الخميس, 18-أبريل-2024 الساعة: 10:59 م - آخر تحديث: 07:17 ص (17: 04) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
كتب ودراسات
د.آمال قـرامـي -
التشبّه بالآخر من خلال بعض كتب التراث
تندرج معالجتنا لموضوع التشبّه بالآخر في إطار اهتمامنا بقضيّة الاختلاف في الثقافة العربية. فالخطاب حول الآخر المتشبَّه به هو في الواقع، خطاب حول الاختلاف: اختلاف الذكر والأنثى، الكبير والصغير، الخاصّة والعامة، الحرّ والعبد، الغنيّ والفقير، الحضري والبدوي، السويّ والشاذّ، المسلم وغير المسلم.

تضع مسألة التشبّه علاقة الأنا بالآخر موضع سؤال كما أنّها تبرز الوشائج بين الثقافة الأصلية والثقافة الوافدة. فالآخر هو ما هو "غيري" بالنسبة إلى الذات أو الثقافة ككلّ. ولئن كان الآخر، في كثير من الحالات، الهامشي الذي يستبعده المركز فإنّه عامل فاعل في تكوين الذات وتحديد الهوية.

وبالعود إلى بعض كتب التراث والتأمّل في خطاب عدد من الفقهاء حول هذا الموضوع، نتبيّن أنّ العلاقة هي بين آخر وأنا متكلّمة عنه. فقد انشغلت فئة من العلماء بضبط العلاقة بين المتشبِّه والمتشبَّه به وحاولت تحديد مَن يتشبّه بمَن ومتى يتمّ ذلك وما هي صور التشبّه المقبولة؟ فاستحسنوا مثلا تشبّه الصغير بالكبير والمتعلّم بالعالِم والمُريد بالشيخ والضعيف بالقويّ. ولمّا كان الكلام عن التشبّه المحمود يستدعي آليا الخوض في التشبّه المرذول، فقد تطرّق العلماء إلى أنواع التشبّه المستهجنة كتشبّه الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل وتشبّه الحرّ بالعبد أو العبد بالحرّ أو الكبير بالصغير أو الخاصّة بالعامة في الملبوس والمأكول والمشروب والمركوب واللغة والسلوك وتقنيات الجسد وغيرها من العلامات التي تقوم عليها سيميولوجيا الحياة اليومية. ويتبدّى من خلال معالجة الفقهاء لموضوع التشبّه، أنّ هذا الفعل محكوم بمعاييرَ متعددة منها الجنس والطبقة والسنّ والدين والوضع القانوني وغيرها.

وقد ارتأينا في هذا البحث، اتخاذ تشبّه المسلم بالآخر، وخصوصا" الذميّ" وتشبّه غير المسلم بالمسلم، مطية للنظر في صلة الثقافة العربية بغيرها من الثقافات ووسيلة للكشف عن تصوّرها لانتظام الأمم وموقع المسلم داخل العالم ورؤيتها للعلاقة التي يجب أن تكون بين الثقافة المحلية والثقافات الوافدة، وبين الثقافة المهيمِنة والثقافة التي يجب محاصرتها حتى لا تنقلب بدورها إلى ثقافة مهيمنة. وقد بدا لنا من المفيد استقراء عدد من المصادر المغربية والمشرقية للوصول إلى فهم خلفيات موقف جماعة من الفقهاء من ظاهرة التشبّه بالآخر.

