الأحد, 28-أبريل-2024 الساعة: 03:01 ص - آخر تحديث: 02:33 ص (33: 11) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
ثقافة

رحلة إلى أرض العقيق المطرزة بالغمام

المؤتمر نت - منذ سنوات يضيء خاطري حلم بزيارة اليمن، تلك الأرض المعجونة بصهيل الخيول القديمة والمزدانة بالتمائم والمعابد والمنحوتة في انحاء عديدة من جغرافيتها المتنوعة. تلك اليمن التي نفخت الضوء في هيئة المعنى الأول للانسان العربي.
لقد كنت حالما بزيارة أرض الجذور، وفضاء امرئ القيس، وبلقيس التي احمر خداها وهي تمشي فوق ارض من المرايا. نعم، حلمت كثيرا بمعايشة استثنائية للأزمنة في تلك الجغرافيا السحرية. وكلما كان يرد اسم اليمن، كنت اشم رائحة القهوة، حيث تتقافز حبات البن في “المحماسة” في ايقاعات انثوية متناغمة. وكنت
بقلم- علي العامري -
صنعاء فردوس الهندسة (1)
منذ سنوات يضيء خاطري حلم بزيارة اليمن، تلك الأرض المعجونة بصهيل الخيول القديمة والمزدانة بالتمائم والمعابد والمنحوتة في انحاء عديدة من جغرافيتها المتنوعة. تلك اليمن التي نفخت الضوء في هيئة المعنى الأول للانسان العربي.
لقد كنت حالما بزيارة أرض الجذور، وفضاء امرئ القيس، وبلقيس التي احمر خداها وهي تمشي فوق ارض من المرايا. نعم، حلمت كثيرا بمعايشة استثنائية للأزمنة في تلك الجغرافيا السحرية. وكلما كان يرد اسم اليمن، كنت اشم رائحة القهوة، حيث تتقافز حبات البن في “المحماسة” في ايقاعات انثوية متناغمة. وكنت اتتبع صور المشهد البني من ذاكرة طفولتي، عندما كانت جدتي “تحمس” حبات البن على نار من حطب الأغوار الشمالية المحاذية لنهر الاردن، في ذلك البيت الطيني القديم الذي تعرش أمام واجهته دالية العنب، حيث المشهد يجري في ظلالها. وكان جدي يضع حفنات البن في “المهباش” الخشبي المطعمة اطرافه برقائق نحاسية منقوشة، ويبدأ “سحن” حبات البن في ايقاعات قوية، ثم تتواصل خطوات اعداد القهوة العربية بالهال.
هكذا، كان اسم اليمن يستدعي ذاكرة القهوة، كما يستدعي ذاكرة الجذور الاولى.

إلى الشاعر الراحل توفيق الزكري.. ظلك لا يزال يضيء المستحيل

في مرحلة لاحقة، اثناء دراستي في جامعة الامارات في مدينة العين التي تمثل حديقة مفتوحة يحرسها جبل حفيت. هناك في منتصف الثمانينات تعرفت الى عدد من الزملاء اليمنيين، اضافة الى زملاء من مختلف بلدان الوطن العربي. كنا عائلة من الطلاب، نتبادل الحكايات عن “جغرافيات” هي في الأساس جغرافيا واحدة، من النواحي الطبيعية والتاريخية والنفسية والروحية واللغوية والمصيرية والثقافية، لكنها متنوعة تنوعا ثريا.
وبقيت حالما بمعايشة تلك الجغرافيا المستلقية على البحر العربي وخليج عدن والمتكئة على وسادة البحر الأحمر، والمشرفة على المحيط الهندي، والمضيئة في جنوب شبة الجزيرة العربية، وهي تحمل مفتاح باب المندب.
