المؤتمر نت - شايف علي الحسيني
شايف علي الحسيني * -
قراءة في الخطاب السياسي الراهن وواقع الصحافة الحزبية

قراءة الصحف الحزبية والأهلية والرسمية وأخبار المواقع الالكترونية وسماع خطب المناسبات ومقايل القات صارت في الآونة ا لأخيرة في اليمن مشقة كبيرة وحمل ثقيل على كاهل كل قارئ ومستمع تقريباً. فالأخبار المنشورة ومقالات الرأي والتعليقات وتصريحات السياسيين وغيرها كلها‮ ‬مشحونة‮ ‬بالتوتر‮ ‬والنظرة‮ ‬السوداوية‮ ‬حتى‮ ‬لايكاد‮ ‬المرء‮ ‬يرى‮ ‬بصيص‮ ‬نور‮ ‬تجاه‮ ‬المستقبل‮.‬

التشاؤم الذي ينصب كالشلالات من أفواه المتحدثين وألسنتهم وعبر أقلام الكتاب حول الأوضاع في البلاد يبعث في النفس الشعور بالخوف مما سيترتب وينتج عن مثل هذا التشاؤم المفرط نحو مستقبل البلاد والعباد، إنه يغلق أمام الناس أبواب الأمل وإشراقات المستقبل الوضاء التي يؤمن‮ ‬بها‮ ‬كل‮ ‬أريب‮ ‬وهو‮ ‬قريب‮ ‬غير‮ ‬بعيد‮ ‬بكل‮ ‬تأكيد‮.‬

الألفاظ التي غدت لغة مستخدمة يومياً في الصحافة الحزبية كـ»السقوط، الانهيار، الكارثة، الوطن الضائع، العصابات، القبيلة، المناطقية، الإرهاب، الانفلات الأمني، الفقر، الأمراض، الفساد، المستقبل الغامض، النفق المظلم، الثقب الأسود، وأخيراً الانفصال، وغيره..« تثير الحنق‮ ‬لدى‮ ‬كل‮ ‬مواطن‮ ‬غيور‮ ‬على‮‬استقرار‮ ‬وطنه‮ ‬وأمنه‮ ‬ومستقبله‮.‬

فأن يصبح خطاب سياسي كهذا مفعم بالفوضى الشاملة والخوف من القادم سائداً في أوساط الناس كأنه أمر مسلم به وحقيقةً لامجاز لا يصدر من حرص على معالجة الاختلالات القائمة »من أناس يفترض فيهم المسئولية عند توعية الناس« لحل قضاياهم ومتطلباتهم المعيشية وغيرها بل انه تفاقم الأزمة ويجعلها مستعصية الحلول دون ريب فبدلاً من مواجهة القضايا المطروحة في الشارع كالبطالة والفقر والصحة والتعليم والأمن والإرهاب والبيئة وحوادث الطرقات ومكافحة الفساد وغيرها يشتد الناس لمراقبة سير الأحداث على هذا النحو المتشائم متوقعين كل أنواع الشرور‮ ‬والأخطار‮ ‬منحرفين‮ ‬ومنصرفين‮ ‬عن‮ ‬مشاكلهم‮ ‬الحقيقية‮ ‬منتظرين‮ ‬ما‮ ‬سيتمخض‮ ‬عنه‮ ‬هذا‮ ‬الجريان‮ ‬المتصاعد‮ ‬من‮ ‬الأحداث‮ ‬والأخبار‮ ‬المتواصلة‮ ‬التي‮ ‬لاتقف‮ ‬عند‮ ‬حد‮.‬

