الجمعة, 29-مارس-2024 الساعة: 08:23 ص - آخر تحديث: 05:05 ص (05: 02) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
قراءة متآنية لمقال بن حبتور (مشاعر حزينة في وداع السفير خالد اليافعي)
محمد "جمال" الجوهري
السِياسِيُون الحِزبِيُون الألمَان يَخدعون ويَكِذِبُون ويخُونُون شعبهم
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
كتب ودراسات
المؤتمر نت - الاديب والناقد هشام شمسان
صنعاء / المؤتمرنت / الناقد هشام سعيد شمسان -
الشعرالمعاصر وإشكاليات التذوق الجمالي
" لابد من مفاهيم جديدة للتذوق ، ومفاهيم جديدة للكتابة الشعرية ، ومفاهيم أخرى للنقد " ( أدونيس )
الحديث عن إشكالية الشعر المعاصر – لاغرو – يرتبط وثيقاً بالذائقة الفنية للمتلقي . وإذا كان ثمة أزمة تعوق مسيرة الشعر الحديث من التقدم ، وتتقوقع به ضمن حدود لاتتعدى الشاعر – غالباً – فإن للذائقة الجمالية للقارئ دورها في هذا السبيل ؛ إذ أن وجود إشكالية (ما) : سواء كان منبعها الشاعر ، أو الشعر – ذاته – معناه أن هذا الشعر لا يستطيع أن يخالط الذائقة فيؤثر بها إيجاباً لتنفعل ، وتتفاعل . ومتى ماوقف الشعر حائلاً دون التأثير في قارئه ، كان ذلك إيذاناً بوجود خلل ( ما) يعود : إما إلى القارئ – نفسه – أو إلى الشاعر في شعره ، ذلك أن " العمل الفني لايستكمل وجوده إلا إذا تلقاه متذوق "( ).ودراستنا – الباحثة – هذه تفترض وجود خلل كامن في قارئ الشعر الحديث – أولا – نتج عنه إعراض ، وإدبار ، ثم في الشاعر – نفسه – ثانيا - الذي ساعد على اتساع الهوة بينه ، وبين القارئ ، وأضحى – هذا الأول – واقعاً بين إشكاليتين حقيقيتين :
أولاهما : رفض العمود الشعري بسبب " سيمتريته " الشديدة ، وتقاليده التي لم تعد ترضي الذائقة العصرية .
وثانيهما : النفور من القصيدة الحديثة ، والجديدة ، لأنها " غامضة ( برأيه ) وهذا الغموض يقف حائلا بين عملية التذوق لها ، والاستمتاع بفضائها . ولهذا النفور ظلت القصيدة الحديثة ، والجديدة محصورة ضمن بيئة ثقافية محدودة هي : بيئة الشعراء أنفسهم ، أو النقاد ، وصفوة من قراء ينتمون إلى الثقافة العليا . وتضاؤل قراء الشعر ليست إشكالية محصورة في البلدان العربية ، وحسب ، بل هي إشكالية تكاد تكون عالمية ، ففي أمريكا – مثلاً – كتب الشاعر " دانا جبويا " مقالا نشر في مجلة " ذي إتلانتيك عام 1991م " يقول فيه :
" ينتمى الشعر الإمريكي الآن إلى الثقافة الهامشية ، ولم يعد جزءًا من الحياة الفنية ، والثقافة الأساسية فقد أضحى هو الوظيفة المتخصصة لمجموعة صغيرة ( نسبياً ) ومعزولة .. كالقساوسة في مدينة صغيرة ( )" ويعترف " دونا لدهول "بأن قراء الشعر يتناقصون سنويا أو يقل عدد الذين يشترون كتب الشعر، أو يحضرون الأمسيات أو القراءات الشعرية( ) " . وإذا ما حاولنا أن نتتبع إشكاليات التذوق في الشعر الحديث ، فلابد – أولا – أن نحدد بأننا نعني بمقولة " الشعر المعاصر ، أو الحديث " : ذلك الشعر الممتد منذ نهاية الأربعينات ، وحتى اليوم، والذي جاء خلفاً للرومانسية – ذات النظام العمودي – البيتي – فكان مأتاه " نتيجة طبيعية ( لارد فعل ) للنثرية الفضفاضة التي أفسدت الشعر الرومانسي في آخر عهده( ) " وبه استعيدت بعض قيم الشعر الحقيقية ، وهيأته لارتياد أماكن مغلقة انتظرها عشاق الشعر طويلا ، وفتح فضاءات جديدة من الوجود اللغوي الكاسر لنمطية اللغة التي سادت الرومانسية ، والتقليدية .. إلا أنه، وبسبب من " الايدلوجيا " التي سادت هذا الشعر في فترات (ما) وبتحوله إلى أصداء للواقعية الإشتراكية ، ثم للواقعية الفردية ، كاد أن يسقط في فخ التقريرية والمباشرة ، والتحول به إلى العامية المثقفة ، والنحو إلى الرومانسية المنغلقة " ولم يسترح الستينيون للمباشرة ، والإيقاعية الظاهرة ، والرومانسية ، والوضوح ، ليميلوا إلى الغموض ، والتغريب ، واللا مباشرة والتركيز على الصور الشعرية ، وماتوحيه من إحالات مضمونية متعددة "( ) . وبتأسيس مجلة " شعر " نهاية الخمسينات ، والدعوة إلى ماسمي ب( قصيدة النثر ) كان الشعر يدخل منعطفا راهنا ، وجديداً بالدعوة إلى تحطيم ، أو تهشيم البنى القديمة للشعر، أو تلك التي يحاول شعر " التفعيلة " أن يتمسك بها كالأدلجة الشعرية على صعيد الموضوع ، والوزن ، والقافية على صعيد الإطار الخارجي . ودخل مفهوم القصيدة " المركبة " كما نعرفها الآن ذات التعددية الصوتية القائمة على الوجود اللغوي المحض . ويجدر بنا – هنا- أن نقرر بأن " النص المرسل " أو ( قصيدة النثر ) استمدت كثيراً من أبنيتها الداخلية ، والخارجية من شعر " التفعيلة " ابتداء من التوزيع البصري للأشطر ، والاستجلاء المجازي ، ومروراً بالبناء الفكري الداخلي : كاستخدام الرمز ، والأسطورة وطقس الحلم ، والإحالات التاريخية ، والدينية ، والسياسية ، والصوفية ( الفلسفية ) ، ونزعة الانهزام النفسي وعلى ماسبق فإن النقاد عندما يتحدثون عن القصيدة الحديثة فانما يعنون بها النص العروضي ، وعليه يؤسسون نظرتهم إلى النصوص الجديدة ، وبالرغم من الهجوم الذي يوجه إلى النص الحديث الجديد.إلا أن شعراء التفعيلة الذين جايلوا دعوة مجلة " شعر " ومابعدها قد استفادوا – كذلك – مما يدعو إليه النص الجديد من مبادئ نحو :
- " استعمال الصور الحية المحسوسة أو الذهنية " .
