انتخاب المحافظين والمشاركة السياسية جاء قرار رئيس الجمهورية بانتخاب المحافظين استكمالاً لبرنامجه الانتخابي، وهذا القرار يعدُّ سمة بارزة على حداثة التفكير السياسي لدى رئيس الجمهورية الذي فطن إلى احتواء التشنجات التي تولّدت من عملية التعبئة الاجتماعية المرافقة لعملية التحديث السياسي والتنمية السياسية.. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه ينبغي توقيف كل الإجراءات المالية إلى ما بعد 27 ابريل حتى لا يصل الفساد إلى الميزانيات المخصصة للمحافظات ويلتهمها، مما يجعل المحافظين الجدد يتحملون تبعات غيرهم. إن قرار انتخاب المحافظين يحقق نقلة نوعية؛ فهو يجعل الجماهير صاحبة القرار الفعلي في إدارة وتطوير أمورها، كما أنه سيُحدث تحولاً نوعياً في قيادة الدولة والمجتمع، وسيتيح هذا القانون ـ عندما يقرّه مجلس النواب ـ المجال أمام المواطنين ليكونوا أصحاب القرار في تطوير شؤونهم المحلية، فالحكم المحلي يكتسب أهمية كبرى في حياة الناس، لأن من خلاله ستتم مناقشة الخطط والبرامج، وسيتم رفع المقترحات وفق الاحتياجات المحلية في مجالات الصحة والثقافة والتعليم والمياه والزراعة وغير ذلك. لكن في غمرة هذه الفرحة الوطنية المتثملة بانتخاب المحافظين ثمة أسئلة تطرح نفسها حول دور المعارضة في خلق البيئة المناسبة ومدى استجابتها لحفظ الاستقرار السياسي، وصولاً إلى السؤال الكبير حول قيام السلطة بتعزيز اللامركزية ومنح المحافظين سلطات واسعة. إن انتخاب المحافظين سيتبعه انتخاب مديري المديريات بحسب قول رئيس الجمهورية، وهذه الخطوة ـ لا شك ـ ستعزز من ضمان تطبيق قانون الإدارة المحلية بشكل فعّال، وستعالج الثغرات ونقاط الضعف في قانون الإدارة المحلية. وهذا يعني أن المرحلة القادمة هي مرحلة بناء وتعمير وتنمية؛ لأن القرارات التي ستتخد والخطط التي ستُقر المشاريع ستكون قرارات محلية تراعي ظروف كل محافظة ومديرية على حدة. هذا القرار جاء معبراً عن إيمان رئيس الجمهورية بالتحول السياسي، وأنه لابد من تمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرار الذي يمس حياتهم مباشرة. إن هذا القرار لم يأتِ استجابة لمطالب المشاركة السياسية وحدها، بل جاء أيضاً للمحافظة على الاستقرار السياسي جراء التهديد الذي يتعرض بفعل اتساع حجم الضغط الموجّه نحو مراكز القوى من جانب القوى الاجتماعية الساعية للمشاركة السياسية أيضاً. وتبقى الكرة في ملعب المواطن الذي يتحتم عليه ترشيح العناصر الكفؤة والنزيهة والقادرة على تحمل المسئولية، وألا يسقط في فخ الصراع الحزبي، لأن ذلك سيفرغ هذه المشاركة من محتواها العملي، وسيحولها إلى مجرد صراع يوسع من قاعدة الفساد وإهدار التنمية وضياع مزيد من الوقت والجهد. إن انتخاب المحافظين سيعمل على تنشيط الإيرادات وفضح العثرات التي أدّت إلى توقف بعض المشاريع، كما سيفضح المعارضة التي ستقف مكشوفة الغطاء أمام الجماهير، كما أن هذه التجربة ستحدث ثورة كبيرة في مجال تطوير وتحديث العمل الإداري وتطبيق اللامركزية؛ الأمر الذي سيتيح للمحافظ المنتخب فرصة ممارسة دوره بشكل أفضل في تطوير المجتمع في جميع المجالات المختلفة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن القانون الذي سيصدره مجلس النواب لابد من ربط المحافظين بوزارة الإدارة المحلية لكي تقوم بالدور الإشرافي على المحافظين، وكشف حالات الخلل والتقصير، ومن ثم المحاسبة في الوقت المناسب بحيث يتم ذلك على قاعدة التشخيص الموضوعي والصريح لمستوى الأداء. إن عملية انتخاب المحافظين تحتاج إلى تقوية المؤسسات التي عملت على تدميرها المعارضة وبعض العناصر المتنفذة، ودون ذلك فإن مشاركات المواطنين في العملية السياسية ستكون ضرباً من العدم وضياعاً للوقت. إن ممارسة العملية الانتخابية للمحافظين دون قانون يحدد آليات المشاركة ويخضعها لقواعد محددة سيترك العملية دون آلية واضحة يجرى اتباعها أو الرجوع إليها، وستحدث تشوهاً حقيقياً في الممارسة السياسية، وستتحول العملية إلى مجرد شخصنة، وستنحصر في نطاق زعماء القبائل ومراكز القوى الأخرى التي ستقوم بسلب القدرة من المواطنين على المشاركة، مما يجعل هذه التجربة تقع في فخ الزعامات والوجاهات المناطقية!!. وهنا لابد للمعارضة أن تدرك أنه لابد من تحريك المؤسسات وتفعيلها بعيداً عن معاداة السلطة والمواجهة معها؛ لأن ذلك سيساعد الشخصيات الجهوية على التحرك داخل شبكة من العلاقات الشخصية، وستغلق العملية السياسية على هذه العلاقات، وسيتم حصرها في هذا النطاق. إذاًَ لابد من التعاون بين السلطة والمعارضة بهدف إزاحة العنصر الشخصي والولاءات الضيقة، خاصة أن الولاء للأسرة والقبيلة مازال يلعب دوراً حاسماً في عملية صنع القرار في مثل هذه الممارسات، وهذا يضعف المؤسسات ويقلل من أهمية التحول الديمقراطي. إذاً تحتاج السلطة والمعارضة إلى الاتفاق على حفظ الاستقرار السياسي وإدامته أيضاً، فنحن مازلنا نعاني تشوه العمل المؤسسي، ومن غلبة ما هو شخصي، وهذا لا شك يمنع تحقيق أدنى مستوى من المشاركة السياسية الحقيقية، ومن هنا فإن النتائج ستطال الحياة السياسية بشكل عام. وهنا لابد من أن نعترف بأننا خلال المرحلة الماضية أخفقنا في السياسة، وأخفقنا في الاقتصاد، وأخفقنا كذلك في التنمية بسبب الصراع غير الرشيد على السلطة، وبسبب ثقافة الكراهية التي زرعناها في الماضي وعدنا لنجني ثمارها حتى ونحن نتحالف مع بعضنا البعض. ولعلنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى إعادة قراءة سلوكنا في الماضي حتى نستطيع استعادة توازننا السياسي ونستجيب للتغيير القادم حتى نتمكن من لعب أدوار إيجابية في تنشيط الاهتمامات والمصالح المحلية. *الجمهورية |























