السبت, 04-مايو-2024 الساعة: 04:40 ص - آخر تحديث: 02:03 ص (03: 11) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
ضبابية المشهد.. إلى أين؟
إياد فاضل*
شوقي هائل.. الشخصية القيادية الملهمة
راسل القرشي
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
ثقافة
المؤتمر نت-القبس الكويتية -
السفر إلى حضر موت - 2 ( بقلم الروائية العربية ليلى العثمان)

لم نكد نرتب حقائبنا في فندق شهران الجميل ونرتاح حتى فوجئنا بطلب ترتيبها مرة أخرى، فغدا نغادر إلى حضرموت، وحين نعود إلى صنعاء سننتقل إلى فندق آخر - الشيراتون - لعله الشيء الوحيد الذي كان يعكر صفو الرحلة، فالانتقال من فندق إلى آخر بالنسبة للضيف ليس أمرا سهلا، فقد كان لدينا كميات من الكتب، سواء كتبنا التي حملناها لنهديها أو تلك التي أُهديت لنا خلال الأيام الثلاثة ثم تلاها بعد ذلك. هذه الكتب احتاجت لإضافة حقيبة أخرى مما ضاعف الحمل، وزاد في تعـب الترتيب، وقد لا تشكل العملية هـمّا للرجال - المحترمين - فهم بالطبع لا يحتاجون ما تحتاجه النساء - المحترمات أيضا - من ملابس وأغراض و«نثريات نسائية» نحرص عليها لتكمل الأناقة.

كثيرا ما أتمنى لو أسافر بلا حقائب، أرتدي بنطلون «الجينز والتي شيرت» وحذاء الرياضة، وأظـل طوال الرحلة حرة من كل شيء. لكن هذا مستحيل أن يحدث، خاصة أنني قد مررت بتجربة مريرة يوم وصلت اسطنبول ذات مرة ولم تصل الحقيبة ففسدت كل رحلتي رغم أنني اشتريت الضرورات من هناك.

الحقيبة صديقة رغم متاعبها ويدرك قيمتها من تضيع حقائبه. الطريف الذي حدث في الرحلة أن حقيبة الأديب الجزائري - مرتاض عبدالملك - لم تصل، وحقائب الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي وصلت قبله فقد تأخر عن الوصول أياما بسبب مشاكل الفيزا، وظللنا نمازح مرتاض الذي هو معروف بأناقته أن يرتدي ملابس عـبدالرحمن فيقول: هو طويل وأنا قصير! ثم انه أبدى نشاطا كبيرا وكان - رب بيت - ناجح، يغسل قميصه وجواربه وملابسه الداخلية ليلا ويلبسها في اليوم التالي. قال: في الأمر مشقة كبيرة، قلت: حتى تعرفوا أنتم الرجال ما تقوم به المرأة من مشقات.

في اليوم الأخـير للرحلة وصلت حقائبه، كان يحمل لأصدقـائه - مثلي وغيري - كمية من برتقال الجزائر الكبير، لكن البرتقال فسد وبدا مرتاض في الليلة الأخيرة سعيدا بأناقته الجديدة.

كان علينا أن نغادر الفندق إلى المطار في السابعة صباحا، ورغم أننا لم نكن شبعنا من النوم بعد، إلا أن الوفود كانت نشيطة، ملتزمة بالمواعيد، فالأجانب بطبيعتهم حريصون على النظام، ونحن بدورنا العرب أردنا أن نثبت أننا شعوب حضارية تحترم الوقت. كان للانسجام والحب والألفة بين الجميع دور كبير في جعل أجواء الرحلات سعيدة ولطيفة وأجواء الملتقى حميمية ونشاطا.

«لا تعرف صديقك إلا في السفر» لم يكن بين الوفود من هو نشاز أو ثقيل أو متعال أو حاسد أو متذمر من أبسط الأشياء، ولا أنكر هنا أن الموظفين المناط بهم التنظيم كانوا يساهمون في تسهيل العوائق وإشاعة الراحة في نفوس الجميع.

