السبت, 20-أبريل-2024 الساعة: 02:41 ص - آخر تحديث: 04:17 ص (17: 01) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
كتب ودراسات
المؤتمرنت / هشام علي -
صورة الشرق المتخيل في قصيدة الشرق الجديد
تحاول هذه القراءة النقدية أو الثقافية بمعنى ما، أن تحقق جملة من الاختيارات القرائية، التي تصب في اتجاه إستراتيجية معينة للقراءة، بل إستراتيجية للتأويل، واختلاف القراءات ينشأ من اختلاف التأويلات واختلاف استراتيجيات التأويل، بحسب تعبير الناقد أمبرتوإيكو، الذي يرى أن ثبات التأويل أو اختلافه إنما يكمن في استراتيجيات التأويل أكثر مما هو كامن في النص.
إن القارئ لا يبدأ القراءة ورأسه صفحة بيضاء، بل إنه يقرأ وهو منطوٍ على "قبليات قرائية" يسميها الناقد الأمريكي "ستانلي فيش" باستراتيجيات التأويل، وهذه الاستراتيجيات لا توضع موضع التنفيذ بعد القراءة، بل هي هيكل القراءة، وهي تمنح النصوص أشكالها، وتصنيفها أكثر من كونها تنشأ عنها، كما هو مفترض غالباً.
وهذه الاستراتيجيات تعيد كتابة النص من جديد في الوقت الذي تقرأه، وهذه المسألة تثير عدداً من القضايا المرتبطة بالنسق الثقافي والشروط التاريخية المحددة للنص، وكذلك بقصيدية النص ودلالاته.
ينتج النص في سياق محدد، وبقصيدية معينة، غير أنه يهاجر ليتفاعل مع سياقات أخرى، ومع قراء مختلفين،يؤول كل منهم النص بحسب مقاصده وغاياته وعالمه التاريخي الخاص.
والقصيدة التي تحاول قراءتها، تنتمي إلى هذا التراث النصي الذي عانى من اختلاف التأويلات وتعدد الانتقادات والقراءات.
ربما لا تحقق القصيدة وحدها،هذا الاختلاف في التأويل، ولكنها - بما تتضمنه من محتوى تراثي سردي، أو ما تقوم على أساسه إنشاء أو إعادة إنشاء - يستدعي ذلك التراث من اختلاف القراءات والتأويلات، ويستدعي كذلك القراءات المغلوطة، التي لم تنتج عن اختلاف السياق الثقافي وحسب، بل نتجت عن شكل من أشكال الهيمنة والإلغاء للآخر، وصورته الثقافية والسردية.
والقصيدة التي نحاول قراءتها، هي قصيدة "الشرق الجديد" للشاعر لطفي جعفر أمان، وهي إحدى قصائد ديوانه الثاني "الدرب الأخضر" وتنتمي القصيدة إلى الشكل المباشر في الكتابة الشعرية، فهي تعلن عن أسمائها ومكنوناتها ومعانيها بشفافية ووضوح، إلا أناه تخفي وراء تلك المعاني الواضحة، تراثاً ثقافيا هائلاً، يفتح مداخل عديدة للقراءة كما أنها، رغم - اعتمادها على التراث السردي الشعبي، ببساطته ومباشرته - يمكن أن تكون ميدانا لاستراتيجيات التأويل، بكل احتمالات الاختلاف في القراءة وفي التأويل. إن بساطة القصيدة من حيث الشكل، ومن حيث المعنى الخطي الناشئ من القراءة الأفقية لا يمنع من تدبير قراءات أخرى مغايرة، تفتح النص على محمولاته الموروثة، وعلى أنساقه المعرفية، وعلى سياقه التاريخي أيضاً، يقول ادوارد سعيد "في قراءة نص ما، ينبغي على المرء أن يفتحه لما اندرج فيه ولما أقصاه مؤلفه عنه أيضا، إن كل عمل ثقافي هو رؤيا للحظة ما، وعلينا أن نقحم هذه الرؤيا تجاورياً مع الرؤيا التنقيحية المتنوعة التي استثارتها فيما بعد".
