الأحد, 28-أبريل-2024 الساعة: 11:29 م - آخر تحديث: 11:25 م (25: 08) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
ثقافة
المؤتمر نت - .

جودت فخر الدين -
من عاصمة حضرموت الى واديها... رحلة في أعماق التاريخ
إنها المُكلاّ، عاصمة حضرموت. كان وصولنا إليها في الصباح. جئنا بالطائرة من صنعاء. وما ان أقلّتنا السيارة حتى انكشف امامنا الامتداد الطويل لهذه المدينة الساحلية. قال رفيقاي في الرحلة، شوقي عبدالأمير وعبدالسلام منصور: «إن المكلاّ تمددت كثيراً، وإن الأبنية الجديدة راحت تهدد طابعها التراثي، هما يعرفانها من قبل، ولم يعجبهما ان تنمو وتتوسع على نحو عشوائي، وراحا يعدانني برؤية المكلاّ القديمة التي كنا سنبلغها بعد قليل.

قبل وصولنا الى المدينة الأصلية، مررنا بما يشبه النهر الذي أقيمت عليه الجسور الحديثة. قال لي رفيقاي: إنه «الخور»، أي انه لسان بحري في داخل المدينة. وقالا: إنه كان قديماً مكباً للنفايات. إذن، تطوّرت المدينة. وها هي المقاهي والأرصفة على ضفتي الخور، إنها معدّة لمتنزهي المساء. ما هي إلا دقائق، حتى انكشفت لنا المدينة القديمة، انكشفت لنا بيضاء... بيضاء... بيوتها المبنية بالطين، والمدهونة باللون الأبيض، محشورة بين الجبال والبحر. تلك الجبال ذات اللون البني، تقف عالية جرداء على مقربة من الساحل. تستند إليها البيوت، ثم تنظر الى المياه الزرقاء ببياضها المشرق، وكأنها تتأمل في البعيد، على نحو هادئ حالم.

قلتُ لرفيقيّ في الرحلة: هذه هي المفاجأة الأولى في زيارتنا لحضرموت، التي سنذهب الى واديها في اليوم التالي. لم أكن أتوقع ان أرى مثل هذه المدينة. إنها من اجمل المدن التي رأيتها في اليمن، البلد الذي زرته مراراً، وتجوّلت في انحائه، وكنت دائماً أمنّي النفس باستكمال معرفتي به عند زيارتي لحضرموت. جئتُ مفعماً بالأفكار والأماني والتصورات والرؤى. ولكنني، مع ذلك، فوجئتُ بما رأيت. كان بياض المدينة القديمة مشعّاً على نحو باهر. وكان منظر الميناء المملوء بمراكب الصيد يرمز الى العراقة التاريخية لهذه المدينة، التي لاحت لي منهكة من طول ما سافرتْ في الماضي، ومن طول ما انتظرتْ في الحاضر، ومن طول ما تطلعتْ الى الآفاق البعيدة. المباني والشوارع منظّمة على نحو لم أر مثله في مدن اليمن التي عرفتُها. الشوارع التي تتفرّع من الأوتوستراد الساحلي في اتجاه المدينة تتلوى بين البيوت لتنتهي عند سفوح الجبال. لم يعكّر صفاء هذا المشهد التراثي الجميل سوى بيوت قليلة من طراز مختلف في البناء. إنه الطراز الصنعاني الذي اخذ يغزو المكلاّ، والتي يعمل القيمون على شؤون العمران ان يحدّوا من تأثيره في المدينة القديمة، وأن يجعلوا هذا التأثير محصوراً في الامتدادات المستجدة على طول الشاطئ.

استرحْنا قليلاً في فندق جميل على الشاطئ، ثم انطلقنا للقيام بجولة في المدينة القديمة. إنه سوق النساء في قلب المدينة. مشينا في طرقات ضيقة مكتظة بالمتسوقين، بل بالمتسوقات من النساء المتشحات بالسواد. أحدُ اصحابنا اليمنيين شرح لنا قائلاً: هذه السوق سُمّيت «سوق النساء» لا لأن النساء يُبَعنَ فيها، وإنما هي للنساء كي يجئْن إليها للتسوق، للبيع والشراء. قالها شارحاً ومازحاً في الوقت نفسه. وفعلاً رأيْنا نسوة يبعن العطور والبخور والعسل... وغير ذلك. كما رأينا السواد النسائي طاغياً على السوق كلها, وبازدحام غير اعتيادي كما قيل لنا، وذلك لأننا كنا على بعد يومين من عيد الأضحى المبارك.

