الخميس, 28-مارس-2024 الساعة: 03:15 م - آخر تحديث: 11:21 ص (21: 08) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
السِياسِيُون الحِزبِيُون الألمَان يَخدعون ويَكِذِبُون ويخُونُون شعبهم
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
ثقافة

بعد جراس في اليمن

المؤتمر نت-بقلم :جمال الغيطاني -
جمال الغيطاني يكتب مرة أخرى عن جراس.. في حضرموت
الأحد صباحا.. الحادي عشر من يناير. عام أربعة وألفين.. وقعت عيناي على جونتر جراس لأول مرة في قاعة الشرف بمطار صنعاء الدولي عندما دخل بصحبة زوجته، وابنته لورا التي تبدو في العشرينيات من العمر.
كان يرتدي سترة برتقالية داكنة من القطن، رأيتها في الصحف والمجلات، ويبدو أنه يحب هذا اللون، قميصه أزرق صريح الزرقة، وبنطاله بني فاتح، لا تختلف ملامحه عن صوره، بل يبدو متطابقا مع كل ما رأيت له من لقطات، الشارب الكثيف، العينان الآسيويتان، النظرة المحدقة الى الأمام، ربما توحي صوره بقامة أطول، زوجته سيدة نحيلة، طويلة، عميقة الصمت.
أعرف ذلك الشعور الذي ينتاب القارئ عندما يرى كاتبا كبيرا أحب أعماله، وتتاح الفرصة لمقابلته شخصيا، قرأت له قصاصتين متفرقتين، ولقاء في مجلة فكر وفن وقرأت عنه أكثر حتى مطالعتي منذ عامين لروايته «طبل الصفيح» التي اصطحبها معي في رحلتي تلك الى اليمن لأستعيدها مرة أخرى مستمتعا، لا أظن أن ثمة من يدل على الكاتب مثل أعماله، كثيرا ما أقول لمن يعنيني أمرهم، اقرأوا ما كتبت.
لأنني قرأت له صرت أقرب وأكثر تركيزا في التقاط ما يتعلق به. لفت نظري تواضعه، وبعاطفة يصغي جيدا الى من يحدثه، تحتفظ ملامحه بهدوئها، تذكرت تواضع ورقة نجيب محفوظ، صعب المقارنة. لكن يبدو أن ثمة عناصر للشبه بين المبدعين الكبار، بدا متأثرا من عفوية وصدق محبة اليمنيين الذين أحاطوه بأجل مظاهر التكريم، جاء العام الماضي الى اليمن وبصحبته عدد من الكتاب والأدباء الألمان.
وجاء الى صنعاء أيضا أدونيس ومحمود درويش، يبدو أنه وقع في هوى اليمن، لم يكن تعبيره هذا والذي كرره أكثر من مرة من قبيل المجاملة، إنما كان صادقا، وقد ترجم هذا الى برنامج عملي. بعد عام عاد الى اليمن بصحبة ثلاثين شخصية أدبية واعلامية، أدباء من سويسرا والنمسا أيضا يكتبون بالألمانية، ممثلون لوسائل اعلام مهمة.
مثل محطات التلفزيون ئغ و شزء و ط أيضا المحررون الثقافيون للصحف الكبرى في المانيا وسويسرا والنمسا، أثناء رحلتنا الى جزيرة سوقطرة في المحيط الهندي لاحظت أن الركب يتوقف أثناء صعودنا الطرق غير الممهدة، ينزل من العربة ليتحدث الى التلفزيون في مواضع جميلة وفريدة، سألته عندما بلغنا قمة الجبل حيث الأشجار النادرة المعروفة بدم الأخوين: هل تشارك في برنامج تلفزيوني عن اليمن؟

قال لي نافيا: لا.. إنما أقوم بدعاية لليمن، وإنني أعرف الشعب الألماني بهذا الشعب المتحضر، وتلك الطبيعة البكر الرائعة.
عندما زار اليمن العام الماضي زار الجنوب وتوقف طويلا في مدن حضرموت، وشبام وسيئون وتريم، لفت نظره أسلوب البناء بالطين، أعلن عن تبرعه بمبلغ عشرة آلاف دولار لتأسيس مدرسة تحافظ على أسلوب البناء ويتم فيها تعليم أجيال جديدة تلك الحرفة التي استمرت آلاف السنين وأصبحت مهددة بالانقراض مع زحف أساليب البناء الحديثة، ومن ناحيتها استجابت الحكومة اليمنية وقدمت قصرا ضخما. ظننت عندما رأيته في مدينة تريم أنه من الحجر وأن واجهته من الرخام.