تتكون القصيدة من خمسة مقاطع، تعبر في مجملها عن رؤية معينة للشرق، وتحاول أن تنشئ رؤية نقدية مغايرة، وهي تستعين بتراث السرد، منظور إليه بعين الآخر المستعمر، وبالمخيلة التي تشكلت وفقاً لتلك الرؤية،وفي الوقت نفسه، تقيم القصيدة حواراً نقدياً مع الغرب، وعلى وجه التحديد، مع فكر الاستشراق المكونة للشرق المتخيل على أنه عالم من عوالم ألف ليلة وليلة السحرية والغرائبية، وبكل ما تصوره من عالم الحريم والغلمان والعبيد. والشاعر وهو يفكك تلك الرؤية الاستشراقية عن الشرق، يحاول أن ينشئ سرداً مختلفاً، يعبر عن التحرر وعن التكون الوطني للمجتمع، أو أنه يستعيد ذلك التراث السردي وفقاً للمخيلة الشعبية، كما ترويه الجدات في حكاياتهن.
عاش الشاعر لطفي جعفر أمان في مدينة عدن، في مرحلة الاحتلال البريطاني، ونشأ ثقافياً في ظل الثقافة الاستعمارية المهيمنة، التي كانت تعمل على تنشئة جيل من المتعلمين من أبناء المدينة، الذين يعرفون فقط، كيف يقولون "نعم" باللغة الإنجليزية، ولا يستطيعون التعبير عن الرفض أو قول كلمة "لا"، حسب وصف الطيب صالح لبطل روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" لكن منطق التاريخ يعلمنا أن من تعلم كلمة "نعم" يستطيع اجتراح الرفض وإعلان "لا" في وجه تلك الثقافة الاستعمارية المهيمنة.
ففي أوج الرفض الشعبي للاستعمار، والثورة على أنظمته، بدأت محاولات تأسيس خطاب ثقافي مغاير ومناهض لذلك الخطاب الاستعماري، وقد تزامن ذلك الخطاب التحرري مع الخطاب الوطني العام، المناهض للحكم الإمامي المستبد في شمال اليمن ومع الخطاب القومي التحرري الذي امتد في البلاد العربية كلها.
تضعنا القصيدة أمام صورة متخيلة للشرق، أنشأها الخطاب الاستعماري الاستشراقي، هذه الصورة تنبعث من حكايات ألف ليلة وليلة، مؤولة ومستعادة وفقاً لذلك المنظور الاستشراقي، أو المنظور الغربي بشكل عام، الذي يمنح نفسه الحق في فرض منظومته المعرفية على الآخر، ومحو هويته الثقافية والتاريخية، وكذلك وضع وجوده موضع القلق والسؤال.
ويرى هو من باب أن مشكلة الهوية، في النص ما بعد "الكولونيالي" تعود بوصفها مسألة مستمرة للإطار،ولفضاء التمثيل، حيث تواجه الصورة الشخص الضائع، والعين الخفية، والصورة النمطية الشرقية باختلافها، بآخرها.
وهو في باب الذي ينطلق في مناقشته لقضية الهوية، أو علاقة الذات والآخر، من نصين شعريين، يطرحان قضية ضياع الهوية أو اختفاء صور الذات عند شاعر هندي وفي مشهد امرأة سوداء مهاجرة.
"إن ما يتجسد على نحو بالغ الحيوية في لحظة التعيين الكولونيالي للهوية هو انشطار الذات في المكان التاريخي الذي تطلق منها تلفظها:
"ما من شيطان.. /أو جنجان/ سوف يحضره أمامك/ ولكي ترى رجلاً خفياً أو شخصاً ضائعاً/ لا تثق بأي أدب إنجليزي).
إن ما يضفى عليه طابع درامي في هذه الضروب المتكررة في نفي الهوية، في حذفها العين المبصرة التي يجب أن تتأمل فيما هو ضائع أو خفي، هو استحالة ادعاء أصل للذات أو للآخر ضمن تقليد يتصور الهوية على أنها الإشباع الذي يوفره موضوع رؤية كلي وتام. فمن خلال الإحاطة باستقرار الأنا، الذي يعبر عنه بالتكافؤ بين الصورة والهوية، يعمل فن الاختفاء السري الذي تتكلم عنه الشاعرة المهاجرة على تغيير حتى الحدود والمصطلحات التي ندرك الشخص من خلالها".