تكريس‮ ‬سلبي

إن هذا التكريس لمفاهيم اليأس والإحباط في أوساط الناس وبشكل يومي من قبل الساسة وأرباب الكلمة وحاملي الأقلام لايحقق منجزاً ولا يحل مشكلة مهما طرحت من تبريرات لذلك، ومهما قيل إنها رسالة المثقف وا لصحفي والسياسي نحو المجتمع وما سيعمله من خطاب كهذا في واقع الحياة فإنه يصنع في النفوس الخذلان ويدفع الناس إلى الوقوف متفرجين أمام المشاكل وهي تتفاقم وتتوسع رقعتها حتى يصبح حال المجتمع حال أولئك النفر من الناس الذين واجههم العدو فجأة في أحد دروب مدينتهم وهو لايملك سلاحاً فقال لهم انتظروا هنا حتى أتيكم بالسيف لأقتلكم جماعة.. إلخ فهل عاقل محب لوطنه وأهله يريد لأهله أن يصلوا إلى حالة الوقوف أمام أضرار تحيط بهم ومصائب تنزل عليهم وهو يزيد إمعاناً في إشعال الحرائق هنا وهناك ظناً منه ا نه يصنع أحداثاً وأنه يحقق منجزات.

لا أعتقد أن عقلاً رشيداً يود أن تدخل البلاد في هذه المنعطفات الخطيرة التي أهلكت الكثير من حولنا وأدت بهم إلى الوقوع في الحضيض تحت أوهام وسراب خادع انطلى على الكثير من الطيبين تحت ضغط جبروت الإعلام المعاصر الذي هو من أضخم أسلحة القتال في وقتنا الحاضر، لأن فعلاً هكذا يكون مؤكداً أنه يهوي بالمرء إلى قاعٍ سحيق ويدخل المجتمع في فوضى عارمة لاتبقي ولاتذر، لأن العاقل من طبيعته أنه لايرضى بالضرر أياً كان نوعه أو حجمه لا على أهله ولا على وطنه ولا على نفسه فكيف تكون هذه الأقلام- وهي وطنية- حادة إلى هذا المستوى الذي تحولت‮ ‬فيه‮ ‬الكلمة‮ ‬إلى‮ ‬سكين‮ ‬يقطر‮ ‬منها‮ ‬الدم‮ ‬دون‮ ‬اكتراث‮ ‬من‮ ‬النتائج‮ ‬التي‮ ‬ستفضي‮ ‬إليه‮ ‬من‮ ‬موتٍ‮ ‬وخرابٍ‮ ‬وتشريد‮ ‬وغيره‮.‬

النقد وتوعية الناس بقضاياهم أمور مطلوبة بل وضرورية لمواجهة السلبيات التي تعوق تطور المجتمع وتوفير متطلباته في حياة آمنة كريمة.. حرية الكلمة هنا مطلوبة بل إنها وسيلة من وسائل الديمقراطية لاشك في ذلك وهي طريق للتعبير عن الرأي والتداول السلمي للسلطة، ولكن الكلمة‮ ‬التي‮ ‬تبني‮ ‬ولاتهدم‮ ‬تجمع‮ ‬ولاتفرق‮ ‬فالله‮ ‬سبحانه‮ ‬وتعالى‮ ‬يأمرنا‮ ‬بالمودة‮ ‬والوحدة‮ ‬وهو‮ ‬القائل‮ »‬واعتصموا‮ ‬بحبل‮ ‬الله‮ ‬جميعاً‮ ‬ولا‮ ‬تفرقوا‮« ‬صدق‮ ‬الله‮ ‬العظيم‮.‬