من الطائرة تأملت صنعاء الحنون، شعرت بأن حبال وصل متينة تربطني بها، ماذا صنعت بي صنعاء؟ ماذا غرست في قلبي من شتلات؟ وما الذي ستحفره بقلبي بعد ذلك من ذكريات وجمال؟ وما الذي سأشاهده في «مدينة سيئون وشبام وتريم» ليجعلني أغطس أكثر في حب اليمن وأهل اليمن؟

فن العمارة

يبدأ التفاؤل من الفندق، كان المقر - قصر الحوطة أو الحوطاء - الذي يذهل من اللحظة الأولى قصر بُني من الطين والطمي، يبرز فن العمارة العريق في وادي حضرموت، يقع وسط واحة من النخيل مغطاة بالأشجار والخضرة ونماذج من النباتات المحلية النادرة. في ممراته الواسعة والضيقة تكشف فنون العمارة وأناقة الأبواب القديمة. أما الغرف فهي غاية في الجمال، كل ما تشتهيه النفس من جمال الأثاث، صندوق قديم، أريكة عربية مفروشة بالسجاد اليمني والنوافذ صغيرة يعتليها تاج الزجاج الملون مما يضفي على الغرفة أجواء الخيال الشهرزادي. ولا ينسى اليمنيون أصول الضيافة، في كل فندق دخلناه كنا نجد طبق الفاكهة والحلوى وقوارير الماء.

أما الملاحظة المهمة التي أسعدتني في اليمن فهي الحرص على وجود «الشطافة اليدوية» ليس في الفنادق فحسب، بل حتى في المطاعم وأماكن السياحة مما وفر لنا الراحة الجسدية والنفسية.

بعد الاستراحة توجهنا في العاشرة إلى مدينة شبام للاطلاع على المعالم الأثرية والعمرانية القديمة ولقاء غونتر غراس ببعض أساطين البناء المختصين بالعمارة الطينية0 ومدينة شبام منطقة في محافظة حضرموت يسكنها 50 ألف نسمة، فيها أربعة تجمعات حضرية واحد منها هو المدينة التاريخية التي تعدها منظمة اليونسكو تراثا عالميا نادرا.

عليك أن تقطع المسافة مشيا على الأقدام في أزقة ضيقة ترابية تصطف البيوت الطينية على جانبيها، وطبعا يحتفظ كل بيت بحظيرته. رائحة التراب المتطاير وروائح الحظائر تنتشر لكنك أبدا لا تشعر بالضيق فبالك واهتمامك ينصبان على جمال العمارة وما حولك من أطفال كثيرون ذكورا وإناثا لا أحد يقلق جمعهم ويفرق بينهم باسم العيب أو الحرام، طفولة تنشأ سليمة في التعرف على بعضهم دون خوف أو عقد أو عُصي تلسع القلوب.

صلابة الأرض.. والرجال

تجولنا في المكان، دخلنا أحد البيوت القديمة الأشبه بمتحف، لكن ارتفاع الدرجات وضيق المكان جعلني ومثلي - من يعانون ضيق الشرايين بسبب التدخين - جعلنا نكتفي بالدور الأول. خرجت إلى الأطفال، جلست معهم على دكة أحد البيوت، صورتهم وتصورت معهم، حاورتهم، طلبت منهم الغناء فغنوا وغنيت معهم. كانت معي الفنانة اللبنانية جاهدة التي كانت حريصة جدا من الأتربة المتطايرة حتى لا يتعب صوتها، رغم ذلك غنت مع الأطفال. لاحظت أن أكثرهم حفاة يغطي التراب تفاصيل أقدامهم، ولم أستغرب ذلك فقد كانت طفولتي في الكويت القديمة مشابهة لطفولتهم، أخذنا من الأرض مناعة وجلدا. اعترضت فقط مرة على أحد الآباء وهو يمسك بكف طفله الصغير ونحن في «سوقطرة» الأرض جبلية قاسية، قلت له : لماذا تدعه يمشي على هذه الأرض حافيا؟ غضب من سؤالي وقال: هذا ابن الجبل لا تهمه قسوة الأرض. ربما هو على حق فلا تأتي صلابة الرجال إلا من صلابة الأرض، وتذكرت مثلا تونسيا «ما يتفرس إلا إذا تهرس» أي لا يصبح فارسا إلا إذا هرسته الحياة.

