقه الحلم الجميل بالأطفال الذين سيملئون المنزل الكئيب بالصراخ ... أمي ... أمي ، وعندها لا تستطيع إلا أن تضع يديها على أذنيها محاولة تجاهل صوت الفطرة ، وتغمض عينيها بشدة حتى لا ترى الصبية يلعبون في رمال البيت ... هكذا حتى يختفي صوت البائع بين الشوارع والأزقة .

ــــ لماذا تزوجني ما دام يخاف من زوجته لهذا الحد ؟ ولماذا أدفع الثمن وأعيش بلا أطفال طوال حياتي ؟سؤال لطالما عجزت عن الإجابة عليه .

وفي إحدى المرات , وفي يوم خميس مشؤوم ، وبينما الدم لا يزال يغلي في عروقها الناضبة ، وقف البائع على الباب ليضرب على بابها مرتين ... !! بل وثلاث مرات .. !! على غير عادته ، لم تستطع أن تتحمل صوت أطفالها يستغيثونها للخروج إلى عالم الحقيقة فقد سئموا العيش في خيالها

فما كان منها إلا أن غطت وجهها وركضت حتى تعثرت رجلها ، فوقعت على وجهها الذي لامس الرمال الملتهبة بحرارة الشمس ، ولكنها واصلت السير ... حتى وصلت إلى الباب وفتحته لتقول بصوت يرتجف :

ــــ توقف ... أرجوك توقف .

ــــ ماذا تريدين يا سيدتي ؟

ــــ أرني ما لديك .
ــــ لم يبقى سوى هذا ....... وناولها ثوب كان منزوياً في ركن عربته الخشبية المتهالكة التي يجرها طوال النهار

.وعندما همت بسؤاله عن الثمن تذكرت أنها لا تمتلك شيئاً ، فما كان منها إلا أن خلعت الخاتم الوحيد الذي تملكه ، وأعطته للبائع الذي وجد فيها مثالاً للزبونة الكريمة .

أغلقت باب منزلها ، احتضنت ثوبها الجديد .... لا لم تحتضن ثوباً بل طفلها المنتظر ، والقادم عما قريب .. هكذا همست لها الرائحة القادمة من بين ثنايا الثوب ، وبدأت ترى الحياة والمستقبل أمام عينيها ، وهي تلبس ثوبها الجديد بعد أن أسدلت شعرها على كتفيها ... فينبهر لجمالها ذلك العجوز ، وينقلب الحال ، فيغرقها بالهدايا ، ويمكث معها أيام وليالِ ، حيث يشاركها في سماع صراخ الأطفال الذين سيملئون المكان ... هذا يريد كوب ماء وتلك تريدها أن تسرح شعرها ،والأخرى جائعة والرابع يشكو من ابن الجيران الذي ضربه ، و...فجأة ..... سقط الثوب من يدها ، وطار عقلها ... ماذا فعلت ؟ وبماذا أجيبه عندما يسألني من أين لك هذا ؟ وماذا سيفعل بي لو علم بأنني فتحت الباب لأحد؟ وماذا لو التقى ذلك البائع بزوجي واخبره بأنني فتحت له الباب ؟ هنا .... نشفت عروقها , وتبخر حلمها من شدة الخوف ....

وحتى هذا اليوم لا تزال تلك المرأة المطيعة التي لم ولن تعارض أحد طوال حياتها ، هناك ... أمام الباب المهترئ بعد أن لعبت الشمس بوجهها ، ونحتت عليه ما تريد من آثار ، ممسكة بعصاها , ورجلاها المعوجتان تغوص في الرمال ... بثوبها القديم .. !! في انتظار البائع ، لتوصيه بكتم سرها بعد أن دفنت ثوبه في احد أركان المنزل وعلى عمق أمتار من الأرض ، ووأدت أطفالها معه ، نعم ذلك البائع الذي لا تعلم بأنه لقي حتفه في اليوم التالي من بيعه آخر ثوب عنده !!!

.. النهايــــــة ..


تمت طباعة الخبر في: السبت, 04-مايو-2024 الساعة: 01:57 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/65342.htm