في قلب السوق، قادنا اصحابنا اليمنيون الى مكتبة عامة تسمى «المكتبة السلطانية». رجلٌ مسنّ يشرف على هذه المكتبة شرح لنا كيفية ترتيب الكتب الموجودة فيها. وأطلَعَنا على سجل بهذه الكتب. كان هنالك بعض الزوار الذين يأتون للمطالعة وقيل لنا ان الزوار يرتادون هذه المكتبة على نحو مستمر.

بعد ذلك، انتقلنا الى زيارة متحف كان قصراً للسلطان. سلطان الدولة «القعيطية» التي قضت عليها الثورة في جنوب اليمن، قبل حوالى أربعة عقود. في محتويات المتحف، التي هي قليلة نوعاً ما، رأينا شواهد على حضارات قديمة تعاقبت على أرض اليمن، ثم جلسنا قليلاً في مجلس السلطان القعيطي الذي لا يزال أثاثه كما كان. ورأينا كذلك كرسيّ السلطان، الذي كان يجلس عليه لاستقبال الزوار في المناسبات العامة.

اقترب المساء، وراحت ظلاله ترسم في عيوننا غروباً استثنائياً، ونحن ننظر من المكلاّ في اتجاه الأفق المتهالك على المياه. بعد اختفاء الشمس، راحت الأضواء تتلألأ، لتُظهر امتداداً للمدينة، طويلاً طويلاً على ساحل المحيط الهندي. اما بياضُ البيوت، فقد استخفى كلؤلؤ مكنون في صدف الليل.

انطلاقاً من مدينة المكلاّ، أسرعت بنا السيارة نحو الجبال، ثم أخذتْ تصعد نحو القمم. مرتفعات صحراوية تترامى الى نهايات مجهولة. مرتفعات جرداء قاسية، لا تظهر فيها إلا نباتات قليلة متفرقة، نباتات قاسية قصيرة انشقّت من التربة القاحلة بصعوبة متناهية. رفيقاي في الرحلة أكدا لي ان كل شيء سيتغير عندما نصل الى وادي حضرموت. أكثر من ساعة ونصف الساعة ولم نصل. حتى انني رحتُ اقول في نفسي: هل يمكن ان تنشقّ هذه الأرضُ عن واد خصيب؟

كانت السيارة تنزل بنا في منحدر حاد، على طريق متعرّج محفوف بالصخور العملاقة، عندما لاحت لنا في الأسفل اشجار النخيل الكثيفة، التي انبثقت فجأة امام عيوننا في ذاك العراء الشاسع. في هذه النقطة، طلبنا من السائق ان يتوقف، ثم اتخذنا لنا مكاناً مشرفاً على الوادي، ورحنا نتأمل في المشهد الباهر. إننا امام جزء من وادي حضرموت. الخضرةُ تملأ الوادي، والبيوت التي بُنيتْ على الطريقة الحضرمية التراثية (الطينية) تتناثر أو تتجمّع على جانبيه. والطرفان الجبليان اللذان يشكّلان حدود الوادي يحتضنان المشهد كله. البيوت التي لاحت لنا في البداية بيضاء أو بنية او ملونة، وبينها لاحت لنا بعض المباني الكبيرة، منها مدرسة وفندق. المفاجأة التي حدثت لي جعلتني اؤجّل اسئلتي او استفساراتي، وأكتفي بمعاينة ما تراءى لي. نزلت بنا السيارة الى الوادي، وبعدها سلكت طريقها فيه، متجهة الى البلدات والمدن الرئيسة في حضرموت: المهجرين، شبام، قطن، سيئون، تريم... الخ.