وفي مطلع التسعينات في العاصمة الاردنية عمان تعرفت الى شاعر يمني يقطر عذوبة ومحبة هو توفيق الزكري. وكانت تلك المرحلة بوابة روحية أطل من خلالها على بلاد سبأ. وإن كنت اعرف شيئا عن تاريخ اليمن وحاضرها، وعن شخصيات ثقافية كبيرة مثل الزبيري والبردوني والمقالح وغيرهم، إلا ان توفيق زادني معرفة بالساحة الثقافية في اليمن، والاسماء الجديدة كانت بالنسبة لي في ميادين الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي، وكذلك في الغناء والموسيقا. لقد كان توفيق وفيا تماما لروحه العظيمة ولأصدقائه. وكنت أرى فيه روح الصعاليك الحقيقيين، حتى هيئته كانت تشي بروحه الشاعرية المجنونة بالطيبة والحب والصدق والإخلاص لكل معنى جميل في الحياة.
توفيق الزكري، ذلك الناحل مثل ريشة طائر، علمني الخطوات الأولى في الرقص على الإيقاعات اليمنية. وفي سهرات عديدة جمعتنا مع أصدقاء الروح والكتابة في عمان، كنت اراقب خطواته وهو ينقلها بخفة عجيبة ويديه المجنحتين اثناء رقصه، وكنت أرى فيه طائرا يرفرف بفرح طفولي نادر، يكون أحيانا على وشك الدمع.
زرته في منزله المستأجر في مدينة صويلح الملاصقة تماما للعاصمة الاردنية والتي لا تبعد سوى ثلاثة كيلومترات عن الجامعة الاردنية، حيث كان يواصل توفيق دراسته العليا.
في ذلك المنزل الواقف على سفح جبل، كان توفيق وعائلته، وكانت بنتاه الصغيرتان بملامحهما الدقيقة تشيعان هالة من البهجة المتجددة. وكانت زوجته الطيبة تعد لنا طعاما يمنيا طيبا. وكانت الطيبة العنوان الدائم لتوفيق وعائلته.
في ذلك المنزل الحميم مثل صاحبه، كنا نلتقي توفيق، أنا وشقيقي محمد العامري وباسل رفايعة ومحمد عبيد الله واحمد كناني وأصدقاء آخرون. نقرأ القصائد الجديدة التي كتبناها، ونتحدث عن الجنون الذي يقودنا، أحيانا، الى الرقص على إيقاعات يمنية. وبكل تأكيد كان توفيق معلمنا الاول في الرقص الذي يشبه حوارية بين الطيور.
وكان توفيق يزورني مع الأصدقاء في غرفة كنت استأجرتها في جبل الحسين في عمان، حيث كنت، آنذاك، أواصل خدمتي العسكرية لمدة سنتين، والتي كان يطلق عليها “خدمة العلم”، وكنت أداوم في مجلة “الكرامة” التابعة لجيش التحرير الفلسطيني.
تلك الغرفة كانت على سطح البناية، وحيدة هناك في الأعلى، وكان ذلك السطح “جمهورية خاصة” لي ولأصدقاء الروح، نلتقي بحب ونسهر بحب، نناقش بحب، ونقرأ الشعر بحب، ونختلف بحب ايضا، ولكن على أرضية الاختلاف الحيوي والتعددية في الاقتراحات الجمالية. وكان هذا التنوع جميلا مثل حبال الغسيل المتنوعة التي تنتشر على سطح البناية ذاته. لقد كانت ملابس الآخرين بمثابة جيران لي، وكذلك خزانات المياه التي كانت كأنها تتحدث بعضها مع بعض أو تطلق ضجرها تحت الشمس صيفا وتحت المطر والبرد شتاء، حيث كنت اسمع همهماتها وطقطقاتها عندما تتم تعبئتها بالمياه من خلال الحنفيات الموصولة بها.
توفيق الزكري كان معايشا لكل تلك التفاصيل الصغيرة، وشاهدا عليها وفاعلا أساسيا في لحظات الشعر والصمت والطيران.
في كافتيريا كلية الآداب في الجامعة الاردنية، كنا نلتقي ايضا حول طاولة في زاويتها. تلك الطاولة كانت شاهدة على تفاصيل من روح توفيق وقصائده وصمته النبيل وحزنه الرقراق الذي يسيل على خشب الطاولة مثل فضة صافية.
هناك كتب قصائد. وهناك تكلم عن العشق. وهناك كان يمرر يده في الهواء. وهناك كان يمرن روحه على الطيران. وهناك كان يضيء دمعه وهو يحتسي القهوة في فنجان خزفي مرقش بسماء صافية.