1ـ من مظاهر التشبّه

* تشبّه المسلم بغير المسلم

لمّا كان أساس التفريق بين المسلمين وغيرهم الدين فقد نظر العلماء إلى مسألة التشبّه من خلال هذا المعيار. وكان هذا العامل حاسما في توجيه النظرة إلى الآخر وفي التعريف به وتقييم ثقافته.[*] ومن الأمثلة التي يوردها عدد من الفقهاء لبيان التشبّه المنهي عنه سواء في الأمور الأصلية أو الفرعية: النهي عن التشبّه ب"الكفّار" في الصلاة[†] والنهي عن الصوم المتتالي كما يفعل النصارى وعدم التشبّه بهم في إيقاد المصابيح في المساجد نهارا إضافة إلى النهي عن التشبّه بهم في الجنائز والدفن. كما ورد النهي عن التشبّه بغير المسلمين في اللباس وفي العادات مثل قيام البعض للبعض أو المؤاكلة والشرب والمركوب والاحتفال بالأعياد مثل النيروز وخميس العدَس أو اعتزال فراش الحائض أو التكلّم بلسانهم إلى غير ذلك من العادات المتأتية من التأثّر بخصال النصارى أو مجاورة القبط أو اليهود والأنس معهم والتي تعتبر، من منظور الفقهاء، ذميمة ورديئة ومن محدثات الأمور، ومخالفةٌ لما مضى عليه السلف.

* تشبّه غير المسلم بالمسلم

لئن عدّد العلماء الأمثلة الدالة على تشبّه المسلمين بالأعاجم فإنّ حديثهم عن صور تشبّه أهل "الذمّة " بالمسلمين جاء موجزا. وكانت الأمثلة مرتبطة، في الغالب، بالمظهر الخارجي. فتشبّه غير المسلم بالمسلم يتجلّى في الملبوس إذ كان بعض النصارى قد تزيّى على رأسه بزي المسلمين وكان اليهود في قرى طرابلس يلبسون لباس قبائل القطر[****]. وكانت العادة بتونس أنّ نساء النصارى يستترن كالمسلمات غالبا، من غير علامة. كما كانت نساء يهود إفريقية لا يلزمن زيّا يعرفن به. ويدفعنا هذا الإيجاز في الإخبار إلى طرح الأسئلة الآتية: هل كانت ظاهرة تأثّر المسلمين بغيرهم أشدَّ بروزا للعيان من تأثّر أهل "الذّمة" بهم؟ أم أنّ مردّ الإيجاز التقليل من شأن ثقافة الآخر بتهميش تاريخه الاجتماعي وتعمّد تناسي إسهامه في الحضارة العربية، خاصّة وأنّ كتابة التاريخ ارتبطت بالأغلبيّة ؟ ثمّ ما هي الأسباب التي جعلت العلماء ينشغلون بالملبوس أكثر من غيره من مظاهر التشبّه؟ هل إنّ ذلك راجع إلى أنّ الثياب من أهم العلامات السيميائية المنتجة للمعاني كما أنّها من أكثر المحددات إسهاما في إنتاج التراتبية وفي إبراز علاقات التأثر والتأثير بين الثقافات وأنّ الرموز هي الممثّل الأساسي للثقافة، تلك التي تعرّف بأنّها جسد من الرموز ذات الدلالات الوظيفية المختلفة؟

ولئن كان موقف أغلب الفقهاء منع التشبّه بين المسلمين وغيرهم، فإنّ طائفة تفرّدت بالقول بجواز تشبّه غير المسلم بالمسلم حجّتها في ذلك" أنّ النبيّ (ص) نهى العرب عن أن يتشبّهوا بزي العجم، ولم يأت عنه عليه السلام أنّه نهى العجم أن ينتقلوا لزي العرب."[*****] ولعلّ السبب في السماح لليهود والمسيحيين بارتداء ملابس المسلمين واتباع نمط عيشهم راجع إلى عامل نفسي. ففي إقبال الآخر على الزي العربي والعادات العربية ما يشعر المسلم بأنّ ثقافته تفضل ثقافة الآخر وأنّه نجح في نقل قيمه إليه وفي التأثير فيه فإذا هو واقع تحت أسره مفتون بإنتاجه وموروثه وإبداعه. فمع كلّ قطعة يرتديها غير المسلم، هناك شبكة من التمثلات والتصورات والرموز تجد طريقها إلى فكره ومتخيّله وثقافته، ومجموعة من المشاعر والأحاسيس تتسلل إلى بنيته النفسية فتعيد تشكيل شخصيته وفق معطيات جديدة