الطلاء المتقن أعطاني هذا الانطباع، إلا أنني لمحت الطين من خلال المواضع التي تقشرت، مبنى متعدد الطوابق، فسيح، متين، تجاوز عمره القرنين أصبح مقرا لمدرسة جونتر جراس للعمارة الطينية، الآن بدأ المعلمون القدامى تعليم أجيال جديدة ينقلون اليهم خبرة الأجداد، هكذا أسهم جونتر جراس معنويا وماديا في الحفاظ على تراث اليمن غير المعزول عن الحياة اليومية للناس، لقد أحب المبدع الألماني الكبير حضارة اليمن العريقة.
ومن ناحية أخرى لم يفتعل اليمنيون تقديم أنفسهم، لهذا كان اللقاء عميقا ونزيها، فبوابة صنعاء القديمة المعروفة بباب اليمن في نفس موقعها ولاتزال تحمل آثار قذيفة أطلقت أثناء أحداث ثورة اليمن التي ساندتها الجمهورية العربية المتحدة (اسم مصر وقتئذ!)، كذلك فإن هؤلاء الرجال الذين يرتدون الزي اليمني التقليدي، الجلباب الذي يحيطه عند الخصر حزام عريض اسمه «الجندية» يتخلله خنجر، يتساوى في ذلك الثري والفقير، الفرق في نوع الجندية والخنجر فقط.
هؤلاء يرتدون الزي الطبيعي للحياة اليومية، ربما كان تجار صنعاء القديمة في محلاتهم نفسها أكثر خبرة بالتعامل مع الأجانب خاصة السائحين. أطفال صغار يتقنون اللغات الأجنبية، تذكرت تجار خان الخليلي، عرفت بائعا كان يتقن عدة لغات ولا يجيد إلا التوقيع باسمه.
في اليمن تتضاءل نسبة الأمية باطراد، ويمكن القول إن الطفرة التي حدثت منذ حوالي نصف قرن تعد مذهلة ورائعة، أهم ما فيها الحفاظ على القديم وعدم الاخلال به حتى مع تطور الحديث، ويبدو هذا جليا في العمارة، وتم الحفاظ على ملامح البناء الصنعائي القديم في الأحياء الحديثة التي تلد بسرعة كبيرة أحياء أخرى.
عندما وصلنا الى صنعاء مضينا الى فندق شهران، لا يحمل أسماء الشركات العالمية، ولكن البناء كان رائعا والغرف فسيحة، والزجاج الملون اليمني يسرب الى أطياف الكون الملونة في الصباح، ألوان بهجة تقدم أسرار الكون في مطلع النهار، اعتذر مرافقي، قال ان مؤتمرا دوليا كبيرا يعقد الآن في صنعاء بخصوص تأسيس المحكمة الدولية الجنائية.
ويحضره ممثلون من شتى الأقطار، وأن أعضاءه الستمئة شغلوا الفنادق الكبرى، وأننا سوف ننتقل بعد يومين الى أحدها، غير أنني أحببت المكان، الواجهات اليمنية التقليدية والحجرات الفسيحة ذات القمريات التي تعلو النوافذ والتي تتخللها شرائح الزجاج الملونة المعشقة في الجبس.
جاء جونتر جراس والألمان الى فندق الشيراتون مباشرة، وفي الصباح التقينا بهم في المطار، كانت تنتظرنا طائرة خاصة من طائرات الخطوط الجوية اليمنية. مماثلة تماما لتلك التي جئنا على متنها من القاهرة، يرافقنا عبدالكريم الإرياني رئيس الوزراء اليمني الأسبق، مستشار رئيس الجمهورية حاليا
وهو رجل دمث، عظيم التهذيب مثل أهل اليمن، كلما خاطبني كان يبدأ حديثه بقوله «يا أستاذي» وكنت أكاد أتوارى خجلا، وعندما طلبت منه مراجع عن جزيرة سوقطرة التي بهرتني فوجئت بمن يطرق باب غرفتي في الحادية عشرة ليلا بعد عودتنا الى صنعاء ليسلمني كتابين عن الجزيرة، الأول بالعربية والثاني بالانجليزية، أخبرني الصديق عاطف عواد مراسل أخبار الأدب باليمن أن اللهجة الصنعائية رقيقة جدا، قمة في التهذيب، وعند الحوار يتخاطب القوم بصيغة الجماعة فيقول الصاحب لصاحبه:
أنتم.. تذكرت كتابا جميلا قرأته في الخمسينيات عنوانه «كنت طبيبة في اليمن». يتضمن مشاهد طبيبة أجنبية خدمت في اليمن زمن الحكم الإمامي قبل الثورة والذي يوصف بأنه من عصور الظلام. سجلت ملامح التحضر العميق لليمنيين، وليس أدل عندي من البشر والعمارة التي تحتوي البشر ان في شمال اليمن أو جنوبه، تلك العمارة التي بهرت جراس بذوقها الرفيع وبساطتها وعمقها وخصوصيتها أيضا.