هناك كان يحفر: “كثيرون مروا على جثتي وأناخوا فجاءاتهم ثم مضوا
...
كثيرون.. آخرهم كان قلبي”.
كل ذلك وأكثر، كان في تلك السنوات. وكان موعدنا في صنعاء لألتقي توفيق الزكري. ولكن الموت كان ومضة برق مفاجئة. رحل توفيق على سرير في مستشفى صنعاني. وهبط خبر الفاجعة علي مثل صاعقة في ليل كامل. لم أصدق النبأ، ولم يصدق اصدقاء توفيق في عمان ذلك. لكن الموت صادق تماما، لا يوارب ولا يتمهل ولا يمهل، لكنه يهطل مثل نيزك يحفر الروح.
هكذا، بلا أدنى استئذان، يأخذ الموت شاعرا من عائلة القلب، وينفرد به، غير آبه لخسارات القصيدة والمنزل والاصدقاء.
حينها، نظمنا في رابطة الكتّاب الاردنيين في عمان حفل تأبين للفقيد العزيز توفيق الزكري، وكانت الكلمات التي القيناها من دموع. وكانت صوره ومقاطع من قصائده تملأ أرواحنا والجدران.
وهكذا رحل توفيق، لكن الموعد في صنعاء ظل قائما. لقد كانت زيارة اليمن حلما يراودني دائما، ولكن أصبح الحلم موعدا، تحقق في الحادي عشر من ابريل/نيسان من العالم الحالي، بعد وصول دعوة لي للمشاركة في ملتقى صنعاء الاول للشعراء الشباب العرب (13 الى 16 ابريل/نيسان 2004) بتنظيم من وزارة الثقافة والسياحة التي يقودها الوزير المبدع خالد الرويشان. وكان الملتقى الذي شارك فيه نحو 200 شاعر من اليمن والدول العربية الاخرى من ضمن فعاليات “صنعاء عاصمة للثقافة العربية”.

الفقدان مجددا
قبل الموعد المحدد للسفر، كنت في الشارقة في الامارات، حيث اعمل في صحيفة “الخليج”. لكن، مرة اخرى، مفاجأة حزينة تهبط علي عبر خبر تعرض والدي لحادث سير أثناء توجهه لأداء صلاة العشاء في قرية القليعات في الأغوار الشمالية. تلك القرية التي تطل على بيسان في فلسطين المحتلة عام 1948 حيث كان أهلي يعيشون قبل تهجيرهم قسريا مع الكثير من العائلات في شمال فلسطين. اهلي عبروا نهر الاردن، خاضوا في مياه المسيح حاملين معهم عذاباتهم ومفاتيح بيوتهم، وسكنوا قرية وقاص، حيث ولدت في بيت طيني على سفح ربوة، يبعد نحو 250 مترا عن مقام عامر بن أبي وقاص، وكانت شجرة سدر تتذكر الماضي في باحة المقام وتحرس قبته الخضراء. ثم انتقلت عائلتي الى قرية مجاورة تماما لوقاص هي القليعات التي تبعد سبعة كيلومترات عن مقام معاذ بن جبل الذي كان واليا لليمن.
بعدما علمت بخطورة وضع والدي في المستشفى، سافرت على وجه السرعة. ومن مطار الملكة علياء في عمان، انطلقت الى مستشفى الاميرة بسمة في مدينة اربد الواقعة شمال الاردن، وزرت والدي الذي كان في غيبوبة، لكنه كان يحس احيانا ولا يستطيع الكلام، كنت رأيت عينيه اغرورقتا بالدموع حين قلت له “أنا علي يا أبي”.
كان الألم والحزن والفجيعة تتكاثر في روحي، وكان النشيج يصعد في الدموع، وكان الصمت معتما تماما، مثل ليل مقدود من جبال الأبد، وكان الموت ايضا صاعقة هوت في اليوم الخامس بعد وصولي الى الاردن. وكانت الفاجعة اكبر من الابجدية.