ـ موقف مؤسسة الفقه من التشبّه بالآخر

يعدّ تشبّه المسلم ب"الذميّ"، من منظور العلماء، فعلا منهيّا عنه. وهو لدى بعضهم حرام وهو لدى البعض الآخر ممنوع. ويسوق الفقهاء عدّة حجج لتسويغ موقف المنع من ذلك:

ـ الحكمة الإلهية إذ "خلق الله الخلق أجمعين وفرّق بينهم في البلاد والهيئات فلا يجب على أحد الرجوع عن زيه وهيئته إلى زي سواه وهيئته.

ـ ضرورة تحديد العلاقة بين المسلمين وغيرهم ورسم المسافة بين "عالم الإسلام" و"عالم الكفر" داخل دار الإسلام حتى لا تقع المجاورة بين المسلمين وأهل" الذمّة"، أي الدمج الاجتماعي. ف"قد أمر( عمر بن الخطاب) أن يكونوا بمعزل في موضع معلوم منحازين عن المسلمين لا يشاركونهم فيه، وكذلك هم لا يشاركون المسلمين في بقية البلد" وبذلك لا تحصل موالاة" الكفّار" فلا تصدر عن المسلم أفعال ظاهرها يدلّ على مودّات القلوب، أو تعظيم شعائر الكفر لأنّ الرسول قال: من تشبّه بقوم فهو منهم. ومن ثمّ وجب التفريق بين أحكام المسلمين وأحكام أهل" الذمّة" و"الاستيحاش من الكفّار" لا الاستئناس بهم ف"واجب على كلّ مسلم أن يبغض في الله من يكفر به. فلا ألفة ولا مودّة بين المسلم والنصراني أو اليهودي "ويجب تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في كلّ ما اختصوا به.[******] و"إن مالت نفسك فلا تخالط من ليس على دينك فهو أسلم...وأما لين خطابك له فإن لم يكن فيه تعظيم له ولا تشريف ولا تغبطه في دينه فلا بأس مع ابتلائك به.

ـ الخوف على أولاد المسلمين الذين قد تعلقُ بذهنهم هذه العوائد الرديئة" وتنتقش في قلوبهم اعتقادات الكفّار. ومعنى ذلك أنّ التصدّي لفعل التشبّه بالآخر، هو وسيلة من وسائل حماية المجتمع والدفاع عن العقيدة وعن المنظومة القيمية، كما أنّه أداة لترسيخ الموروث في قلوب الأجيال الجديدة عبر التنشئة الاجتماعية. "فليس المقصود من الغيار والتمييز في اللباس وغيره مجرّد تمييز الكافر عن المسلم، بل هو من جملة المقاصد. والمقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطنا.

يعتبر نهي النسوان عن التشبّه بغير المسلمات وسيلة من وسائل حفظ النظام ومراعاة القيم والركائز التي انبنت عليها العلاقات الزوجية داخل المجتمع الإسلامي. فمجتمعية النساء غير محمودة العواقب إذ أنّهن كثيرا ما يقلّدن بعضهن البعض ويَنقدن بسرعة وراء العادات الجديدة. فقد أفضت مخالطة المسلمات لنساء القبط في مصر حسب ابن الحاج العبدري(ق7هـ) ، إلى إلزام النساء أزواجهن النفقة في أعياد غير إسلامية كعيد النيروز،[*******] وهو أمر أدّى في كثير من الحالات إلى تصدّع العلاقة بين الزوجين بسبب التأثر بعادات"الكفّار". ولهذه الاعتبارات كان الورعون لا يدخلون بيوتهم أحدا من نسوة النصارى.