الاختفاء أو الغياب يصبح شرط حضور الذات والإحاطة بها، فحذف العين، الممثل في سرد من النفي والتكرار يلح على أن عبارة الهوية لا يمكن التلفظ بها.
وفي قصيدة "الشرق الجديد"، يبدأ لطفي أمان بإعلان الرفض لتلك الصورة المتخيلة للشرق، تلك الصورة التي كونها الاستشراق والتي حملت نوعاً من العمى أو النفي للشرق الحقيقي والواقعي، وشكلت صورة أخرى للشرق، خارجة من مكتبة الاستشراق ومطابقة للوحات الفنانين الأوروبيين الذين صوروا الشرق بعيونهم، التي حملت مخزون مكتبة الاستشراق ولم تر الشرق الحقيقي.
ترفض القصيدة هذه الصورة المتخيلة للشرق، الخارجة من أساطير ألف ليلة، وليلة، وترفض أيضاً - من موقع نقدي حاد - النص السردي الذي خرجت منه أو التي أنشئت تلك الصورة على أساسه.
تبدأ القصيدة بالنفي والإنكار، والشاعر يرفض تلك الصورة التي انشأها الغرب، يرفض الشرق الخارج من مخيلة الغرب، الصورة التي انتهكت حضور الإنسان الشرقي، وجعلت مكان تسيده وحضوره، هو في الآن نفسه، مكان غيابه، أو مكان إعادة حضوره أو تقديمه - حسب رأي هومي بابا، الذي يفكك كلمة "تمثيل" الإنجليزية، لتصبح بمعنى إعادة حضوره أم تقديمه، لتصبح بمعنى إعادة الحضور أو التقديم (re- presentation) إن ما يرفضه لطفي أمان هو هذا التقديم أو إعادة الحضور للشرق الذي يفرضه الغرب وفقاً لعينه التي لا ترى الواقع بل ترى صورة أخرى متكونة في المخيلة:
لا.. ياصديقي الشرق ليس كما ترى
بلد الأساطير العجيبة
بلد الحكايات الأنيسة..
والخرافات الغريبة
الشرق هذا لم يعد عبداً
لأوهام مريبة
فلربما أسطورة سلخت
من التاريخ مهلةً
دارت على الأجيال
توهم أن هذا الشرق كله، أسطورة من ألف ليلة!
الشرق الأسطوري الخرافي الذي يرفضه الشاعر أو يدعو صديقه لإنكار الصورة السائدة عن الصورة المغتربة أو الاغترابية التي تمحو الذات الشرقية وتشوهها وتعيد تشكيلها وفقاً لخدعة ثقافية تخفي في ثناياه حقيقة الثقافة المهيمنة التي ارتبطت بالاستعمار، والتي همشت الآخر وأصبغت عليه مختلف الصفات الدونية الروائية.
ولعل الوعي الوطني المبكر، المعارض للاستعمار دون استيعاب، كان للهيمنة الثقافية الاستعمارية، جعل الشاعر يخفق في تطوير هذه الرؤية الرافضة للصورة الاستعمارية، صورة الشرق العجائبي، بحيث لا يقتصر في عملية الاستكناه على ظاهر الصورة الخادع، بل يمتد ليشمل المكان الخطابي والمعرفي الذي تطرح منه أسئلة الهوية على المستوى الاستراتيجي والمؤسساتي.
على العكس من ذلك، نجد أن الشاعر يقع في حبائل تلك الصورة المتخيلة، وأن حديثه عن تحرر الشرق من الأوهام، ليس سوى تسليم بحالة العمى الغربي، وخضوع لمكر الكتابة الاستشراقية وخداعها.