- إبدال التعابير والألفاظ القديمة الذابلة بتعابير وألفاظ مستمدة من تجربة الشاعر المعاشة .
- إخضاع البناء الشعري لوحدة التجربة والمناخ العاطفي العام بدلا من إخضاعه للتنظيم الفكري والتسلسل المنطقي .
- جعل الإنسان : بفرحه ، وعذابه ، خطيئته ، توبته ، بحريته ، وعبوديته ، وخضوعه،بحياته وموته : الموضوع الاول .
- معرفة التراث العربي : الروحي والفكري ، لتقييمه موضوعياً بلا خوف ، أو تردد، أو مداراة .
- تعميق المعرفة بالتراث الأوروبي ، الروحي ، والعقلي والإبداعي ، والاستفادة من تجارب الشعراء الغربيين ( ) " وباستفادة شاعر العروض من بعض مبادئ " النص المرسل " دخلت القصيدة الحديثة فضاء جديداً ، متحرراً من جميع الإيدلوجيات ، وصرنا لانميز – أحياناً – بين نص " عروضي " ، وآخر " مرسل " بسبب من الاتحاد في الأبعاد اللغوية ، والرؤى الشعرية ، فصارت القصيدة الحديثة – بوجه عام – كما يقول الدكتور عبد المهنا : هي " رؤيا ووعي حاد باللحظة الراهنة بما ينطوي على سلوك فكري يصدر عن إيمان " الأنا " بحتمية التغيير من خلال جدلية الصراع بين الأنا وتعاليها على الواقع ، فترى الواقع وتناقضاته أكثر مما يراه الآخرون ، فتتحول الممارسة الشعرية إلى نبوءة ترهص بنذر التغيير . يتحول الشاعر إلى نبي عصره ، مستمداً وحيه من أعماق الحدس ، فتتشكل رؤاه من عناصر معقدة يلعب فيها الرمز ، والأسطورة – الأجواء الخرافية – دوراً فاعلاً في جميع المتناقضات ( )" . وبهذا التعريف الدقيق - برأينا – للنص الحديث يكون القارئ مطالبا بدخول مدينة محاصرة باللغة ، عليه ان يفك هذا الحصار دائريا ، ليبدأ في فتح أبوابها المغلقة باباً باباً ، وهو مايعني التكيف وفق مقاييس تذوقية جديدة لاصلة لها بالتقليدية الشعرية البتة ،البتة .
(3)
وإذا كنا قد قررنا بأن إشكالية الشعر المعاصر تنحصر – جلها – في عدم استطاعة القارئ التكيف داخله ، وبالتالي حدوث عملية تجاوز لا مباشرة له ، انكسرت – على ضوئها – الذائقة الفنية ، فإن هذا الاستنتاج التقريري يعيدنا ، بل ويحيلنا إلى مسألة هامة تتحايث مع مفهوم الانكسار الذائقي والجمالي للمتلقي ، يلخصها قارئ الشعر الحديث – عادة – بـ ( الغموض ) ، وعلى ذلك يتكئ بوجه رئيس – وهي حجة واهية – لدى القارئ الذي لايحاول النزول إلى " البحر"، لتعلم السباحة فيه ، من خلال إعماله ذهنَه تارة ، والقراءة الواعية ، والمتعددة تارة أخرى ، وبالتالي تتدرب ذائقته على السباحة، فتتجاوز – بالتالي – خوف الغرق ، وتستجيب – جماليا – لما تقرأُ . وكيما نستجلي – نحن – هذه الحجة ، ونبلورها منهجياً ، وجب علينا أن نتتبع أهم المقاييس التي ينطلق منها الشعر الحديث إلى العالم الكوني الخاص به مبرّرين غالب دعاوى الغموض ، أو العماء التي ينطلق من مفهومها المتلقي الجديد ، ولنثبت من خلالها أن الأزمة ( الإشكالية ) إنما هي أزمة مقاييس تذوقية غائبة . وسوف نتوقف عند اهمها لبيان خطئيـّـة القارئ من صوابيته ، متوجهين بأدلتنا إلى قارئ لازال يتعامل مع القصيدة الحديثة من خلال مقاييس تذوقية تقليدية حيث القافية الرتيبة ، وإيقاع البحر الرتيب ، واللغة التقريرية التي لاتتعدى التشبيه – أحيانا – والمعجم الاستهلاكي ، أو الجمل الاستنساخية المكرورة ، والمعاني التي لاتتجاوز التوليد ، والمواضيع المحاكية للأصوات الطبيعية ، والمشاعر الإنسانية ، والرؤية الأفقية التي تبرز التفاصيل المادية، والوضوح الفني ، والصوت المفرد ، والغنائية الباردة . وهو نفس القارئ الذي سيفجئنا بقوله : ولماذا استطاع شاعر نحو " نزار – مثلاً – أو احمد مطر ، أو سعاد الصباح " لماذا استطاع نحو هؤلاء أن يخلقوا قارئاً متذوقاً 100% ؟ بينما شعراء نحو " السياب " أو " نازك الملائكة " أو … أو " أدونيس " - مثلا -لم يستطيعوا خلق نفس القارئ المئوي ، بالرغم من أن جميع هؤلاء انبثقوا من مدرسة " الشعر الحر " ونقول بأن شعراء من نحو " نزار " وإن كان من مدرسة الشعر الحديث إلا أنه خاطب قارئاً من العامة ، كأنصاف المثقفين ، وممن لاصلة لهم بالتراث الشعري العربي وهذه أدلتنا :
و أولاها : اعتماده على لغة هي الأقرب إلى العامية ، ومحاربته للبلاغة العربية ، بالنزوع إلى لغة ثالثة ، وثانيها : خداع القارئ بالإيقاع المموسق المموّه ، لبهرجة أشعاره ، وثالثها : أن شعره مثّل مرحلة (برناسية ) محددة بمواضيعها ، ولغتها لايعتدُّ بها الآن كثيراً ، ورابعها : أن شاعراً كالسياب ، أو نازك الملائكة ، أو صلاح عبد الصبور ، مازال شعره حتى الآن محتفظاً بقيمه الجمالية ، والفنية ، واللغوية ، ومازال يقدم وظيفة إبداعية ، وجوهرية شعرية حتى الآن ، فتعدوا بذلك مصطلح الشعر المرحلي الذي مثلته القصيدة النزارية ، أو" المطرية " او " الصبّاحية " .