ربما كان وادي حضرموت نتيجة خسف عظيم حصل في ماض سحيق. وبات مجرى هائلاً للسيول التي تحدثها مياه الأمطار. ولهذا، فهو واد أخضر غني بأنواع الشجر. كانت السيارة تخترق بنا الوادي ونحن نستعرض الأشجار من جهة، والبيوت من جهة ثانية. أكثر ما تحدثنا عنه من أنواع الشجر «السّمُرات»، تلك التي ذكرها امرؤ القيس في شعره، وبالأخص في هذا البيت من معلقته:

كأني غداة البين يوم ترحّلوا/ لدى سمُرات الحي ناقِفُ حنظلِ

إنها حضرموت، بلاد امرئ القيس، وفيها اضافة الى «السّمُرات» التي هي أشجار ليست بالكبيرة قياساً الى غيرها، كالنخيل مثلاً... فيها أمكنة ذكرها جدنا الشاعر بأسمائها التي ما زالت تُسمّى بها، مثل دمّون، وعندل... اما بالنسبة الى البيوت فقد تحدثنا كثيراً عن فن العمارة الطينية التي اشتهرت بها حضرموت. يعتمد هذا الفن على الطين مادة وحيدة للبناء، والطين يؤخذ من تربة الأرض ويأخذ ألوانها، او بالأحرى يأخذ لونها الذي يقرب من اللون البني. هكذا هي بيوت حضرموت، بلون ترابها، أو مطلية بالأبيض. اما ما طرأ عليها من بيوت اسمنتية، تأخذ احياناً طابعاً هندياً أو اندونيسياً... أو غير ذلك، فهو نافر يشوّه التراث الحضرمي في البناء. ولهذا السبب، يعمل بعض المسؤولين في اليمن على الحد من التشويه، وعلى صون التراث.

وصلنا الى بلدة تدعى «الهجريْن» تقع على جبل، بل جبليْن. وكان قد قيل لنا انها «دمّون» التي ذكرها امرؤ القيس. صعدنا إليها بالسيارة على طريق غير معبّدة، وكانت لنا جولة في طرقاتها الضيقة. بعد نزولنا من الهجريْن، اسرعنا نحو «شبام»، فمررنا أولاً ببلدة اسمها «قَطَن»، وجدناها مزدحمة بالناس والسيارات. وما إن اقتربنا من شبام، حتى لاحت لنا بناياتها العالية. كنتُ قد سمعتُ عنها كثيراً، وعندي في بيتي في بيروت صورة كبيرة لها. إنها المدينة التي تحتوي على أقدم ناطحات للسحاب، كما يقول البعض. دخلنا بالسيارة الى ساحتها، ثم ترجّلنا ورحنا نتجول بين بناياتها.

انها بنايات من الطين، يتكوّن أعلاها من سبعة طوابق يستند بعضها الى البعض الآخر. قيل لنا ان أقدمها يعود الى أكثر من سبعمئة عام. ولكن يد الترميم تعمل على صونها في استمرار، وذلك كلما تعرّضت للسقوط او التداعي. ان «شبام حضرموت» هي بالفعل تحفة فنية تعكس وجهاً عريقاً من وجوه العمارة اليمنية.

بعد شبام، بقي لنا ان نزور المدينتين الرئيسيتين في حضرموت: سيئون، وتريم. قبل وصولنا الى مفترق الطريقين اللذين يقودان إليهما، كانت لنا استراحة في فندق جميل، هو في الأصل قصر من قصور الحكّام، حكّام الدولة «الكثيرية» التي كانت قائمة قبل قيام الثورة، أي قبل حوالى اربعة عقود. من هذا الفندق، توجّهنا اولاً الى تريم، التي هي مدينة كبيرة نسبياً، وقد اخترقنا سوقها المزدحم لنبلغ اولاً احد المساجد الأثرية، الذي يتميز بمئذنته، او بمنارته الجميلة، التي تدعى منارة «المحضار». بعد ذلك، مررنا ببعض القصور العائدة الى عهود ما قبل الثورة. ثم انطلقنا في اتجاه سيئون، المدينة التي لا تقل في اتساعها وازدحامها عن جارتها تريم. في قلب المدينة، رأينا منزل السلطان «الكثيري»، وفي قبالته، جلسنا في احد المقاهي لاحتساء الشاي، ثم قمنا بعد ذلك بجولة في اسواق المدينة.

في طريق العودة الى الفندق، وكان الليلُ قد اقترب، راحت الجبال الحارسة لوادي حضرموت تتحوّل على جانبيْه من كائنات حقيقية الى كائنات خرافية. كانت الجبال تتطاول نحو سماء تراوغُها، وكان وادي حضرموت يتكاثف محتضناً أسراره التي انبثقت في حماه، ونَمَتْ عبر الدهور. قلتُ لرفيقيّ: ما أروع رحلتنا هذه، كأنّها رحلة اسطورية في بلد حقيقي.

*الحياة









أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "ثقافة"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024