دلالات‮ ‬المقارنة

وعندما تعقد المقارنات بين المتفائلين والمتشائمين فستكون المقارنة لصالح المتفائلين أصحاب الآمال في غدٍ أفضل وأروع وأجمل من الحاضر دون ريب وستصدق فيهم تلك المقولة الشهيرة »إن أجمل الأيام هي التي لم تأت بعد« فأرضنا وبحارنا وسماؤنا هي أرض خير وعطاء أرض الأمل الذي لم ينقطع عبر الأجيال منذ أن عرف اليمن في خارطة العالم وأهلنا هم أهل حضارة وعمران ولهم القابلية في التطور والرقي كسائر الشعوب في مغارب الأرض ومشارقها أما عوائق التنمية والتطوير رغم فداحتها وكثرتها فليست صناعة اليوم بل إنها ركام الماضي وإرثه وهي أشياء وأمور‮ ‬تحصل‮ ‬في‮ ‬مسيرة‮ ‬أي‮ ‬أمة،‮ ‬والمطلوب‮ ‬أن‮ ‬يتفق‮ ‬الناس‮ ‬على‮ ‬الطريقة‮ ‬التي‮ ‬يتم‮ ‬بها‮ ‬تجاوزها‮ ‬والتغلب‮ ‬على‮ ‬صعوبتها‮ ‬بروح‮ ‬الحوار‮ ‬البناء‮ ‬والعمل‮ ‬المثمر‮.‬

يظل الفرق بين من يريدون التغيير نحو الأفضل بوسائل غير مأمونة ولا مضمونة بل وعنيفة وبين فريقٍ آخر يريد التغيير بطرقٍ آمنة وسليمة إن هذا الفريق يود رؤية العربة على السكة فيسير القطار أمناً إلى مرافئ العزة والكرامة والآخر يود تحطيم العربة والسكة معاً نكاية بصانعها وقائدها وربما لمآرب أخرى والبدء في البحث عن طريق آخر يعتقد هؤلاء أنه سيؤدي إلى تحقيق المرامي والأهداف التي يحلمون بها وهم في كل الأحوال لأنه لن يبقى إلاّ العظيم من المواقف والأعمال »وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض« صدق الله العظيم‮.‬

لايوجد‮ ‬خلاف‮ ‬على‮ ‬عمق‮ ‬المشاكل‮ ‬القائمة‮ ‬وأثرها‮ ‬السلبي‮ ‬على‮ ‬حياة‮ ‬المجتمع‮ ‬ولكن‮ ‬الخلاف‮ ‬قائم‮ ‬على‮ ‬طريقة‮ ‬وطبيعة‮ ‬المعالجات‮ ‬التي‮ ‬تطرح‮ ‬بهذه‮ ‬الحدة‮ ‬وبهذا‮ ‬النهج‮ ‬العنيف‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يعد‮ ‬يسمع‮ ‬منه‮ ‬سوى‮ ‬جلبةٍ‮ ‬وضجيج‮.‬

التفاؤل بالمستقبل هو شيء جميل وهو جزء من الحل فهو يفضي عن نفوسٍ تواقة متطلعة محبة للحياة وللناس، والتشاؤم ينبعث من نفوس أنهكتها قسوة الحياة ومشقة البحث اليومي عن لقمة العيش وبعض مظاهر الفساد القائم في الواقع.. وأحياناً يفسر مثل هذا التشاؤم بأنه مسئولية المثقف تجاه مجتمعه فأفضى إلى ما أفضى إليه فيزيد الأمور تعقيداً والحلول بعداً وكلا الأمرين لابد لهما من مساحة في النفوس كالنهار والليل والخضرة والصحراء والأنس والقفر لكن الخطر يبدأ فقط عندما يغطي الظلام على النور والوحشة على الأنس والصحراء على الغابة هذا هو مكمن‮ ‬الخطر‮ ‬وإلاّ‮ ‬فالطبيعة‮ ‬البشرية‮ ‬تحتمل‮ ‬الضدين‮ ‬معاً‮ ‬وبقدرٍ‮ ‬من‮ ‬المعقول‮.‬
كانت الثقافة المتفائلة والتراث المفعم بحب العمل لدى الأوروبيين والآسيويين هي الذخيرة الحية التي تم استخدامها عقب حربين عالميتين الأولى والثانية لإعادة بناء ما دمرته الحروب، فخرجوا من تحت الدمار والدماء وملايين ا لضحايا وهم عاقدو العزم على صناعة مستقبل أفضل وأجمل وأروع مما مضى وكان لهم ذلك كما يشاهد ويرى.. وهل يوجد ما هو أشد وطأة وقسوةً على الإنسان وعلى الأرض من تدمير مدن بأكملها بالقنابل النووية بعمرانها وسكانها ومع ذلك الدمار الرهيب والإبادة الجماعية خرج الإنسان منتصراً من معارك الدمار والإبادة إلى رحاب ا لحرية‮ ‬والكرامة‮ ‬والعيش‮ ‬الرغيد‮.‬
فالعقل‮ ‬الرشيد‮ ‬قد‮ ‬أدرك‮ ‬المغزى‮ ‬وهرب‮ ‬إلى‮ ‬الأمام‮ ‬أما‮ ‬نحن‮ ‬فزوابع‮ ‬تحدث‮ ‬هنا‮ ‬وهناك‮ ‬يجري‮ ‬تضخيمها‮ ‬وتكبيرها‮ ‬وكأن‮ ‬الدنيا‮ ‬قامت‮ ‬ولم‮ ‬تقعد‮ ‬وإذا‮ ‬باليأس‮ ‬والإحباط‮ ‬يحيط‮ ‬بالجميع‮ ‬من‮ ‬كل‮ ‬جانب‮.‬