 الأبنية الفنية ، والموضوعية ( الفكرية ) للقصيدة الحديثة :
الشعر : سواء التقليدي منه أو المعاصر ، إنما ينطلق من ثلاثة أبنية : البناء الإيقاعي ، والبناء اللغوي الفني ، والبناء الفكري الرؤيوي ، إلا أن مجال التأثيث الناسج لهذه الأبنية تباين كثيراً على مستوى النمطين ، بحيث بدا متداخلاً حيناً ، ومتعارضاً تمام التعارض حيناً آخر ، لاسيما إذ ما تُؤمل في " النص المرسل " .
* البناء الإيقاعي :
اتخذ الشعر المعاصر من وحدة " الوزن " – لا وحدة البحر – إطاراً له ، بينما لجأ " النص المرسل " إلى الداخل باحثاً عن إيقاع العبارة أو الكلمة ، بديلا عن " التفعيلة " . وإذا كان – هذا الأخير – قد وجد معارضة ، لاتزال صداها الرافضة حتى الآن ، فقد سبق إلى هذا الرفض ( الأب ) التفعيلي قبله ، إذْ لانستغرب : أن كثيراً ممن كانوا يدعون إلى التجديد ، والحساسية الجديدة كان منهم من يرفض شعر " التفعيلة " نحو صاحب " الحساسية الجديدة " ذاته : " عباس العقاد " ، بالرغم من أن هذه القصيدة كانت هي الإطار الملائم ، والمفضل لدى معظم الشعراء ، ومازالت ، لما لها من فوائد تخدم الذائقة ، ومنها : الحرية التعبيرية التي يتاح من خلالها تدفق الأفكار الشعرية دونما عائق : من قافية ، أو وزن محدد التفاعيل . ثم الأريحية البصرية ، والنفسية بسبب من كسر لروتين التوزيع البصري للقصيدة البيتية ، مما حدّ من سيمترية العمود الكلاسيكي . كما أن التفعيلة بموسيقاها " تساعد كثيراً على تمكين ألفاظ الشعر من تعدي عالم الوعي، والوصول إلى العالم الذي يتجاوز حدود الوعي التي تقف دونها الألفاظ المنثورة "( ). بينما التخلي عن التفعيلة لدى شعراء " النص المرسل( ) " – وإن كانت بعض الميزات السابقة ، كالحرية التعبيرية المنطلقة ، وكسر الرتابة البصرية تشملهم ، إلا أن هذا الفقدان الركني الهام انعكس على الوجود اللغوي ، والانفعال التعبيري ( معاً ) بتكثيف وجودهما ، وتعدد مصادرهما الصوتية ؛ وذلك لتغطية جانب نقص نتج عن الإزاحية الوزنية ، فكان عبئاً جديداً ، تحمله القارئ الذي لم يستوعب – بعد – القصيدة العروضية . وقليلاً قليلاً حتى كان النص التفعيلي يزاحم النص الجديد ،ويأخذ عنه مقولاته ذات الصبغة اللغوية - خصوصاً – مما حد من تدفق الإيقاعات الموسيقية في ظل التكثيف الجديد للقصيدة المعاصرة ، وجعل من معظم النصوص العروضية الحديثة باهتة الإيقاع الداخلي ، فلا تكاد تميز – أحيانا – بين نص موزون ، وآخر مرسل . وهذا دليل تطبيقي على ذلك ، أخذ عشوائيا :
"إن دمع الشبابيك يهوي على يأسي
ليس هذا الخراب خرابي
لاجنتي جنتي
وداعاً إلى الصمت أمضي إليه .( )
……………………
" فكيف أنصهر بسهولة كحلم
وهل يساوي كل جرحي
تلك السذاجات التي تجتمع في لحظة ملوثة " ( )
…………………
إن قارئا – للوهلة الأولى ، سوف يعتقد بأن كلا المقطعين هما من قصيدة واحدة . بل و أن المقطع الثاني هو استرسال متتابع للمقطع الأول ، بسبب من اتحاد المد الشعوري بينهما ، وصوت الأنا المتكلمة ، وقبل ذلك المسرب اللغوي ، ذو التركيب الواحد فنياً ، وإيقاعياً ( داخليا ) .. ولكن ماذا سنقول إذا ما أفصح بالقول : إن المقطع الأول ينتمي إلى التفعيلة العروضية ( فاعلن ، فعلن ) ، بينما الآخر لاينتمي - البتة – إلى أي وحدة وزنية ، وهو مرسل من إيقاع الوزن " والمقطعان لشاعرين مختلفين ، أحدهما يقطن بلاد " البلح " والآخر بلاد " العنب " وقد غاص إيقاع الأول في إيقاع المقطع الثاني لعدم التزام شعر العروض بحدوده الداخلية ، فامسى هذا الأخير – مرادفاً للنص المرسل في غموضه المدعى ، من قبل المستقبل .