والأطفال حولي تغمرني السعادة طلبت منهم أن يغنوا أغنية وطنية، ففوجئت بهم ينشدون أغنيتنا «يا كويت يا رمز الحياة، كلمة جريئة شعلة مضيئة يا كويت» ضحكت وجاهدت، قلت لهم أريد أغنية وطنية يمنية ففعلوا دون أن أحفظ الكلمات ثم سألتهم أن يقرأوا ما يحفظونه من سور القرآن الكريم وكنت أقرأ معهم، وحين تلكأ أحدهم بآية الكرسي أكملتها عنه فاستغرب وقال: كيف وأنت كافرة تحفظين القرآن؟ قلت : وكيف حكمت علي بأنني كافرة؟ قال: لأنك تخرجين دون حجاب.

قد يفرح الآن المتزمتون أن طفلا يعطيني درسا في الإيمان، لكن ما حدث بعد ذلك سبب لي رعبا تجاه هذه الطفولة البريئة حين سألت الأطفال : هل تفرحون بقدوم السياح؟ صرخوا بصوت واحد: نعم نفرح بالسياح العرب. قلت : والأجانب؟ صرخوا جميعا: لا لا هؤلاء كفار. من قال لكم هذا؟ قالوا: المطوع يقول. سألتهم : هل تعرفون سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام؟ هل تعرفون سيدنا موسى عليه السلام؟ أجابوا بنعم فأكملت : وما هو كتاب عيسى وموسى؟ أليس التوراة والإنجيل كتابي هذين الرسولين فهل تسمونهما كافرين؟ هما من أهل الكتاب الذين دعا ديننا الإسلامي الكريم الى أن نتعامل معهم معاملة حسنة ونحترم أديانهم ومشاعرهم؟ تألمت لهؤلاء الأطفال. ماذا غرس هذا المطوع وسواه في عقول الأطفال هنا وهناك في كل بلداننا العربية الإسلامية؟ أي زرع سيفجر ألغام الإرهاب والأحقاد والكراهية التي تنشر سمومها بين البشر وتعطل ركب التطور والتقدم وتثير الحروب والويلات؟ حزنت على الأجيال القادمة، تلك الورود التي يمتصون عطر عقولها ليملؤوها برائحة البارود.

مدينة تريم

بعد هذه الجولة وبعد وجبة الغداء توجهنا إلى مدينة - تريم - لمشاهدة القصور الطينية ومعالم المدينة الأثرية، وتعتبر هذه المدينة من أشهر المدن اليمنية التاريخية التي تزخر بالموروث الثقافي المتنوع، لذلك اندرجت ضمن المدن التاريخية اليمنية في قائمة التراث العالمي، وحظيت باهتمام المنظمات الدولية.

حين زارها الكاتب الكبير غونتر غراس في العام السابق قرر أن ينشىء مدرسة لفن العمارة لتخريج أجيال تعتز بتاريخها وتواصل البناء الطيني واختار مركزا لذلك في قصر السلام أطلق عليه «مركز غـونتر غراس للعـمارة الطينية» وقـد تم الافتتاح في الساعة الرابعة والنصف عصرا بكلمة من د0عبدالكريم الأرياني ثم كلمة غونتر غراس.

بعد ذلك استمعنا إلى الشعر الشعبي ثم استمتعنا بالموسيقى والرقص اليمني الشعبي الشهير. كان اليمـنيون حريصين على التعريف بفنونهم شعرا، غـناء ورقصا. في كل تنقلاتنا من مدينة لأخرى كانت تستقبلنا الفرق الشعبية بأهازيجها وفرحها مما يثير البهجة في قلوب السكان وقلوبنا. تلك البهجة كانت كفيلة بأن تنسينا تعب التنقل وصعوبة المشي على التراب والأحجار.