وعند المقارنة بين ذخيرتنا الثقافية والأخلاقية وذخيرة غيرنا نتوقف عند تلك الصور لطرح كثير من التساؤلات عن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا: أين تكمن عيوبنا فيما يصنع في واقعنا ويحيط بحياتنا من كل جانب هل هو في انتشار الجهل واتساع رقعته؟ هل هو في تنشئة الشباب بالمعارف التي يتلقونها؟ هل هو في قادة الرأي وكبار وجاهات المجتمع؟ هل هو في مؤسسات الدولة؟ هل في تراثنا شوائب وعيوب تملؤه هنا وهناك كالقبلية والمناطقية والمذهبية وغيرها؟ قد حالت دون تطورنا وتقدمنا وسيرنا إلى الأمام.

إنها تساؤلات مطروحة، ربما إن الشيء الذي يلمس في حياتنا في الحاضر وهو جزء من المشكلة القائمة، بأن الحقيقة صارت رهينة لدى البعض من السياسيين والمثقفين، من خرج عنهم وعن مايريدون خرج عن جادة الصواب! بينما الحقيقة تظل شيئاً نسبياً غير مطلق وموزعة هنا وهناك وهي‮ ‬تتكون‮ ‬من‮ ‬جملة‮ ‬تفاعلات‮ ‬ووقائع‮ ‬ينتج‮ ‬عنها‮ ‬رؤىة‮ ‬أقرب‮ ‬إلى‮ ‬الحقيقة‮ ‬من‮ ‬التوهم‮.. ‬فلماذا‮ ‬لايفتش‮ ‬الجميع‮ ‬عن‮ ‬أرضية‮ ‬للحوار‮ ‬للوصول‮ ‬إلى‮ ‬هذه‮ ‬الحقيقة‮ ‬التي‮ ‬تقود‮ ‬البلاد‮ ‬نحو‮ ‬حل‮ ‬مشاكله‮ ‬وإسعاد‮ ‬أهله‮.‬