- البناء اللغوي :
(1)
لعلنا لانخطئ إذا ماقلنا : إن قارئ الشعر الحديث ، أكثر شكواه إنما تتأتى من كون هذا الشعر غامض اللغة . وعلى ضوء هذه اللغة حكم على فساد ماء الشعر ؛ لأن فيه انتفاًء للسهولة اللفظية التي كان يمجدها الشعر الرومانسي ( خصوصاً ) ، وبعض الشعر المؤدلج الحديث، بما يحتم عليه أن يعدل من وضع رأسه ، ووجهته ، ويقر بدوران الأرض ، وتغير الفصول ، فإذا كان الإنسان – بوجه عام – مفطوراً على حب التمايز ، والميل إلى المغايرة ، والتفرد ؛ فإن الشاعر ، أو الفنان – بحكم موقعه الكوني – من أكثر البشر حباً في الخروج على المألوفات في الأشياء ، والتأريخ شاهد على مركزية هذه المقولة : سياسياً ، واجتماعيا ، وعلمياً . وعلى مستوى الإبداع "فإن لكل عصر بيان " – كما يقول ابن شهيد – والصراع بين القديم والجديد ، التقليدي ، والحديث - ليس آنيا فحسب : ألم يُتهم المتنبي – مثلاً – بالخروج على السائد ، ألم يرمَ بتهمة كسر ذائقة القراء حين وجد بعض النقاد كـ( الآمدي ) –مثلا - في بعض شعره استعارات غريبة ، وجديدة ، وجه الشبه فيها متباعد ، ولا ألفة فيها . وثمة كثيرون قبل المتنبي ممن اتهموا بالخروج على المألوف ، والسائد كأبي تمام ، وأبي نواس … وغيرهم . ولكن هل سقط المتنبي لخروجه عن المألوف ، ولذائقة المعلبة ، أم أنه استطاع – بعدئذ – ان يخلق قارئا جديداً متحرراً من سلطة المألوف . وماأشبه حديثنا بالبارحة .
(2)
يقوم النص الشعري الحديث – ببنائه اللغوي – على مصطلح " الغموض الفني " ، لا الغموض اللغوي الذي يقول به البعض ، وذلك من خلال انفتاحه - اللا محدود – على الوجود اللغوي القائم على الاستعارة ( أو المجاز ) . والبعض من الشعراء ، وإن كان ذا معجم لغوي محدود، إلا أن الاعتماد على إعادة إنتاج الألفاظ بالطرق الاستعارية المركبة ( مجاز المجاز ) ، قد يخفي كثيراً من محدودية المعجم اللغوي لبعض الشعراء ، ناهيك عن اللجوء – كثيراً – إلى الاشتقاقات الصرفية الجديدة ، بما مثل تاريخية جديدة لاصلة لها بالأسلاف ، وهو ما أحدث صدمة للذائقة التي مازالت في جُلها تسكن في جلباب التشبيه ، أو الاستعارات الباردة ، والقاموس الاستنساخي للشعر.
وانفتاح النص المعاصر على الوجود اللغوي لايقتصر على اللعبة المجازية وحدها ، بل جر ذلك إلى انساق فنية لها جذورها البلاغية : كالحذف ، والتقديم ، والتأخير ، والملفوظات ، الاعتراضية ، والفراغات الصامتة والرمز واستعمال الحوشي من الألفاظ ، بإخضاع ماسبق إلى الرؤية الجديدة التوظيفية ،ولعل بعض الأمثلة من الشعر الحديث توضح جميع ماسبق :
" متوجاً بصولجان الرغبة في استئناس جراد الوحش الضال
بين أقدامي،وخطاي .
أغادر آخر الخرائب المتربة في سمائى
وأدخل قبلة الغيم مؤتلفاً مثل قوس السؤال "( )
إذا استطاع المقطع السابق أن يثير شيئاً (ما) في نفس المتلقي ؛ فقد حقق الشاعر إنجازاً عظيماً ، ولكن ماذا لو وقف القارئ متصخراً – من الصخر – أبله لايعي من أمره شيئاً ؟ أو وقف آخر – ساخراً – مما يقرأ ، نابذاً به جهة ما؟.
إن مفردات المقطع الشعري تامة الوضوح:متوجاً / صولجان / الرغبة / استئناس / جراد/ الضال …. الخ . ما إن تتضام ، وتسند إلى غيرها من الألفاظ ، حتى تبعث فيها الحياة ، فتتحرك في أنساق تعبيرية ( شعرية ) جديدة تبعث على الحيرة في نفس القارئ، فيقف عندها عاجزاً عن استلال المعاني المخبوءة تحت ظلال التراكيب الانزياحية ، والتي سلسلها الشاعر تترى ، لتخرج جميع الألفاظ من قاموسيتها إلى خلفيات إيحائية ، ورمزية، واتساعية بحاجة إلى قارئ متمرس يجيد فن التعامل مع كل شاعر على حدة . وكيما يستطيع قارئ (ما) أن يقف على خلفية تعبيرية من نحو " متوجاً بصولجان الرغبة " ؛ ليربطه بما بعده. – بعدئذ – وجب عليه أن يكون ذا ثقافة شعرية عالية " فالصولجان " في سياقه الانزياحي يتفرع في تركيبه إلى " مادية " لها طرفان : أولاهما : مادية جامدة لها دلالة " رمزية " هامة ، وثانيها : مادية متحركة لها خاصية الانفعال بدلالة " الرغبة " وبذلك يكون " الصولجان " رمزاً " له دلالة سلطوية ، قمعية ، وديكتاتورية ، وفي إسناد" الصولجان " إلى " الرغبة " إيحاء بشهوة نفسية مضطرمة تحلم بـ( الانتقام ) ، ولكي تكون رغبة " الانتقام " فاعلة ، فإنها لا تتحقق دون الإمساك بزمام المراد ، وبالتالي القدرة على القيام بـ( الرغبة ) وفي استعمال لفظ " الاستئناس " حيلة خداعية مموهة ، لاجتذاب " الجراد" التي عبر بها للدلالة على " الكثرة " تارة ، وإيحاء بـ( التحقير ) مرة أخرى .. وفي المقطع السابق تبدو لنا شخصية ساخطة ، ذات نفسية مضطربة ، ومهزومة ، لا تملك سوى الأحلام ؛ لتتجاوز من خلالها بعض شقائها . وحتى يوحي لنا الشاعر ببعض المعلومات الخاصة عن عمر الشخصية نجده يشير إلى بياض شعر رأسه من خلال تعبير " أدخل من قبلة الغيم " فالغيم رمز إلى مرحلة عمرية للإنسان ، وفي تعبير " القبلة " كناية عن تعدد المراحل العمرية بمسمياتها : قبلة الطفولة ، قبلة الشباب، قبلة الشيخوخة …. الخ ، وللمبالغة في تعميق مرحلة " الغيم " (الشيخوخة) ، فانه يستخدم الرسم البصري في ملفوظ " مؤتلفا مثل قوس السؤال " وقوس السؤال ، ليس سوى علامة الاستفهام التي تأتي دلالة على التساؤل(؟) الاتشبه هذه العلامة – في رسمها – إنساناً ( شيخاً ) ، ( كهلاً ) ، وقد تحدب ظهره ، فبدا أشبه بـ( قوس السؤال ) (؟) . وإلى مقطع آخر - لشاعر آخر :
" دورت وجه حصاتك الصوان أملكها
-وشمس التية ، والظمأ الرفيقان -
ارتميت على وجوهك في الفلاة تفتحت
طرق التحير بناة سرية تخفي وتسفر
حيثما سميتك الحجر الأمين ياشعر… "
وفي قصيدة أخرى لنفس الشاعر :
" تهدت ناقة الليل أستطف لهامش
الريح المليئة بالظلام الكتر
في اللحيتين في جرش اللغام الرعد
وانتثرت من الرغو النجوم الفضة الماء المدمم ، والغبار "( )
…………………
ففي المقطعين السابقين للشاعر " محمدعفيفي مطر " نحن أمام أكثر من وجه فني ، إذ نجد الحذف المتباعد القرائن كما في الشطر الأول – من المقطع الأول : "دورت وجه حصاتك الصوان أملكها " ، إذ قد يقع القارئ في شرك الغموض حذاء اللفظين " الصوان / أملكها " بدغمهما في سياق التعبير النصي ، وذلك لحاجته إلى بعض المهارات الذهنية البلاغية بإعادة الشطر – ذهنيا – على هذا النحو : " دورت وجه حصاتك دورت وجه الصوان " ولابد له كيما يعطي لملفوظية " أملكها" قيمة دلالية أن يسبقها بـ (لام) التعليل – لأملكها- ويكون الضمير المتصل عائداً على أحد اللفظين " حصاة " أو " الصوان" ولإمكانية تعدد قراءت النص جملة في سياقات عدة ، فإن نحو هذا الشطر يحيلنا إلى تقديم ، وتأخير يتيح لنا إعادة انتاج المعنى هكذا : دورت وجه الصوان أملكها حصاتك " ، وينقلنا الشطر الثاني – من نفس المقطع – إلى ملفوظ اعتراضي ، ليس فيه الواو حرف نسق عاطف ، وإنما هو واو الحال ، بما يعني حاجة القارئ – الحديث – إلى إلمام بالنحو العربي إلى جانب الثقافات الشعرية الأخرى . وشاعر نحو : "محمد عفيفي مطر " مغرم كثيراً باستعمال الحوشي من الكلام ، باستعادة مفردات قاموسية ، وانتاجها استعارياً . إن ألفاظا من نحو : أستطف ، الكتر ، جرش ، اللغام ، اللحيتين – المدمم- " الفاظ تستعصي معانيها على معظم القراء ، وقد لجأت – شخصياً – إلى الاستعانة بـ ( القاموس ) لتفسير لفظي " الكتر " و" استطف " حيث الاولى تعني " السنام " والثانية تعني " العلو " . وإذا كنا قد أكدنا على إمكانية خلق عدة قراءات – أحيانا- لنص ما، اونصية (ما) داخل نص كبير ، ومثلنا لذلك بجزئية صغيرة – سابقة – فإن الفراغات الصامتة ، أو اللغة الصامتة تلعب دوراً فاعلاً – أحياناً – لانتاج كثير من المعاني ، وما أكثرها على مستوى القصيدة الحديثة ، والجديدة على وجه أخص ، ولكن – قليلاً – هم فقط من يُدخل هذه التقنية الفنية عن وعي ، وإدراك بما يفعل ، وتحيلنا فضاءات اللغة الصامتة إلى أحد شيئين في النص الحديث : إما إلى إيحاء بـ( الصمت ) المجرد أو إيحاء بالحذف لغرض إشراك القارئ في الجو الداخلي للمعاني ، فمن مثال الأول قول " صلاح عبد الصبور" من قصيدة – رحلة في الليل :-
" معذرة ، صديقتي … حكايتي حزينة الختام .
لأنني حزين … " ( ديوان صلاح عبد الصبور)
………………
فالفراغ الصامت بعد " صديقتي " إيحاء للقارئ بأن ثمة مرحلة من الصمت اعقبت ملفوظ " صديقتي " وهذا الصمت يؤوله القارئ نفسياً، إذ أن المقام " الحزين " يستدعي بضع لحظات من الصمت بين كلام وآخر ، وهاهنا كان " التنهد" هو المؤول ، لأخذ النفس الزافر بالحزن ، ثم يأتي فراغ آخر ختام المقطع ليوحي بفترة صمت أخرى ، تتجرد من اللغة ..
" ومثال الآخر قول أحمد عبد المعطي حجازي " :
" وأن علي التحلي ببعض الشجاعة "
(………………………..)
وأقول لهم :
- لن أجيب عليكم فلستم قضاتي .
أقول لهم :
- قد يكون صحيحاً ، وقد لايكون .
أتته يدي .. أو طوته الظنون !