في مدينة تريم عدد كبير من المساجد الطينية القديمة التي تشتهر بها المدينة، ولذلك قامت الباحثة المعمارية - ريم عبدالغني - زوجة الرئيس اليمني السابق علي ناصر بإعداد كتاب علمي تاريخي عن المساجد يحتوي على مقدمة تاريخية عن حضرموت ومنها - تريم - وتوثيق شامل لجميع المساجد التي تتجلى من خلالها عظمة وروعة فنون المعمار الطيني وعبقريته كـ«منارة المحضار» التي تعتبر أعلى منارة طينية في العالم. سيصدر الكتاب خلال الأشهر القادمة ليقدم نموذجا لنشاط واهتمام المرأة واعتزازها بتراث وطنها.

اليمن يهدي الفرح

لا يترك لك اليمنيون مسافة ما بين الفرح والفرح، الكرم والكرم، يأخذونك حيث لا تدري وتفاجأ بالمكان. كل يوم مفاجأة وكل رحلة اكتشاف وكل اكتشاف إضافة للعقل والقلب والوجدان وإثراء لزمن قادم نكون فيه أو لا نكون، لكنه يبقى عبر الكتابات لأجيال قادمة نتمنى أن تحب أوطانها وتبذل روحها لأجل أن تعيش هذه الأوطان بخيرها، سلامها، أمانها، حرية إنسانها وحرية فكرها.

في اليمن نسيت كل أحزاني، نسيت وجه رجل أحببته ولايزال يتربع في قلبي وقلب أولادي، لأنني هناك أحببت كل الوجوه فاتسع القلب لها، وأَحب كل الأمكنة فتمددت بروحي على عشبها وترابها وحنان قلوب ناسها الذين كانوا كرماء في هداياهم في كل مكان نزوره كما كانوا كرماء بالحب والترحيب.

سوقطرة المفاجأة

ماذا ينتظرنا بعد؟ كان يوم الاثنين 12/1 هو يوم المفاجأة الكبرى، يوم الأحلام والجمال، كان السفر إلى جزيرة «سوقطرة» الحالمة وسط المحيط. أقلتنا طائرة خاصة إلى هناك. في داخلي توقعت شيئا كبيرا فقد اعتدت خلال الأيام السابقة أن أتوقع كل جديد مثير. كنت واثقة من أنهم لا يتعبوننا بالسفر والتنقل لأجل شيء اعتيادي رأته العين في أسفارها أو قرأت عنه.

من المطار ركبنا سيارات الجيب التي كانت مهيأة بالماء وعلب الكلينكس فهي ضرورية للطريق الذي استغرق ساعتين ونصف الساعة، قطعنا المسافة المرصوفة أولا بمدة ربع ساعة ثم أخذ الطريق شكلا آخر. السيارات تسير على الحجارة والصخور في طرق ضيقة رهيبة بين الجبال والبحر والأشجار ومنظر الوديان المخيف تهزنا هزا لا رأفة فيه، وتمتلىء أنوفنا وصدورنا بغبار الأرض لكننا ننسى التعب وغصتنا في التراب، فقد هبطنا من الطائرة إلى قطعة اقتطفها الله الحنون من الجنة وأهداها إلى اليمن التي تستحق الهدية.

عذراء وفحولة المدينة

آه يا سوقطرة! ماذا فعلت بي؟ يا حلما لم يراودني يوما، يا شادية بين الجبال العالية، يا صمت البكارة الخجلى التي لم تمسها فحولة المدينة وأنيابها، ضـاوية بالغيم، معربشة بالأخضر والأزرق، ناعسة تحرسها جبالها، رجالها الشاهقون العاشقون ونخيلها المحتار ما بين نسمة تزف إليه الندى وريح تزأر في قلبه. يستقبل أطفالك السياح بتلويحة أكفهم السمر، أبرياء من سموم المدن وصراعات جشعها غيومك إكليل الجبال وحصاك نعالها الحنون.

كيف يا سوقطرة انبثقت من جوف الأرض؟ أمرجان أنت تحدى العمق وانفرش جميلا؟ أم لؤلؤة نادرة عافت صدفتها لتتعرى طامعة بصدر السماء وشفاه القمر؟ هل أنت جنية البحر أم تراك عروسته التي تاقت روحها إلى الضياء ! كم أنت باهية رائعة كقلب الأم حين يحضن ابتسامة الطفل البكر.