ـ تعدّ موافقة أهل الكتاب في الصورة الظاهرة حجّة على مفارقة الأمّة إذ لا يجب مخالفة زي العرب والتشبّه بالعجم فذاك فعل منهي عنه. ف"للكفار"مثلا القلانس وللمسلمين العمائم لقول الرسول: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس. والعمامة تكسب صاحبها شرفا وهيبة ورفعة. وفي كتب تفسير الأحلام تؤول رؤيا العمامة على أنّها دين ورياسة وعزّ وولاية ومرتبة وقوّة ومن ثمّة فإنّ المسلمين أولى الناس بلبسها اتباعا للرسول وتشبّها به. وعلى هذا الأساس لا يجوز لغير المسلم أن يستحوذ على هذه الرموز.

أمّا مردّ التشديد على اللباس فيفسّر بأنّ هناك ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن وأنّ للأوّلِ تأثيرا في الآخر. ومن هنا يوظّف اللباس، أي الرمز المادي، للتعبير عن الهوية الجمعية.

ينظر إلى التشبّه على أنّه اتخاذ عوائد رديئة مخالفة للشرع ولفعل السلف وفيه إحداث، والحدث ممنوع. وفق هذا التصور يكون النهي عن التشبّه بغير المسلمين وسيلة من الوسائل التي يلجأ إليها المجتمع لسدّ المنافذ أمام تسرّب ثقافة الآخر وظهور البدع. فالمطلوب من المسلم الاقتداء بالسلف واتباع السنن الثقافية التي أسّسها هؤلاء لا التشبّه بالغريب والابتداع. وبذلك ينجح المجتمع في صناعة الشخصية الانضباطية الممتثلة للمعايير والقيم والأوامر، أي النظام كما أنّها شخصية تتكلّ على إنتاج السلف ولا تسهم في الإتيان بالجديد: تقتدي وتحاكي وتتبع ولا تبدع .

ـ إنّ في التشبّه بغير المسلمين إعانة لهم على الكفر فيزدادون بذلك طغيانا ويظنّون أنّهم على حقّ ف"إذا رأوا المسلمين يتشبّهون بهم، أعني في تعظيم مواسمهم، يقوى ظنّهم بأنّ ما هم عليه هو الحقّ" وفي ترك التشبّه بفعل أهل الأديان الباطلة، إظهار لشعائر الإسلام. ومن هنا نتبيّن موقع كلّ دين ونمط العلاقة بين المسلمين وغيرهم. فإذا كان التشبّه هو التماثل والاتفاق فإنّ العلاقة بين المسلمين وغيرهم بُنيت على المخالفة إذ اقتضت مأسسة الدين البحث عن خصائص تميّز المسلمين عن غيرهم والعمل على إبراز المخالفة. فكان هناك وقت للصلاة يعرف بإيقاد النار للمجوس وضرب النواقيس للنصارى واتخاذ القرن لليهود وكان الأذان من خصال المسلمين. وكان بُعد المخالفة حاضرا في أذهان الفقهاء وهم يقنّنون فقه المعاملات والعبادات.

ـ مراعاة المراتب إذ لا يجب على المسلم أن يتشبّه بمن هو دونه منزلة فذاك عار وشنار وفيه مذلّه. فالـ"نصراني عدوّ للدين وعدوّ لله ولرسوله، مُظهر لذلك مُعاند للمسلمين ثمّ إنّ الكفّار"ليس عندهم نجاسة فيما يعتقدونه إلاّ دم الحيض ومن ثمّ يجب أن يُهانوا ولا يكرموا وأن يحافظوا على لباس خاصّ "ليتميّز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والبغي] .