أقول لهم :
بل أنا مذنب ! فاقتلوني !
(………………………….) ( )
فالفراغان – الكبيران – الصامتان يعبران عن لغة متروك أمرها للقارئ، وهو يتذوق النص عند قراءته تاماً ..


البناء الفكري :
أعني بـ( البناء الفكري ) للقصيدة المعاصرة : مجموعة الإحالات ، والمدخلات الرؤيوية ، التي ينبني بها النص وعليها يقوم موضوعياً ، وفكرياً ، ونفسياً ، وينتسج بها فضاء اللغة . وتقوم القصيدة الحديثة على جملة من المدخلات الرؤوية ، والفكرية أهمها : الإيدلوجيا ( ) / الميثولوجيا / التصوف الفلسفي / تداخل الأصوات(التناص)،والأنوات طقس الحلم السريالي ( الميتافيزيقا) / الرمز الأسطوري .
ويهمنا – ثمة – أن نقوم ببعض التفصيل لما سبق ، كيما تتوضح رؤية هذه الدراسة أكثر :
 الميثولوجيا ، والرمز بالأسطورة ، والقناع
اتخذ الرمـز بالأسطورة محاور عدة فمنها " مايتصل بحضارة الإنسان عبر التأريخ كـ(بابل ، وتموز كما لدى الشاعر : نقولا واكيم " أو " قدموس " عند سعيد عقل .. ومنها ما ارتبط بشعور وطني نضالي كـ(دنشواي ، جيكور ) عند السياب … ومنها ما ارتبط بحدث تأريخي كما لدى " أدونيس " في كتاب : التحولات والهجرة … يجعل عبد الرحمن الداخل ( الصقر ) شخصية أسطورية رمز بها إلى التحولات الإنسانية في نموها وانفتاحها ، … كما جعل " السياب " جميلة بوحيرد " رمزاً للنضال ، والتحرر في " أنشودة المطر "( ) . ويدخل تحت مفهوم الرمز التأريخي ، الرمز الشعبي كأبي زيد الهلالي ، وعنترة ، والرمز الديني : كالمسيح ، والحلاج ، وصلاح الدين … الخ . وإذا كانت القصيدة الحديثة – الأربعينية ، والخمسينية ، والستينية – قد جعلت من الرمز بالأسطورة ، والنموذج الأعلى ( القناع ) هدفاً مضمونياً ( جماليا ) للنص التفعيلي ، كما جعلت من ضرورة " الأدلجة " واجباً فكرياً ؛ فإن النص الحداثي الجديد سواء منه " التفعيلي " أو " المرسل " قد أضحى ينظر إلى مسألة الرمز بالأسطورة والقناع نظرة استثناء ليست ضرورية ؛ لاستهلاك معظم " النماذج " فنياً ، كما صار لكل نص أد لجته الذاتية وميثولوجيته الخاصة به ، متحرراً من التسلط الفكري الذي تحكم بالقصيدة الحديثة . وإذا كان الأمر كما نقول ؛ إلا أن القارئ مازال مطالباً بثقافة شعرية مرجعية ، كيما يفكك مايقرأ من رموز تعالقية ، حديثة ، أو جديدة.
أن شاعراً نحو " السياب " – مثلاً – بحاجة إلى هذا القارئ ، لفك مغالق رموزه التي ترتبط – عادة – بذاتيته الخاصة . ونفس الحال مع أدونيس – كذلك – . إذ كيف لقارئ ليست لديه هذه العدة أن يدلف إلى الرموز التأريخية التي يحاورها أدونيس ، ثم يسقطها على الواقع المعاصر بوعي مدرك ، كاشفاً به حقيقة الشعر الأدونيسي " التداخلي". وقمين بنا أن نومئ إلى حقيقة بعض تلك الرموز في شعر بعض أعلام الشعر الحديث ، والتي كانت بعضها " مستمدة من ديانات أخرى غير العقيدة الإسلامية ، بل ومما تأباه هذه العقيدة ،كفكرة الخطيئة ، وفكرة الصلب ، وفكرة الخلاص ، فضلاً عما يستبيحونه لأنفسهم لكلمة " الإله " كأنما هي ماتزال لديهم بمعناها الوثني …"( ) بما يولد عند بعض القراء نفوراً ؛ لانزياح الشاعر بعيداً عن الأفكار الأيدلوجية ، والعقائدية التي تبني تصوراته للكون ، والوجود ، والألوهية ، وهو مايسبب خدشاً للذائقة القرائية ، فالفنان انما يخاطب قوة معينة في القارئ ، وحدوث تصادم بين هذه القوة ، وماتتلقاه من أفكار ، يحدث إنكساراً ، ونكوصاً ، فلا تحدث الاستجابة المتوقعة ، بغض النظر عن القيمة الفنية للمقروء ، ولعل في " قصيدة المسيح بعد الصلب " أحد أبعاد هذه الإشكالية – كمثال بسيط - . أو كما في بعض قصائد" أغاني مهيار الدمشقي " لـ " أدونيس " .