فهو يُحمّل حكايات ألف ليلة وليلة مسؤولية هذه الصورة المتخيلة للشرق، فهذا النص السردي الذي ظهر في شرقنا، في غفلة عن الزمن، أصبح صانع تلك الأساطير الشرقية العجيبة، التي شكلت بدورها صورة الشرق في المخيلة الغربية، وعوالمها المليئة بالأمراء "الجواري والبخور" وبأجواء الجنس والرقص والغناء.
يُغفل الشاعر الوجه الآخر للصورة، أي دور الغرب وثقافته في تكوين تلك الصورة للشرق، وربما أن اكتشاف هذه العلامة كان مبكراً أو مستحيلاً، حيث كان التحرر من الاستعمار هو المسيطر على الوعي الوطني، أما تفكيك الخطاب "الكولونيالي" وتصفية استعمار العقل، فأمر لم يدخل في منظور الوعي الوطني آنذاك، ليس في اليمن وحسب، بل في مختلف بلدان العالم الثالث وقد احتاجت الثقافة الإنسانية إلى نحو عقدين من الزمن، بعد ظهور هذه القصيدة لتشهد ولادة الفكر النقدي للاستشراق، حيث كشف إدوارد سعيد في كتابه الهام "الاستشراق" أن الشرق في وعي الغرب، كان لفظه تنامى لها فيما بعد حقل واسع من المعاني، والترابطات والتضمينات، وأن هذه جميعاً لم تكن تشير بالضرورة إلى الشرق الحقيقي بل الحقل المحيط باللفظة.
بين "سعيد" أن الغرب تصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً، فوقياً، متجذراً في القوة واتحاد القوة بالمعرفة، والإنشاء الذي ولده ذلك كله
وبسبب تأخر الوعي الوطني، والعجز عن اكتشاف العلاقة بين تلك الصورة المتخيلة للشرق وبين الاستعمار وثقافته المهيمنة، فإننا نجد أن القصيدة في تقدمها لا تزال موزعة بين فضاءات متناقضة ومتقاطعة والشاعر يظهر واقفاً في المكان الذي تنشأ فيه تلك الصورة النمطية للشرق، الذي تمحي فيه أيضا.
إن خطابه لذلك الصديق الغائب يبدد خطاباً مفارقاً، إذ أنه خطاب ممزق بين دفاتر الاستشراف التي كونت صورة متخيلة للشرق، دونية وساخرة، وبين صورة الشرق الطالع من الكتب السردية الخالدة ألف ليلة وليلة، التي تبدو في رأي الشاعر شبيهة بتلك الصورة الاستشراقية. إن ما يفعله الشاعر هو الالتفاف إلاَّ أن هذه الصورة الخارجة من تراثنا السردي، ليست صورة من صنعنا، ولكنها صورة مصنوعة من قبل الآخر، وهذا ما اكتشفه إدوارد سعيد لاحقاً حين قال: إن الشرق لم يوجد الا كجماعات تأويل، يصبغ عليها التأويل الغربي وجودها، يقترح "هو مي" باباً، إزاء هذا الفضاء المتناقض والمفارق، الذي يقع فيه ذلك الوعي القلق للهوية، أن يتأسس فضاء للكتابة، يتحول فيه إطار الهوية من حقل للرواية إلى فضاء للكتابة يستنطق البعد الثالث الذي يسبغ عمقاً على تمثيل الذات والآخر، وهنا تظهر الحاجة إلى إعادة نقش الهوية بضمير المتكلم، لا بضمير الغائب الذي يعبر عن الآخر، الذي يراني بعينه ووفقاً لمعاييره وأنظمته المعرفية والثقافية.
ينتقل الشاعر في المقطع الثاني في القصيدة إلى فضاء آخر، مبتعداً عن الإطار الخارجي للصورة، ومتعمقاً في تشكيلاتها الجوانية، حيث تظهر لحظة أخرى تغدو فيها الحاجة لتعيين الهوية إجابة عن أسئلة أخرى تتعلق بالتاريخ والسياسة، وحيث تتكشف لحظة أخرى للسرد، تنطلق من الذات وتعبر عنها.