بيوتك تشم كل فجر رائحة التنور وأقراص العجين المخمر بانتظاره ثغور الأطفال الناعسين، تكفكف الأم جوعهم وتنثر للطيور بقايا الفائض من خبز يابس، ويا لضفافك الزرقاء تورق أجمل الدرر، صخورك الحمراء والبيضاء، قواقعك، مرجانك قلوب نساء تترامى مكشوفة لفضول العيون، تتشهى الأكف أن تلمسها، تسرقها وتخبئها، تهرب بها بعيدا لتكون " تحفا " ترص على المناضد والرفوف، لكن عيون حراسك واعية تحميك، تصادرك فيبكي كل من فقدك.

إيه سوقطرة: من لي ولو بخيمة صغيرة أسكنها هنا بين بحرك والجبل أو تحت «دم الأخوين» (شجرة قايين وهابيل) في - حم حل - 3 (المنطقة الاعلى في الجزيرة التي تناولنا فيها طعام الغداء) أصلي لبهائك ولله الذي صنع هذا الجمال. فكي يا سوقطرة حبالك كلها وضفائرك، قيديني بها، أسجنيني في قلبك، لا أريد حرية الدنيا كلها، أريد قيدك، سجنك. آه كم يكون السجن شاسعا وسعيدا في قلبك؟ أي حجة إذن أبتدعها لأظل في حضنك؟ هل أحب رجلا فيك لأبقى؟ أم أتحول رجلا لأحب امرأة فيك وأبقى؟ لن تثمر أحلامي بالبقاء، لقد خلقك الله بعيدة ليعبرك السائحون والعاشقون ويرحلوا كي لا يلوثوا طهارتك وجمالك.

سوقطرة : يا بهاء الدنيا، كحلها، فضتها، زينتها، ورودها والينابيع، أحبيني مثلما أحببتك، ناديني مرة أخرى لأرتدي من غيمك سترة طفولتي المحرومة وصباي السجين وعمري الذي يشيخ الآن، أفرشي لي عشبك ورملك، دثريني بشعر نخيلك الحنون، سرّبي إليّ أحلام نسائك الصامتات أتجول في جنانها، ألتقط لي زوادة للرحيل. كم أحبك وأنا في قلبك الآن وغدا حين أكون بعيدة عنك سأحبك أكثر وكل السنين القادمة.

سوقطرة: أنت في البحر قلب أم وفي القلب أنت أشهى الرجال، أودعك الآن وأنسى قلبي كله بين ذراعيك، صكي عليه، قبليه كل ليلة ليظل يخفق فأعيش حتى وأنا بعيدة عنه. ويذكر ان سوقطرة محمية لا يسمح للسياح بأخذ شيء من روائعها البحرية النادرة.

مقيل القات تجربة مرة وحلواها الشعر والأدب

زرنا «مقيل» د. المقالح بدعوة كريمة منه، سعدت بهذه الدعوة سعادة كبيرة، فقد كان لديّ فضول كبير وشغف عجيب لمعرفة طقوس المقيل، والتعرف على هذا الذي تنفرد فيه اليمن، وتهدأ فيه فترة القيلولة هدوءاً ملفتاً، ما هو شكل النبتة وما طعمها؟ وكيف «يخزن» في الفم لساعات طويلة؟ ما تأثيره على الإنسان سلباً أو ايجاباً؟ ما هو مفعوله عليهم رجالاً ونساء؟ هل هو نوع من المسكرات المحرمة أو هو لمجرد المتعة كالشيشة؟ أسئلة كثيرة كانت ترادوني مسبقاً، وها قد جاءت الفرصة لأرى بأم العين ما يطفئ لهيب الأسئلة. كل واحد من الوفود كان يسأل الآخر: هل سبق ان جربت هذا؟ وهل تنوي ان تجرب؟ تفاوتت الإجابات لكن المحك كان حين ولجنا المقيل الذي امتلأ بنا وبمن سبقنا من شخصيات ثقافية وسياسية وشعراء وغيرهم، المكان واسع، الجلوس على الأرض فوق المطارح والشجيرات الصغيرة توزعت أمام الجالسين.