* تعدد الأصوات ، والأنوات ، وتداخلها : ( التناص )
في حين كانت القصيدة التقليدية تعتمد على الأفقية التعبيرية ( الوصفية ) ، ذات الصوت الغنائي ، والأنا المفردة التي تبنى على المحاكاة للأصوات الطبيعية ، والمشاعر الإنسانية ؛ جاءت القصيدة الحديثة ؛ لتهشم تلك السيرورة . فهي ترفض الأفقية وتنحو إلى العمودية التي تتكشف الأبعاد ألماورائية للواقع ، وأضحى النص الحديث لايتم في خطية ، أو أفقية واصفة تهتم بالتفاصيل ونقل المعلومات ، وانما الشاعر فيه يدير أحاسيس فحسب " ويصالح بين المتقابلات : الذات ، الموضوع ، الطبيعة ، التاريخ ، الضرورة ، الحرية … والموضوعات في هذا الشعر تتداخل ، وتتراكم "( ) بالرغم من محدودية هذه المواضيع التي قدلا تتجاوز نقطة واحدة – أحياناً – لا أكثر … كما أمست حركة الإبداع تسير من الحاضر نحو الماضي ، لتعود للحاضر .. كما يقول الناقد المغربي " رشيد يحياوي " ، بما يعني تعدد الأصوات ، وتداخلها : ماضياً ، وحاضراً ، بل ومستقبلاً – كذلك – وبالتالي : تعدد الانوات .وثمة أمثلة كثيرة من الشعر المعاصر ، أو الجديد تؤيد هذه القالة إبتداء بشعر " السياب – في العراق – كمثال – ومحمود درويش – في فلسطين – ، والدكتور عبد العزيز المقالح –في اليمن – وانتهاء بـ(أدونيس)– مثالا في الحداثة الجديدة–. وكمثال تطبيقي على هذا النهج الحديث قصيدة " محمود درويش " ( رحلة المتنبي إلى مصر ) والتي يقدم فيها الشاعر وصفاً لرحلة المتنبي إلى مصر لغرض اسقاطها على الواقع المعاصر من وجهة نظرشخصية ، والمطلع لقصيدة " المسيح بعد الصلب " لبدر شاكر يجد مثالا صادقاً على مفهوم " التعدد الصوتي " إذ نجد عملية تماه يتم بمقتضاها حلول " الأنا " للشاعر في " الأنت " ( المسيح ) وتتحول " أنا " الشاعر إلى " أنا " لا " أنا " أو إلى أنوين : أنا المسيح المتكلمة في النص و"أنا" " السياب" القابع ، او المحتجب خلف تلك " الأنا " والأنوان تتداخلان ، وتتخارجان ، تتطابقان ، وتنفصلان بل تتفتحان على " أنا " ثالثة هي " أنا " تموز : "الأسطورة "( ) . وللدكتور عبد العزيز المقالح – في اليمن – قصائد في هذا النحو التعددي للأصوات ذات التناصات التأريخية نحو قصيدة "مابعد الطوفان "، " هابيل الأخير"، " سيف بن ذي يزن " ، و"عودة وضاح اليمن " …وغيرها . ولن نمثل لأدونيس فشعره – معظمه – متداخل الأصوات ، والأنوات .. بما يجعلنا نعود لنؤكد على قارئ متسلح بمقاييس تذوقية ، وثقافة جديدة .
 الانفعال الصوفي :
مازال القارئ العربي يحيا – حتى الآن – وفق مفهوم تقليدي للتصوف في الأدب بما يحدث له لوثة في الذائقة ، حين يدرك بأن التصوف في الأدب ، والشعر – خصوصاً – قد أُفرغ – تماماً – من دينيته الروحية، وأضحى النص الجنسي ، مثلا – أو( الاستعرائي) هو نوع من الصوفية ، إذا ما التزم الشاعر شروط هذا النص – كالمرجعية اللفظية الصوفية – ..أما لماذا " الجنوسية " فلأن ثمة تشابها بين الطقوس الجنسية ، والطقوس الصوفية ، إبتداء بمرحلة الخلوة ، والانقطاع عن العالم الخارجي ، وإنتهاء ب( الآنتشاء ) لدى الصوفية " واللذة لدى العشاق ، ثم الفناء في الآخر ، أو الموت فيه . وفي سبيل تأصيل هذه التجربة ، اعتمد الشعراء المرجع الصوفي ، لأن فيه " تكثيفاً للدلالة ، وتخصيباً للغة : الكثافة في التخيل ، وفي ترهيف الإشارة ، والإيحاء ، والإيماء والترميز "( )
" قال ادن
فدنوت
تكاشفنا
وعلى شهقات الصدر المفجوع
تلمسني معراج النوم ( )
…………………
تأمل كيف يستخدم شاعرنا ألفاظاً ذات مرجعية صوفية من نحو " المكاشفة ، والمعراج " ليحقق بذلك قيمة شعرية مفرغة من البعد الديني للتصوف . ففي " التكاشف " – هنا – إيماء إلى " الفعل الجنسي" – نفسه – وفي " معراج النوم " إشارة إلى بلوغ الذروة ، ثم التماهي ، والذوبان ، والموت في الآخر ( الأنثى ) وهي حالة أشبه بحالة الصوفي " حين يتجاوز وضعية الانقسام ، والتناقض ، والانشطار" وبذلك تتحقق النشوة الروحية ، بتمام النشوة الجسدية ، وبلوغها الذروة ..
………………………..
" ويفضل شاعر نحو " أدونيس " أن يستخدم المصطلح الصوفي لوصف تجربة استشفاف المجهول ، أو الباطن الكامن وراء أستار الواقع الكثيف ، أو الظاهرة ، ويجعل من هذه التجربة مرادفاً أصيلاً في تراثنا العربي لما يعرف في الغرب بـ( الحركة السريالية ) "( ) ، بنزوع هذه التجربة إلى طقس الحلم ، ونزعة الاستغراق في اللاوعي ، والميتافيزيقا ، إذ تشيع في كتاباته الصوفية فكرة " وحدة الكون " المرتبطة بفكرة "تناسخ الأرواح " وهي فكرة ارتبطت بـ(الإمامية الصوفية ) ، لكنه قد يلجأ إلى مقام الأنثى ليعبر عن نفس الفكرة بـ( الجنس)
أ" اقتربي يا شجرة الزيتون / اتركي لهذا المشرد ان يحضنك
أن ينام في ظلك
اتركى له أن يسكب حياته فوق جذعك الطيب" ( مفرد بصيغة الجمع)
……………………
وكيما يدلف القارئ إلى نحو هذه النصوص التي تتخذ من " الجنوسية" تصوفاً شعرياً ، عليه أن يكون متسلحاً بثقافة صوفية - ولو محدودة – كما يلج إلى هذه النصوص دون الوقوع في الحيرة ، والرفض لما يقرؤه، كأن يتهم الشاعر بالحرمان ، أو التحريض الجنسي المحض ، فتفوت عليه القراءة الجمالية الاستمتاعية ..