يرفض الشاعر الصورة المكونة أو المؤولة لتاريخ الشرق، الصورة الموزعة بين قصور الترف والمليئة بالقيان والجواري والعبيد. ثمة صورة أخرى للشرق، صورة واقعية بعيدة عن ذلك الخيال الساحر، الذي رضعناه أطفالاً، وعشنا انكساراته ومعاناته، بعد أن تبدد سحر ذلك الخيال وانكشف الواقع للإسفار عن عنف ذلك الآخر الذي عصف بكل أشياء الواقع التي تداعت وتقوضت، أو عبثت كذلك بمخيلتنا:
أمي أنا
هذي التي انحدرت من الشرق القديم
كانت تمد على طفولة خاطري
الظل الرؤمْ
وأمومة القلب الرحيمْ
وتلم من حولي الرفاقْ
تلقي حكايتها علينا
من خيالات رقاقْ
عن ذلك الفرس المجنح
وهو منطلق يطير
وزواجه في زفة البلدان
من بنت الأمير
حتى إذا مات الأمير..
وليس يخلفه أميرْ
عرضوا على الفرس المجنحِ
أن يكون هو الأميرْ
تأصيل إنسانٍ
كأجمل ما يكون به الأميرْ
وأنا.. ومن حولي الرفاقْ
نصغي.. ونحتك التصاقْ
ونكاد نأكل ثوبها الضافي
على طرف السريرْ
نصغي لصوت الشرقِ
سحر الأساطير العجيبة
متسلسل الإلهام..
يعبق بالحكايات الغريبةْ
كان الشرق الخارج من الحكايات الخارقة ساحة للخدر وميداناً للخوف الطفولي والقلق على ذلك ألأمير الذي يختفي، ليظهر مكانه ذلك الفرس الأسطوري المجنح.
اختفاء الإنسان البطل أو الأمير عن شرقنا وعن حكاياتنا، كان تعبيرا عن ذلك الانكسار الذي لحق بتاريخ ذلك الشرق، الذي راح يبحث عن أبطاله في الأساطير والمخلوقات العجيبة. وكانت الأم تنحدر من ذلك الشرق، وتحمل ميراثه السردي، ولذلك ظلت تحكي لنا كيف اختفى الأبطال.
وكدأب القصيدة في ذكر أو تصوير فضاءين متناقضين، أو تصوير لحظتين متضادتين: حضور الهوية واختفائها، تقوم بوصف موضع آخر للذات، يعلن حضوره بالتمرد على تلك الصورة المتخيلة، وعلى ما يقابلها من سلطة استعمارية كسرت مخيلة الطفولة بكل سذاجتها ورعبها، وأحلت مكانها رعباً حقيقياً ودماراً هلائلاً يفوق الموصوف.
وكما دمر الأعداء الديار وقتلوا من فيها، تتغير حالة اللحظة السردية لتلك الأم، ويكتسي السطح الشرقي القديم رؤية أخرى واقعية، ليس هدفها تخدير الأطفال وتغذية مخيلتهم ببطولات وهمية خارقة، بل هي تدعوهم لليقظة والثأر من الأعداء الذين يحتلون الوطن:
أمي..
أجل هذي التي انحدرت
من الشرق القديم
اليوم تصرخ في الشبيبة
حين جار على الديارْ
المجرمون
الكافرون بغير أسلحة الدمارْ
المغرقون حقولنا الخضراء
في وحلٍ ونارْ
أمي تزمزم كالرياح
العار لو وطني يباحْ
تتغير طبيعة السرد وغاياته بولادة حالة جديدة في الشرق، وظهور أبطال حقيقيين، فحركة التحرر ومناهضة الاستعمار تشق طريقها إلى الوعي الوطني وتخلق حالة سرد مختلفة وجديدة، فالتحرر هو صناعة أرواح جديدة، كما يقول "فرانز فانون" هذه الأرواح الجديدة هي التي ينبئ بظهورها الشاعر لطفي جعفر أمان في خاتمة القصيدة:
الشرق هذا
لم يعد عبداً لأوهام مريبةْ
الشرق قد أضحى حقيقةْ
ويشق وثاباً طريقةْْ
ويمد عبر غدٍ
إلى الأجيال
مؤتلقا شروقهْ
بعد هذه المحاولات التدريبية، لاختبار قراءة نابعة من داخل النصر وخارجه أيضا، قراءة تعتبر هوامش اللحظة التاريخية لنشوة القصيدة والوعي الوطني الذي تعبر عنه وقد لاحظنا أن الشاعر وهو ينقش صورة جديدة للشرق، إنما كان يرسم صورة للتحرر من الاستعمار، مخالفاً بذلك الرؤية السائدة للشرق كنقيض للغرب، بكل الثنائيات المتقابلة التي نعرفها، رأى انه اخترق بهذا الحس الشعري والوعي النقدي، الشرخ الوهمي بين الشرق والغرب.