وهكذا رحل أبي. لقد اختطفه طائر الموت بجناحيه من بيت العائلة، في السابع والعشرين من مارس/آذار الماضي. وهكذا تكاثرت العتمة على درجات البيت وفي داخله وعلى الوسائد وفي الطريق الى اشجار الزيتون التي وقفت صامتة أمام البيت حدادا على رحيل والدي ووالدها ايضا. وصار الطريق الى المزرعة المحاذية لنهر الاردن موحشا، وكانت اشجار البرتقال تجوح والارض أطفأت ازهارها والربيع ارتدى السواد.
هكذا، الموت مرة أخرى يقف ويقطف ويمضي مخلفا وراءه غبارا معتما. هكذا لا يتأنى ولا يتردد ولا يعي معنى الفاجعة التي يحفرها في أرواحنا الموشومة بالفقدان تلو الفقدان.
وبعد ايام، يأتي اتصال من السفارة اليمنية في عمان يحدد موعد السفر الى صنعاء. ران الصمت، ثم تذكرت الحلم القديم وموعد توفيق الزكري، وتذكرت الاصدقاء الشعراء اليمنيين الذين عرفتهم في سنوات سابقة خلال مشاركاتهم في مهرجان جرش للثقافة والفنون وملتقى الفينيق الشعري ومهرجان الفحيص ومهرجان عرار وغيرها من المهرجانات الثقافية العربية، ومن بين هؤلاء الاصدقاء، شوقي شفيق ومحمد حسين هيثم وهدى ابلان وابتسام المتوكل وهزاع مقبل واحمد العواضي، وحسن اللوزي الذي كان سفير اليمن لدى الاردن وكان له حضور ثقافي متميز طوال فترة عمله في السفارة، فقررت السفر، حيث لملمت أوراقي وبعض ملابسي في حقيبة زرقاء صغيرة وفي الحادي عشر من ابريل/نيسان الماضي، انطلقنا أنا والشاعر جهاد هديب الى مطار الملكة علياء في عمان، ومن هناك حملتنا طائرة “الخطوط اليمنية” الى العاصمة السورية دمشق، وعندما هبطت الطائرة على مدرج المطار قلت لصديقي جهاد ان قائد الطائرة بارع، حيث كان هبوطا ناعما.
الطائرة بقيت رابضة في أرض مطار دمشق ساعتين تماما، منهما ساعة لإصلاح جهاز الحاسوب في احد اجزاء الطائرة كما اعلن احد طاقم الطائرة. وهناك، بدأ المسافرون الجدد يدخلون الطائرة، فلمحت الشاعر لقمان ديركي وهو صديق قديم لكنه متجدد دائما، ثم توالى الآخرون، وعرفت من بينهم الشاعرة العراقية الهادئة كولالة نوري، ثم تعرفت الى الشاعر والصحافي العراقي علي حبش صاحب الروح الفكهة، وهو احد مراسلي جريدة “الخليج”.
لقد كان الوفد العراقي متعبا، إذ قال علي حبش انهم سافروا من بغداد الى دمشق بوساطة حافلة مملة، استغرقت الرحلة نحو 30 ساعة، وكان يعرض في الحافلة فيلم مصري وحيد ظل يدور ويدور طوال مسافة الرحلة.
بعد الساعتين من الانتظار والحرمان من التدخين، اقلعت الطائرة بهدوء، واستغرقت الرحلة الى صنعاء نحو ثلاث ساعات، كانت خلالها فكاهات ديركي وحبش تتقافز بخفة بين المقاعد، وكنت اطل عبر زجاج النافذة الصغيرة في الأعالي وأتأمل المشاعد العجيبة التي تشكلها الغيوم التي تبدو تحت الطائرة بكثير. لقد كنت انظر بعين الطائر الى ما يشبه الحلم. حيث الطبيعة تحلم مثلنا ايضا، وتكتب القصائد بطريقتها. ابجديتها من غمام ودفاترها من هواء وسماء.
وكان المشهد الأكثر ادهاشا، ما رأيته فوق اجواء البحر الاحمر. انه مشهد غرائبي يتداخل فيه الغيم بألوانه المتعددة وكتله المتراكمة مع أفق ذي زرقة غريبة يرافقها خيط ارجواني، كما لو أنه من كوكب آخر. وقد اصابتني الدهشة. وأنا ارقب مسرح الاعالي، فتناولت آلة التصوير والتقطت عددا من الصور لهذا العرض السحري.