أول ما بهرني شكل النبات، كنت قد تصورته أشبه بالبقدونس أو الكزبرة بالحجم وشكل الورقة، لكنني رأيت شيئاً مختلفاً هي اغصان من شجر طويل، رأيته لاحقاً في احد البساتين، الأوراق السفلى كبيرة وصلبة، والأعلى صغيرة طرية وكأنها زهرات النبتة وهي التي تخزن وتخرج العصارة.

هناك مثل في ايطاليا يقول: «إذا كنت في روما فافعل ما يفعله الرومان»، الفضول الانساني لا يقف عند حد، وفكرة التجريب لكل جديد لا تترك لك خيارات إلا ان تجرب، خاصة انه ليس نوعاً من الحشيش أو الافيون.

تلامزنا وتهامزنا وتشاورنا بالهمس قبل ان نقدم على التجربة. ما كدت اضع وريقتين صغيرتين وأمضغهما حتى شعرت بالطعم المر ينتشر في فمي رغم عطر النبتة المقبول. بصقته في ورق الكلينكس فلم أكن مقتنعة بمهمة «المباصق» الموزعة أمامنا. فعملية «البصق العلني» فيها لم تعجبني وقد أثارت لدي بعض التقزز.

ليس المقيل وقتاً للتخزين فقط، انه أشبه بملتقى أدبي ثقافي وسياسي، ربما في صفته العامة يشبه الديوانيات في الكويت والتي لا يسمح فيها بوجود النساء.

في المقيل تتشعب الأحاديث وتطرح الآراء وتناقض السياسات وتستعرض الاصدارات الجديدة ويتم الحوار حول كل الشؤون والقضايا. ولأن مقيل د. المقالح يستقبل ضيوفه المدعوين، فقد كان لنا نحن النساء حظوة في دخوله، ولأن أغلب الضيوف لم يزر اليمن من قبل فقد ارتأى صاحب الدعوة ان يعبر كل منا عن مشاعره الخاصة لهذه الزيارة، هكذا بدأنا.

وكان من الشعراء الموجودين من عبر شعراً مما صاغه جديداً أو مما كتبه في زيارة سابقة. وأبدع بذلك الشاعر الكبير سليمان العيسى. ساد جو الحب والتنافس في إعلان المشاعر الصادقة، فأنت في اليمن لا تجد نفسك مضطراً للمجاملة الفجة لأنك حقيقة تحس بالحب لهذا البلد ولأهله، ولأنهم يتعاملون معك بصدق فلا تسول لك نفسك ان تكذب عليهم وتخدعهم بالكلمات فهم فطنون أذكياء ولا يغرهم الثناء الذي لا يأتي من القلب.

«باب اليمن» يفتح باب الحب والحسرة

كنت قد وصلت صنعاء قبل الوفود كلها، ذلك بسبب ان الطائرة اليمنية تغادر من الكويت يوم 7/1 أو ان أغادر على الطائرة الكويتية يوم 13/1 وتكون عندها قد بدأت فعاليات الملتقى. لذلك غادرت مبكرة وكان هذا من حظي لأكون حرة في الأيام الأولى، ألتقط ما اشتهيه من جولات في المدينة القديمة وأسواقها. ويا لتلك المدينة وأسواقها، فلا تلوموني ان كتبت بهذا العشق عن اليمن، ففي قراها البعيدة وأحياء صنعاء القديمة ببيوتها الطينية المتلاصقة شبه كبير بالكويت القديمة. تلك البساطة في البناء، الروح الخالية من سيطرة الحديث والتزويق المفتعل، ثوبها القديم يطغى بلونه ورائحته وعفويته. الأطفال يملأون الأزقة الضيقة يلعبون حفاة احرارا من التجمد امام الانترنت وغيرها من الألعاب التي فصلت أطفالنا عن حصن الأهل. حظائر المعيز والأبقار والدجاج قرب البيوت تفوح روائح خيرهم، والنساء جالسات على دكة البيوت تواكب أنظارهم فلول السياح.