هذه إذن بعض الحجج التي يعثر عليها الدارس في كتب التراث وإذا كان السياق التاريخي قد جعل المسلمين يشعرون باستعلائهم على الأمم الأخرى فيستنكفون من التشبّه بأهل "الذمّة" فلِمَ يُمنع تشبّه النصراني واليهودي بالمسلم، والحال أنّ المغلوب يقتدي دوما بالغالب والتشبّه بالكرام فلاح والتشبّه بالأفضل عادة مركوزة في النفوس؟

ينظر إلى سلوك أهل" الذمّة" من خلال المنظومة القيمية التي تمتلكها الأمّة. فركوب الخيل يستفزّ الناظر لأنّه يرتبط بالعلوّ ولبس الأبيض والأخضر يعدّ استيلاء على ألوانِ مميّزة ورموز ارتبطت في المتخيّل بشخصيّة مركزية: شخصيّة الرسول محمّد، ومعنى ذلك أنّ تشبّهَ "الذمّي" بالمسلم هو بمثابة خرق للسياج إذ فيه تغيير لظاهر الصورة وادعاءُ فضائل لا يعقل أن يكتسبها "الكافر"،كما أنّ في صنيعه هذا تمويها وتظاهرا بما ليس له، وهو فعل دالّ على تجاوز قوانين الاقتداء إذ أنّ شرط تقليد الرسول محمّد واتباع سنّته قائم على الإيمان به. أضف إلى ذلك أنّ اقتداء غير المسلم بالرسول أو الصحابة واستعماله لأزياء العرب التي عرفوا بها من "آباد الدهر" يعتبر اعتداء على تراث الأمّة وتاريخها ورأس مالها الرمزي. ولذلك يجب على المسلمين أن يمنعوا أهل"الذمّة" من الاستيلاء على رموزهم وأن لا يمكّنوهم منها.

وعلاوة على ما سبق ينمّ تشبّه غير المسلم بالمسلم عن رغبة في الاستمتاع بأسباب الرفاهية التي يجب أن تكون حكرا على المسلمين مثل دخول الحمّام وركوب الخيل والبغال والسروج والإبل والسير في وسط الطريق، إن كان العرف في البلد اتخاذ مثل هذه المظاهر للرفاهية. ولهذه الاعتبارات يمنع اليهود والنصارى من التشبّه بالمسلمين حتى لا يشعروا بالفخر والاعتزاز والاستعلاء وغيرِها من الأحاسيس التي يكتسبها كلّ من انتمى إلى الأمّة.

ولمّا كانت إحدى وظائف اللباس والمؤاكلة والزينة وطريقة النوم والمشي وغيرها، إشعار الفرد بتماهيه مع الجماعة وانتمائه إليها واشتراكه معها في نفس المصير، فإنّ منع الآخر من الاقتداء بالمسلم في اللباس والمؤاكلة والسلوك وغيرها من المظاهر، معناه تثبيت المسافة بين المسلم وغير المسلم وتذكيره بأنّه خارج الجماعة الدينية له أحكام خاصّة به تختلف عن أحكام التعامل السائدة بين المسلمين والمنظمة لعلاقات التبادل بينهم. ولولا خطاب النهي الوارد على لسان عدد من العلماء، لأمكن للناس عدم التفرقة بين المسلمين وغيرهم على مستوى المعاملة. ولعلّ حثّ عدد من الفقهاء المسلمين على مخالفة "الكفّار" في الآداب الاجتماعية، وخاصّة في طريقة التحية، خير معبّر عن شدّة حرصهم على التمييز بين من ينتمي إلى الأمّة ومن هو خارجها باعتبار أنّ التحية تحدّد إطار التفاعل والتواصل بين الناس وتكشف التراتب في العلاقات الاجتماعية.