وقبل الوصول الى صنعاء، كان الليل قد بدأ ينسج سجادته. بعد ذلك هبطت الطائرة في أرض مطار صنعاء، وكان المطر أول المستقبلين لنا. وكانت ال “مرحبا” مطرا في المطار، ومطرا أينما حللنا.
في ذلك المساء الصنعاني، هبط من الطائرة ثمانية شعراء من سوريا والعراق والاردن، وهم لقمان ديركي وبهية مارديني وايمان ابراهيم وكولالة نوري وداليا رياض وعلي حبش وجهاد هديب وأنا. وعندما دخلنا قاعة المطار، استقبلنا بحفاوة كبيرة عدد من اعضاء اللجنة التحضيرية لملتقى صنعاء الشعري، منهم الشاعران علي المقري ونبيل سبيع، حيث انجزوا المعاملات المطلوبة بسرعة، ولم تفارق الابتسامة وجوههم الطيبة.
بعد ذلك، انطلقت بنا الحافلة الى فندق “حدة” الذي تحول الى ملتقى يومي للمشاركين من شعراء ونقاد وضيوف، وكانت الحلقات الليلية تدور بحضور الشاعرين الجميلين قاسم حداد وحلمي سالم. فتتواصل القراءات الشعرية كأنها امتداد أو تعويض من الوقت المحدود للقراءة خلال جلسات الملتقى التي عقدت في المركز الثقافي وجامعة صنعاء.
في بهو الفندق، وفي مساء افتتاح الملتقى الشعري كانت سعادتي كبيرة بالتعرف الى الشاعر والكاتب الساخر عبدالكريم الرازحي. ولكن كانت هناك حلقة “شبه مفقودة” نتيجة لتحديد اقامة المشاركين العرب في فندق “حدة” واقامة المشاركين اليمنيين في فندق “سام”، ما قلل من فرص التواصل والحوار بصورة عامة. ولكن الاهداءات المتبادلة للكتب بين الشعراء جاءت لتأكيد أهمية التواصل والاطلاع على التجارب الشعرية المتنوعة في الوطن العربي.

جولة أولى
في الثاني عشر من ابريل/نيسان، نظم الملتقى للمشاركين الذين وصلوا جولة في صنعاء القديمة ذات البيوت المطرزة والاسواق الشعبية الساحرة، عبرنا من جهة منطقة “السائلة”، لندخل في زمن آخر من الدهشة امام عبقرية الانسان اليمني وجنونه بالجمال واهتمامه بالتفاصيل المعمارية التي تتحاور فيها مفردات عربية تعود الى ما قبل الاسلام مع مفردات اسلامية ومن عصور لاحقة.
صنعاء القديمة قصيدة معمارية لا مثيل لها، وهي متحف حي، لا يزال الاهالي يقيمون في تلك البيوت المتراكبة في جمالية فريدة، ولا يزال الاطفال يلعبون في الازقة، ولا تزال الابواب الخشبية المنقوشة تحكي سيرة الاسطورة والضوء والالوان والدهشة.
كنا نسير كما لو اننا مسرنمون، نمشي في حلم متواصل بخيط من السحر. نعبر في الشوارع، وتمر العربات والمركبات والدراجات النارية من بيننا، لكن عيوننا كان تحت تأثير الذهول الذي يتقطر من “القمريات” التي تشبه اكاليل الفصول الاربعة فوق النوافذ.
وكانت اشعة الشمس الرحيمة تمسح القباب بيدين من رهافة ولطافة.
وجوه عربية تماما، تضيء الطيبة قسماتها، على الرغم من تعب الحياة.
مشينا ورأينا ودخلنا في ازمنة اخرى. هنا نقش يومض، وهناك تترجرج عتمة خفيفة وتتمايل مثل منديل فتاة على حبل غسيل. هنالك مئذنة منحوتة بحروف عربية واشكال هندسية دقيقة. وعلى مسافة قريبة “ماء سبيل” يترقرق في حفنة صبي داهمة العطش، فلجأ الى تحفة الماء، فالعين تشرب قبل الفم ايضا.