تشبعت بهذا العطر الذي لا يختلف عن روائح الكويت القديمة، ذلك الزمان الذي مضى وترك في العمق حناءه وأوشامه الجميلة وذكرياته. ليس المكان وحده بل هو الانسان اليمني الطيب الخلوق البسيط بساطة الماء في الجداول، المعبق طيبة كما الرغيف الساخن يخرج من قلب التنور. الإنسان اليمني ظل نقيا لم تلوثه الحياة بعد، لم يكسر صلابة روحه الترف الزائف ولم يتغلغل حقد المدن الحديثة الى قلبه فيفسد روحه المجبولة بالطيبة والتواضع والأمانة، ولست أبالغ في هذا فشعب اليمن الشقيق ليس غريبا عنا نحن الكويتيين، فمنذ ان وعيت وأهل اليمن يعيشون ويعملون في الكويت وكان لهم سوق «سوق المهرة» الذي كنا لا نستغني عن الشراء منه حتى بعد ان من الله علينا بالخير، وكانوا مسالمين لم يحدث ان اشتكى احد من وجودهم، لا مشاكل سياسية ولا أخلاقية، آمنون في وجودهم، ائتمنهم الكويتيون على بيوتهم وأموالهم، وقد عُرف عن اليمني أمانته ووفاؤه لكل بيت عمل فيه. هناك شيء ما يجذبك اليه وكأن ضفيرة من الاطمئنان تجدلك به. أحببنا اليمنيين في بلدنا. وهناك في اليمن أحببناهم أكثر، أحببنا الشعر اليمني وحفظناه واستقبلنا شعراءه الكبار في محافلنا الثقافية كالشاعر الراحل الكبير عبدالله البردوني. أحببنا الفن الشعبي اليمني ورقصاته المميزة، أحببنا الغناء اليمني بكبار مطربيه مثل أحمد قاسم، أبو بكر سالم، كرامة مرسال، عبدالرب ادريس وغيرهم.

في اليمن لا تقابل وجها إلا وتحبه، يستقبلونك بابتسامات حقيقية تعكس فرح قلوبهم، لا يعرفون المجاملة في الحب ولا في التعامل، يفرحون بالضيف، يتحسسون مشاعره تجاه بلدهم، يسترسلون في الحديث فلا تحس حواجز سوداء او بيضاء تفصلك عنهم. يحبون الكويت حبا حقيقيا بعيدا عن السياسات المدمرة والمواقف الطارئة.

كانت الجولة الأولى في المدينة القديمة «باب اليمن»، هذا الباب الذي كان «الإمام يغلقه ويضع مفتاحه تحت رأسه وينام ولا يهمه ان تعطلت حياة الناس وارزاقهم.

حين دخلته شعرت بالفرحة، تذكرت «سوق دعيج» و«سوق واجف» في الكويت القديمة، وملأتني الحسرة على تلك الاسواق التي أزالوها، وكانت تشبه هذا السوق رغم فارق المباني القديمة والآثار لحضارة أصيلة حافظوا عليها فصارت قبلة للسائحين من ارجاء العالم ومصدرا من مصادر اقتصاد البلد، وان كانت كل اسواق المدن القديمة تتشابه الا ان هناك فروقات تترك لكل سوق خصوصيته المتفردة في بنائه وبضائعه.

وسوق اليمن يشتهر بالفضة من مصاغات وأوان جميلة، وكذلك «بالجنبيات» قديمها وما صنع حديثا منها، و«بالشالات» المطرزة تطريزا دقيقا بألوان مدهشة ومنسجمة، بالبخور والمباخر وبالعسل «الدوعني» ويحتار السائح ماذا يحمل معه. كل شيء يغري بالشراء حتى «المكنسة الخوصية» البسيطة التي لم تسلم من رغبتي في اقتنائها فحملت واحدة معي. في السوق تتناغم اصوات الباعة، يؤهلون، يرحبون، يدعونك لدخول حوانيتهم دون ان يزعجوك بالإلحاح اللزج كما في بعض المدن الأخرى.








أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "ثقافة"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024