الدور‮ ‬الغائب

العيب الذي يلمس أيضاً في مسيرة الكثيرين أفراداً ومجتمعات هو وجود شخصيتين في شخصٍ واحد إحداهما تتخاطب مع الذات والأخرى مع الآخر! والعيب أيضاً أن كل الناس في مجتمعنا لهم تطلعات وغالبيتهم نحو الجاه والسلطة، كل نظراتهم تنصب في هذا الاتجاه ولا تبحث عن طريق آخر لرقيهم وتحسين معيشتهم وتوفير الأمن والأمان لاستقرارهم.. وتحولت ثقافة المقايل في الأرياف وفي الحضر إلى صناعة شخصية إما متعالية تدعي أن لها كافة الحقوق والآخرين ليس لهم حق، وإما ناقمة تدعي التطور بينما ترمي الآخرين بالتخلف ومن هذا المنطلق تخرج هذه الجماعات وقد‮ ‬عُبئت‮ ‬بثقافة‮ ‬الأنا‮ ‬التي‮ ‬تكرسها‮القبيلة‮ ‬والمناطقية‮ ‬والعائلية‮ ‬والمذهبية‮ ‬وغيرها‮ ‬لتمارس‮ ‬في‮ ‬الحياة‮ ‬سلوكاً‮ ‬غير‮ ‬سوي‮ ‬مستهينة‮ ‬بكل‮ ‬شيء‮ ‬بالقانون‮ ‬والنظام‮ ‬وحتى‮ ‬بحرية‮ ‬الناس‮ ‬الآخرين‮.‬

فلماذا لايشرع الكّتاب والمثقفون في إطار هذا الجدل المتعاظم لمناقشة هذه الظواهر وغيرها عبر الصحافة والمنتديات وحوار الفكر والثقافة، والإجابة على التساؤلات التي تبحث أين تكمن عوائق تطور البلاد ومن يعيق المسيرة نحو العصر؟ وبالتالي خلق رأي عام ذوي توجه سلمي للتغلب‮ ‬عليها‮ ‬في‮ ‬سبيل‮ ‬إقامة‮ ‬تنمية‮ ‬مجتمعية‮ ‬تمتص‮ ‬البطالة‮ ‬وتضيق‮ ‬مساحة‮ ‬الفقر‮ ‬وتقضي‮ ‬على‮ ‬الأمراض‮ ‬الوبائية‮ ‬وتوفر‮ ‬للفرد‮ ‬وللمجتمع‮ ‬الحرية‮ ‬والديمقراطية‮ ‬والحياة‮ ‬الكريمة‮ ‬عوضاً‮ ‬عن‮ ‬هدم‮ ‬المعبد‮ ‬فوق‮ ‬رؤوس‮ ‬الجميع.
‮‬
ثم لماذا لايقوم المثقفون في هذه الأمة بالتنقيب في تاريخ اليمن عن مضامين السلوك الرشيد والسلوك المهووس في دروب الكفاح المتواصل لشعبٍ أضنته الحروب منذ الحملة الرومانية قبل الميلاد وحتى اليوم ليستخلص من هذا العبث الذي استنزف الأرواح والممتلكات وأهلك الحرث والنسل، عبرُ يستفاد منها في بناء الحاضر لصياغة رؤية جادة لمستقبل أفضل يتوفر فيه الأمن والاستقرار، الحرية والعمل، الصحة والتعليم للجميع يلتف حولها السياسي والمثقف والصحفي والقبلي والمجتمع ويتعايش فيه الناس سواسية تحت حكم القانون.. أليس ذلك هو رسالة المثقف والسياسي‮ ‬نحو‮ ‬مجتمعه‮ ‬وهو‮ ‬أسلم‮ ‬من‮ ‬ثقافة‮ ‬القيل‮ ‬والقال‮ ‬والإسقاطات‮ ‬النفسية‮ ‬والمشاريع‮ ‬الصغيرة‮ ‬على‮ ‬واقع‮ ‬لايتحمل‮ ‬أكثر‮ ‬مما‮هو‮ ‬فيه؟