وبعد :
فإذا كنا خلال دراستنا هذه ، قد ألقينا لائمتنا على القارئ وحده ، ذلك الذي نخاطب فيه عقلية ، يجب أن يكون لها مرجعيتها ، وخلفيتها الثقافية العالية : سواء على مستوى اللغة : نحواً وصرفاً ، وبلاغة ، أو على مستوى الثقافة الشعرية : إيقاعاً ، وبناء فكريا، وموضوعياً – وهو عبء نعترف أنه كبير على قارئ يحيا هذا العصر السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، والثقافي – إلا أننا لجديرون بإنصافه ، ونحن نحمّل كثيراً من الشعراء تبعات انحدار الذائقة الجمالية لدى القارئ العربي لوقوع البعض في كثير من الانزلاقات التي يجب التصدي لها ، وأهمها :
 الإفراط في استخدام الرموز ،والأساطير اليونانية ، أو الشعبية التي قد لا يدرك القارئ العربي شيئاً عنها .
 تضارب الأفكار ، وتعاكسها ، وتناقضها في كثير من النصوص .
 التغريب الفاحش : ، واللجوء – أحيانا – إلى الألفاظ الحوشية التي عفى عليها الزمن .
 الاتجاه للكتابة دون الإلمام بابسط القواعد الشعرية ، ودون نضج للأفكار لدى البعض .
 فوضى التقليد ، والعبثية والمجانة ، واللاعقلانية المفرطة في الكتابة ، وهي سمة تكاد تغلب على كثير من شباب اليوم .
 الدخول إلى الحداثة من الباب الغربي ، والانقطاع التام عن التراث العربي ، بعدم قراءته - أولاً - للاستفادة منه ، بما يؤدي إلى اضطراب الرؤية الشعرية لدى أمثال هؤلاء .
 التجاهل التام لدور المتلقي بعدم عقد صلة (ما)بين الشاعر ، وقارئه.
 الانفتاح على اللغة دون وعي بالأدوات الفنية المساعدة على تبليغ الخطاب الأدبي إلى الآخرين .
 استعمال اللغة الصامتة ، أو الفراغات الصامتة دون إدراك، أو وعي ، بما يدل على الجهل الشديد لدى أمثال هؤلاء ، إذ نجد كثيراً من النصوص ، وقد حشاها صاحبها بالتنقيط الموزع هنا ، وهناك دون علم بما يفعل ، وكأنها " مودرنية" وحسب .
 الانطلاق إلى الحداثة من مفهوم : التخلص من الوزن ، والقافية ، وما أغبى نحو هؤلاء الشعراء ، الذين يعتقدون أن هذه هي الحداثة لأن نحو هذا الاتجاه دال على عجزهم ، وركاكة ثقافاتهم ، ووهنها.
من أهم عثرات النص الحديث وقوعه في النسقية الواحدة بما ينطبق على كثير من الشعراء قول نزار قباني بأن الشعراء الحداثيين " يتشابهون أسلوباً ، ولغة ، وأداء ، كما يتشابه عشرون توأما ، نزلوا كلهم من بطن واحدة ، فإذا ماقرأت لواحد منهم أغنتك قراءتك عن قراءة الباقين ، فكأنما الشعر الحديث كله قصيدة واحدة يوقعها مئة شاعر " .
الهوامش

- الأزمة أمّ الإبداع ، عبد الغفار مكاوي ، مجلة فصول ، جـ2 ، 1992م.
2 - موت الشعر ، أحمد مرسي ، إبداع ، عـ 8 ، 1991م.
3 - المصدر السابق .
4 - انكسار النموذجين : الرومانسي والواقعي في الشعر ، شكري عياد ، عالم الفكر 19/1988م.
5- قتل الأب والكتابة الجديدة ، سهيل نجم ، أصوات عـ(3) ، 1993م.
6 - الحداثة : معركة ام أزمة مقاييس ، متري نبهان ، الفكر العربي ، عـ 85 ، 1999م
7 - الحداثة في القصيدة المعاصرة ، عبد الله المهنا ، عالم الفكر عـ (19) ، 1988م.
8 - التجديد في الشعر العربي الحديث ، د. يوسف عز الدين ، ط 1971م، السعودية.
9 - مازلت أؤكد على هذه التسمية لأنها الأنسب – باعتقادي – لهذا الجديد من الشعر .
10- محمد علي شمس الدين : من نص منشور في مجلة الحكمة اليمانية ، عدد 215، 1999م.
11 - محمد المنصور ، شاعر يمني ، المصدر السابق
12 -عبد الودود سيف – شاعر يمني – من ديوانه الأول " زفاف الحجارة للبحر " ط، 1999م.
13 - محمدعفيفي مطر ، من ديوانه " أنت واحدها " وهي اعضاؤك ، قصيدة " غنائية حجر الولاء والعهد .
14 - أيضا ، المصدر السابق ، قصيدة " امرأة … "
15 - أخذ هذا المقطع الشعري من دراسة منشورة للدكتور " محمد الخزعلي " مجلة عالم الفكر " . مصدر سابق .
16 - يعد الشعر الحديث " جداً " غير خاضع لمفهوم " الأيدلوجية " التي خضع لها شعر التفعيلة في بداياته.
17 - شعر الحداثة …، هنري نبهان مصدر سابق .
18 - قضايا ومواقف ، ط 1971م ، عبد القادر القط
19- المفاهيم معالم " محمد مفتاح ، ط 1 ، 1999م .
20- الأقنعة وتعدد الأصوات ، عبد الواسع الحميري ، مجلة الثقافة ، العدد (41-42)1998م
21- من مقابلة لـ( محمد السرغيني ) " منشورة في صحيفة " الاتحاد الإشتراكي"17 مايو 1992م .
22 - علوان الجيلاني – شاعر يمني – من قصيدة " الوردة تفتح سرتها " ديوان الوردة … " ط1 ، 1998م .
23 - الدال والاستبدال ، عبد العزيز عرفه ، ط 1 ، 1993م
24- إضاءة النص ، اعتدال عثمان ، ط1 ، 1988م .









أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "كتب ودراسات"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024