وعندما وصلنا الى سوق الخرز والحجارة الكريمة، كان العقيق اليماني يتباهى في الضوء ويتزوج الفضة. صعدنا درجات المبنى القديم الى السطح، ومن هناك كان المشهد يعطي نفسه لنا رويدا رويدا. بيوت متآخية وغيوم تلمس المآذن الصاعدة في زرقة المطلق، واشجار تتنفس في الحدائق، والاعالي تشبه شهقة البخور امام المستحيل. مشينا حتى “باب اليمن” الذي لا يزال يسرد حكايته منذ “سام بن نوح” الذي تسمى صنعاء القديمة باسمه، كما تسمى “أزال” نسبة الى “ازال بن يقطن بن عابر”.
وصنعاء القديمة اقدم مدن الكوكب، هي موسيقا معمارية بين قوسين جبليين هما “نقم” و”عيبان”، وتقع على ارتفاع 2200 متر فوق مستوى سطح البحر.
وخلال الجولة رأينا الدهشة منثورة في الطرقات وواجهات، وكان الصديقان الشاعران طالب العمري واسحاق الهلالي يبحثان في النقوش.
كل ذلك، ولكن ثمة ما هو اكثر لم اعايشه ولم اشاهده بعد. كانت الجولة الاولى فاتحة اولى لشهوة التأمل والسفر داخل الازمنة. وكنت قد توصلت الى ان “ازال” زهرة الهندسة لا تتفتح كاملة دفعة واحدة، فهي عروس الازل وسادنة الأبدية، ومن بين يديها يتقطر الدهر المذهب. ثمة غموض دائم يتسرب من شالها وهي ترشق “القمريات” بأقواس قزح. لذلك بيّت ضوء النية لجولة معايشة فردية.
انتهت الجولة الجماعية، وخرجنا من “باب اليمن”، كما لو اننا اجرينا تمرينا في السير بالاتجاه المعاكس للزمن. وكان الصديق عبدالوهاب مزارعة الذي درس في الاردن، ويعمل في صحيفة “الثورة” اليمنية قد اتصل بالشاعر اليمني الذي يعمل في الولايات المتحدة عبدالناصر مجلي ورتب معه عملية “اختطاف احتفائي” لي وللصديق جهاد هديب. ووصل عبدالوهاب في نهاية الجولة الجماعية، واصطحبنا الى بيته، حيث كانت زوجته قد اعدت لنا طعاما يمنيا بامتياز، تضمن “السلتة” الأكلة الأكثر شعبية في اليمن، وفتة الموز واللحم والارز، اضافة الى اصناف اخرى لذيدة.
أكلت بشهية استثنائية ايضا، لأنني مغرم بالأكلات الشعبية اليمنية، ومنها “المندي”، حيث كنت أكلته في مطعم يمني في مدينة العين في الامارات في الثمانينات، ثم في مطعم يمني في مدينة صويلح في الاردن. واثناء اقامتي الثانية في الامارات خلال السنوات الاربع الماضية، كنت “اتمندى” في الشارقة ودبي.
في بيت عبدالوهاب، جلسنا قليلا، ثم نهضنا أنا وعبدالناصر نقرأ عناوين الكتب في الرفوف، وبعدما “اصطاد” عبدالناصر عددا من الكتب التي تهمه في عمل بحثي في امريكا، استأذن مضيفنا بأخذها، على ان يردها اليه، ربما في زمن لن يتحقق!
عبدالناصر مجلي الذي غاب عن اليمن تسع سنوات في تلك البلاد التي تسعى الى فرض هيمنتها عبر “عولمتها” وعسكرها على العالم، قال ان اسعار الكتب في امريكا “نار”، خاصة الكتب العربية أو المترجمة الى العربية.
خلال الجلسة تعرفنا الى طفلين رائعين هنا ابنا عبدالوهاب اللذان كانا مثل فراشتين وكان حنان البيت حديقة. تحدثنا وشربنا القهوة التي دار بها شاب من عائلة عبدالوهاب.
وكان الطفلان قد احضرا دفتراً وألواناً. وفي ختام الزيارة رسمت لهما زهرة قرنفل بمثابة تحية قلبية الى البيت العامر بالطيبة
نقلاً عن الخليج الاماراتية








أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "ثقافة"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024