المثقفون اليوم في بلادنا للأسف أنهم في كل وادٍ يهيمون، وإني لا استطيع حقيقةً أن أفهم كيف أن سياسياً ومثقفاً واستاذ جامعة وفيلسوفاً يزيف التاريخ وينشر الخصومة بين أبناء الوطن الواحد شمالاً وجنوباً زيوداً وشوافع سهولاً وجبالاً في وقتٍ كان يدعو لوحدة العالم أجمع أليس أحرى بهؤلاء المثقفين أن ينطلقوا من منطلق أن العلاج لايكون لفردٍ ولا لمجموعة ولا لجزء من الوطن وإنما للجميع من منطلق أن الوطن هو كسفينة في بحر إن نجت نجا فيها الكل وإن غرقت غرق فيها الجميع.. هل وصل بعض المثقفين والسياسيين إلى هذه الحالة حالة الانفصال بين تفكيرهم فيما مضى وما يفكرون اليوم، هل وصل الحال إلى ما قاله الصديق قادري أحمد حيدر في أحد مقالاته »إننا نرى اليوم قطاعاً من المثقفين والسياسيين يعودون القهقري إلى الهندسة الوراثية بحثاً عن الأصل الأول وإلى حفريات السلالة والمذهب والطائفة والقبيلة والقرية‮ ‬والجهة‮ ‬ليؤكدوا‮ ‬ذواتهم‮ ‬وأسماءهم‮ ‬وهوياتهم‮ ‬وإعادة‮ ‬تدوينها‮ ‬من‮ ‬جديد‮ ‬على‮ ‬صفحة‮ ‬بطاقاتهم‮ ‬الشخصية‮«.. ‬صحيفة‮ »‬الوسط‮« ‬العدد‮ ‬220‮ ‬التاريخ‮ ‬2008‭/‬12‭/‬31م‮.‬

لقد كان المثقفون عبر تاريخ اليمن هم الطلائع الرائدة لخلاص الأمة بهم كانت ثورة سبتمبر وأكتوبر وبهم كانت الوحدة اليمنية، استشهدوا وفي حلمهم يمن واحد وماتوا وفي حلمهم أيضاً يمن واحد وشعبُ سعيد.. أين فلان وفلان وأين عشرات الأسماء من المثقفين الذين كانوا نبراساً‮ ‬للوطن‮ ‬من‮ ‬أقصاه‮ ‬إلى‮ ‬أقصاه‮ ‬يحتذى‮ ‬بهم؟
إن دور المثقف والصحفي في ا لظروف الاستثنائية التي يمر بها الوطن الآن هو دور الرائد الذي يسير بالأمة نحو مرافئ الأمن والاستقرار حيث لا حرب ولا قتال، وليس ذلك المصاب بأمراض المناطقية الذي يشعل الفتنة في السهل والجبل معتقداً أنه ثائر ضد الظلم وهو غير ذلك تماماً‮ ‬فهو‮ ‬مشعل‮ ‬فتنة‮ ‬ليس‮ ‬أكثر‮.‬

كابوس‮ ‬مزعج
لقد تحولت الإشاعة في حياة اليمنيين إلى كابوس مزعج لما تقوم به من عمل لايتصل بأخلاقيات المجتمع فأثرت بأفعالها على سمعة الكثيرين، وللأسف أن صحافة التعددية تكرسها يوماً بعد يوم وزادت هذه الظاهرة استفحالاً بما ينشر من تسريبات كاذبة وخادعة في الصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، ضد أفراد ومؤسسات اكتوى بنارها أناس كثيرون دون ذنبٍ يذكر ويغدو بذلك الكذب حقيقة والأقاويل أفعالاً يتناقلها الناس وكأنها أمورُ مسلمُ بها في مجتمع تسود فيه الأمية ولديه في تراثه شيءٌ من هذا، فمن وصم بالشر وهو خير صار شريراً ومن وصم بالخير وهو شرير صار خيراً، وهكذا ينزل كل خصم بخصمه ما لا يقال ولا يصح من الوصم بالرذيلة وصغائر الأمور التي تقلل من شأنه في أوساط المجتمع إلى حد الفجور والأمثلة عديدة هنا وهناك لايتسع المجال لذكرها.