جلس جراس الى جوار زوجته في المقعد الأمامي، استغرقت الرحلة الى حضرموت حوالي ساعة، وحضرموت من المواضع التي يحمل اسمها عناصر شديدة الإيحاء بالنسبة لي، وقد عرفت اديباً من حضرموت، هو المرحوم علي أحمد باكثير - كل من يبدأ اسمه بحرف الباء والألف هو من حضرموت - كان يتردد على ندوة نجيب محفوظ في الأوبرا منذ الأربعينيات.
وعندما زرت مدينة سيئون في رحلتنا تلك مررت بمنزل فسيح، قال مرافقي انه بيت عائلة باكثير وأن الحكومة اليمنية قررت إقامة متحف للأديب الحضرموتي الراحل، عندما كتبت روايتي «هاتف المغيب» استحضرت من عالم الخيال شخصية الحضرموتي العالم بأسرار الطير ودروب الصحراء.
ها أنذا أخيرا أحلق فوق حضرموت.

لأن الطائرة خاصة، وسترافقنا طوال الرحلة، فقد حلق الطيار بنا مرتين حول مدينة شيام ليتيح لنا فرصة رؤيتها من أعلى قبل أن نتجول في دروبها، من أعلى كانت تبدو كباقة من البنيان الفريد، عمارات مستطيلة نحيلة متجاورة، طلاؤها ما بين الأبيض والأصفر، معروفة كأقدم مدينة لناطحات السحاب في العالم، يحيطها سور قديم، تتناثر أشجار النخيل وأشجار السدر والنباتات الصحراوية.

الرمال لها الغلبة، والمرتفعات الصخرية المتموجة، المدن القديمة أصلها واحات تقوم في هذه الصحراء الحربية الممتدة والتي كان جنوبها منذ حقب بعيدة مكتمل الخضرة، كانت الأمطار غزيرة، والغابات كثيفة، وكان اليمن مصدرا للثروة البشرية، هؤلاء البشر الذين رحلوا في هجرات شهيرة الى الغرب وتناسلوا في شبه الجزيرة العربية قبل أن يدخلوا الى مصر والمغرب والسودان، تجري في عروقي دماء يمنية، فالقبيلة العربية التي أنحدر منها «جهينة» أصلها يمني.


في مطار سيئون كانت فرقة المرقص الشعبي في الانتظار، ومحافظ المدينة وكبار المسئولين فيها، على الفور ركبنا العربات، كان التنظيم دقيقا ورائعا، قصدنا مدينة شبام، لكن رأيت صورها في التحقيقات التي قرأتها عنها منذ الستينيات، لكن القراءة شيء والمعاينة شيء آخر، من أحد الأبواب القديمة دخلنا.

يتقدمنا جراس والإرياني وخالد الرويشان وزير الثقافة، لا أظن أن مكانا أحدث في تأثيرا عميقا مباشرا مثل شبام وصنعاء، تذكرت قرية في عمق الواحات المصرية اسمها القصر، لاتزال عمارتها محتفظة بعتاقتها، لم يمسها الأسمنت بعد، قريبة الشبه بعمارة اليمن، غير أن الحالة المعمارية في شبام فريدة، حيث ترتفع المباني المتجاورة الى سبعة وثمانية طوابق.
وكلها مبنية من الطين، بنفس الأسلوب والنسق اللذين شيد بهما الأسلاف منذ آلاف السنين، أما الأبواب فذكرتني على الفور بأبواب الصعيد، لاشيء يحمل رسائل الإنسان السرية ومضونه الخفي مثل العمارة، الأبواب الحضرمية تكاد تكون صنوا لأبواب بيوتنا العتيقة في الصعيد الذي ولدت به.
الأزقة ضيقة، غير مستقيمة، ويبدو أن ساحة الأرض التي خصصها القوم للبناء كانت محدودة لذلك ارتفعوا الى أعلى، كل بيت تسكنه عائلة كاملة بأجيالها المختلفة، الجد والأب والابن. لكل خصوصيته واستقلاله، هذا ما يوجزه البناء من الداخل، كان جراس يتطلع منبهرا، وكلما لمح زاوية أعجبته يصيح متلفتا حوله:

«لورا.. لورا..».

وتجيء ابنته الهادئة، الصامتة، التي تشبه ملامحها تلك السيدة صاحبة أشهر ابتسامة غامضة في التاريخ، الموناليزا، تقف الى جوار أبيها، يشرح لها، وتصغي اليه، وكنت حريصا على التقاط صور لأسرة جراس رغم الزحام، وتتبع انطباعاته وملاحظاته، وتأمل محبته البادية لابنته الوحيدة
نقلاً عن البيان الاماراتية










أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "ثقافة"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024