ولعل القارئ يسأل، هل يمكن أن يكون كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد خلفية ثقافية أو مرتكزاً لقراءة نص شعري كتب في مطلع الستينيات من القرن العشرين.
لقد أشرت في بداية هذه القراءة، إلى ملاحظة لإدوارد سعيد نفسه، تحدث فيها عن ضرورة أن نفتح نصاً ما، لما أندرج فيه ولما أقصاه مؤلفه عنه، وهو ما حاولنا أن نقوم به في هدف القراءة. ولا ننسى كذلك، أن كل قراءة لنص معين، هي إعادة كتابة، أو ولادة جديدة لذلك النص، أو عودة جديدة للمعنى حسب قول "رولان بارت" إن النص يشتمل دائماً على معنى، لكنه يشتمل بكيفية ما، على عودات للمعني - فالمعنى يجيء ويذهب، ويعود على مستوى آخر وهكذا، ويكاد يتحتم علينا بصورة نيتشوية هي صورة العودة الأبدية للمعنى، إنه يعود، لكن كاختلاف وليس كهوية.
وقد وجدنا في شعر لطفي أمان وفي ثقافته بشكل عام، ما يسمح لنا بمثل هذه المحاولة. لقد حمل لطفي جعفر أمان وعياً وطنياً متقدماً وإحساساً دقيقاً للهيمنة الاستعمارية والثقافية وبعوامل تكييف الهوية الثقافية الوطنية، وقد تمثل ذلك في رومانسيته المتمزقة بين الوعي الوطني بكل التزاماته التاريخية ومشاكله الواقعية، وبين تأثير الرومانسية الغربية ووسائطها العربية والصوفية،، وهو ما بيناه في دراسة سابقة، كذلك نكتشف ذلك الوعي الوطني المبكر في قصيدة لطفي عن شارع البيكاديللي في لندن.
ولذلك نقول: إن قراءة مغايرة للإستشرق، يمكن أن تكون أحد الاحتمالات الأكثر تعبيراً عن هذا الشاعر، الذي ساعدته معرفته العميقة بالثقافة الغربية، على نقد تلك الثقافة وتفكيكها، أو على وجه الخصوص، تفكيك ما حملته من رؤية عن الشرق، عن الآخر الذي كانت ترفض رؤيته الحقيقة، لتنشئ رؤية متخيلة عن ذلك الشرق.
وقد ربط لطفي هذه الرؤية الجديدة للشرق، بالتحرر الوطني، أي بعملية صناعة أرواح جديدة - حسب تعبير "قانون" الذي أشرنا إليه من قبل.
ولعل لطفي أمان في استيعابه لروح قصيدة" الشرق الجديدة" في قصيدة" يا بلادي" وهي قصيدة وطنية صريحة، إنما يؤكد تلك الصورة الجديدة للشرق التي تتكون أثناء التحرر الوطني:
يا بلادي لم أعد أسطورة في الكتب
لم أعد من " ألف ليلة" ليلة من عجب
لم أعد انقاض مجد في ضمير الحقب
لم أعد أدفن دمعي في رغام الغيهب
لم أعد طيف خيال بالرؤى مختضب
أو أنينا راعف الجرح بصدر مجدب
أو نشيدا مخجلا يضحك منه الأجنبي
أشرق المسعى.. فللنور شذى من مطلبي
والسنا يغمر أفقي وطريقى الذهبي










أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "كتب ودراسات"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024