لقد ساعد على رواج الإشاعات أن أي شخصية في التاريخ اليمني في الماضي والحاضر لم يتم إنصافها ممن وصمتهم الإشاعة بما لايستحقون ذلك لكي يعلموا أصحاب الإشاعة أن كذبهم سيصبح في يومٍ فضيحة تعريهم أحياء أو أموات.

لقد كانت كثير من الشخصيات اليمنية في التاريخ القديم والحديث نهباً للخصومة السياسية وغير السياسية وبالتالي بنيت الثقافة وكتابات المؤرخين على انقاض كتابات الخصوم وترويجاتهم وتفوه ألسنتهم وغابت الأمانة في كتابات الكتاب وناشري التاريخ حتى أنه حدث الإرباك الذي أفسد المشهد بين المتخاصمين وخلط بين الحقيقة والوهم وهذه واحدة من الاشكاليات التي ينبغي ا لوقوف أمامها وتحليلها وإبرازها ليعرف الآثمون إثمهم والمحسنون حسناتهم، لأن جدلاً على غرار ما هو قائم وشائع دون تسمية الأشخاص بأسمائهم لاينفع ولا يفيد وإذا استمر على هذا‮ ‬المنوال‮ ‬الحالي‮ ‬فإن‮ ‬المسألة‮ ‬ستظل‮ ‬مرتبطة‮ ‬بتزييف‮ ‬التاريخ‮ ‬وصياغة‮ ‬الأحداث‮ ‬وفقاً‮ ‬لمعايير‮ ‬الخصومة‮ ‬والانتقام‮ ‬وستفضي‮ ‬النتائج‮ ‬على‮ ‬هذا‮ ‬النحو‮ ‬الذي‮ ‬نعيشه،‮ ‬وتتحمل‮ ‬تبعاتها‮ ‬الأجيال‮ ‬جيلاً‮ ‬بعد‮ ‬جيل‮.‬

بين‮ ‬حالتين

إن عالم اليوم تسود فيه العقلانية وترجيح المصالح الوطنية على المصالح الخاصة لذلك نجد نتائج الديمقراطية متجلية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ارتقت بالشعوب إلى تلك المستويات من ا لرخاء الذي يضرب به الأمثال وساد فيه التعايش بين المجتمعات وهم‮ ‬مختلفون‮ ‬في‮ ‬الدين‮ ‬واللغة‮ ‬والعرق‮ ‬لكنهم‮ ‬سعداء‮ ‬في‮ ‬العيش‮ ‬المشترك‮.‬

المعارضة وصحافتها لديهم هي حكومة الظل فهي من يراقب أداء السلطات الحاكمة وتُقيم أعمالها وتعكس آراءها على جمهور يمثل الرأي العام فإن كانت على صواب استحسنها وعاضدها وزاد من شعبية المعارضة لتتهيأ بذلك لحسم الخلاف القائم بالانتخابات فإن فازت فقد حققت برامجها وإن فشلت أسرعت بالمباركة للفائز معلنةً أنها ستكون عوناً له في المرحلة القادمة، فلماذا لايستفاد من تجارب الشعوب الأخرى حتى تحقق ما نطمح إليه ونبتعد عن تكريس مفاهيم متخلفة غير ديمقراطية ليس لها علاقة بالعصر ولا بثقافته لا من قريب ولا من بعيد.

ليس عيباً أن يحلم الحالمون بوطنٍ يُسعد فيه كل أبنائه ولكن بشرط أن يرتبط هذا الحلم بالتفاؤل لا التشاؤم، بالوحدة لا التفرقة، بالأمن لا الخوف، لا أن تحكمه الضبابية والإقصاء إما أبيض أو أسود ولا توجد بينهما أي منطقة أخرى. هذا هو مكمن الخلاف وموطن المرض وأساس المشكلة‮.‬

إنما نود قوله أنه ليس هناك أو هنا من هو ضد إصلاح الأوضاع وتحسين حالة معيشة الناس وحل المعضلات للنهوض بالمجتمع، إنما يكون ذلك بعيداً عن تعبئة الناس للخصومة والتفرق لأن هذا الطريق لايصل بالناس إلاّ إلى ماهو أسوأ. فواجب الصحافة الحزبية اليوم هو تعزيز لغة الحوار بين المختلفين وتقريب وجهات النظر بين المتعارضين في الرأي والأفكار، لأنها إذا لم تقم بذلك فإن الفرقة ستكون هي السائدة في الساحة والخصومة ستظل تحلق فوق الرؤوس ويبدأ فوران الأطراف بأفعال وردود أفعال وبالتالي تصعيد الأزمة وابتعاد الأطراف عن لغة الحوار تحت مفهوم‮ ‬الشك‮ ‬والريبة‮ ‬فتكون‮ ‬النتيجة‮أن‮ ‬لا‮ ‬حكمة‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬البلاد‮ ‬ولا‮ ‬استفادة‮ ‬من‮ ‬تجارب‮ ‬الشعوب‮ ‬السائرة‮ ‬في‮ ‬دروب‮ ‬التطور‮ ‬والديمقراطية‮.‬

عندما هزم رئيس وزراء الهند »فاجبايي عام 2004م في الانتخابات وهو يعتقد أنه في زهوة انتصاراته قال كلمته الشهيرة »قد هزمنا في الانتخابات ولن نتخلى عن مسئولياتنا تجاه أمتنا وأن النصر والهزيمة جزء من هذه الحياة«.

لقد كان التاريخ اليمني مليئاً بالأحداث الجسيمة والحروب المتواصلة وللأسف سادت في كثير من الأحيان قوة الغلبة وحلول الإقصاء للآخر، ولكن برهنت التجارب في الماضي وفي الحاضر أن المشاكل والاختلافات بين الأطراف لا تدوم بالغلبة والقوة ولم تحلها الحروب والاقتتال لأنه‮ ‬عقب‮ ‬كل‮ ‬حرب‮ ‬حدثت‮ ‬أو‮ ‬اختلاف‮ ‬حصل‮ ‬التقى‮ ‬المتخاصمون‮ ‬على‮ ‬طاولة‮ ‬واحدة‮ ‬لحل‮ ‬القضايا‮ ‬الخلافية،‮ ‬وهذه‮ ‬عبرة‮ ‬من‮ ‬عبر‮ ‬التاريخ‮ ‬يعتبرها‮ ‬أولو‮ ‬الألباب‮.‬
وإذا كنا نقول إن أهل اليمن هم أهل حكمة وإيمان فقد آن الأوان وفي هذا الزمان أن يبحث الساسة اليمنيون في أوساطهم عن هذه الحكمة التي نحن في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن وأن تكون الاتفاقات الموقعة مؤخراً بين أطراف العملية السياسية في البلاد هي بداية الحكمة اليمانية، فالأمن والاستقرار هو بداية الطريق لحل المشكلات وتجاوز إرث التخلف ونتائجه أما ا لذين يصبون الزيت على النار فإنهم لايحبون لوطنهم لا الاستقرار ولا الأمن ولا التنمية إنهم فقط يبحثون في السراديب عن وقود لإشعال كارثة بحجم الوطن، أما نتائجها فإنها لاتعنيهم بشيء سوى الوصول إلى مآربهم، والله قادر أن يغلبهم أو يعيد لهم رشدهم فتاريخ الإنسانية قد برهن أن إشعال الفتن والحروب ليست الوسيلة الناجعة لخدمة المجتمعات وأن أفضل السياسات هي التي لاتصنع الحروب وإنما التي تصنع السلام!!

*رئيس الدائرة الثقافية بالمؤتمرالشعبي العام

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 28-مارس-2024 الساعة: 07:39 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/69383.htm