أمّا إجبار "الذميّ" على ارتداء لباس الشعار ففيه تنبيه للناظر إلى المنزلة القانونية التي يحتلها غير المسلم وتأكيد على وضعه الدوني الذي يستدعي اتخاذ سلوك خاص تجاهه قائم على اللامبالاة والتحقير. ويمكن القول إنّ الإلحاح على أن لا يتشبّه الآخر بالمسلم يهدف إلى عزله ووضعه تحت المراقبة والتحكّم بحريته في التصرّف في مظهره الخارجي، فضلا عن تحديد معايير وضوابط وأحكام تنظّم شكل العلاقة معه وإجباره على مخالفة المسلمين. فيغدو المسلم نتيجة ذلك معيارا أو نموذجا ينظر إليه غير المسلم بعين الإعجاب ولا يتسنّى له أن يحاكيه. ولكن أليس رفض التشبّه ضربا من المراودة وأسلوبا من أساليب الغَزل، غايته إغراء الآخر ودفعه إلى اتخاذ قرار، أي أنّه شكل من أشكال جذبه نحو الأنا باعتبار أنّ المنع يستفزّ المرء ويدفعه إلى خرق الحواجز"وكلّ ممنوع مرغوب فيه".

3 ـ خلفيات موقف منع التشبّه بالآخر

* الاعتبارات الدينية

دعا العلماء المسلمين إلى مخالفة "أهل الذمّة" في شتّى مظاهر الحياة اليومية كالمأكل والمشروب والملبوس والسلوك وغيرها. وتعدّ هذه المباينة، من منظور الفقهاء، علامة على طاعة الله وحجّة على اتباع الرسول ومحاكاته إذ يجب أن يبرز الاختلاف الديني بين المسلمين وغيرهم ولا يمكن أن يستوي دين "خير أمّة أخرجت للناس" مع دين هؤلاء الذين حادوا عن السبيل القويم . وهو أمر يبرهن على أنّ مظاهر الحياة اليومية لا ترتبط بشكل تنظيم الاجتماع البشري بقدر ما تتعلّق بالعقيدة وبصلة الديانات ببعضها البعض. فتقليد المسلم من ينتمي إلى نفس الدائرة الإيمانية، ينظر إليه على أنّه علامة على الاندماج في الأمّة والانسجام بين جميع المسلمين. أمّا تشبّه اليهودي والمسيحي بالمسلم فهو خروج على "الصراط المستقيم" إذ يجب مراعاة منزلة المسلم واحترام موقع الإسلام ذلك أنّ "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". وإظهار شرف الإسلام يقتضي أن لا يظهرَ معه غيرُه. فلا يجب تمتين الروابط بين المسلمين واليهود والنصارى ولا التوسيع عليهم في المرافق. فلا يزيدون في البنيان والسعة لأنّ في ذلك إظهارا لأسباب الكفر في دار الإسلام. وهكذا يتمّ التحكّم في هندسة الفضاء وفي الصورة العامة التي تبدو عليها الأماكن العامة. فتجميل الكنائس يكون من داخلها ويمنع النصارى من كلّ جمال ظاهر. أمّا إذا نقشوا أيقوناتهم في الداخل فلا يُتعرّض لهم. كما يُمنع هؤلاء من صدور المجالس. وواضح أنّ هذه الإجراءات تكشف رؤية المجتمع لذاته وتصوّره للآخر. فالعلو يجب أن ينسبُ للمسلم ولبنيانه كالصومعة والطابق العلوي إلى غير ذلك وفي مقابل ذلك ينسب الانخفاض والانحدار إلى أهل "الذمّة".



ـ *الاعتبارات الأخلاقية

يبرّر منع التشبّه بالآخر بالخشية من أن تكون ثقافتُه مشحونة بمنظومة قيم لا تتناسب مع النموذج الأخلاقي الإسلامي. فتشبّه المسلمين بغير المسلمين في الاحتفال بأعيادهم كعيد النيروز وسبت النور وعيد الزيتونة وغيرها، يعتبر علامة دالة على تخلّي المسلمين عن مجموعة من القيم الإسلامية إذ نجد في مثل هذه المناسبات اختلاطا بين الجنسين وكشفا للعورة وتفوّها بالكلام الفاحش إلى غير ذلك من أنماط السلوك الفاسد. فليست هذه العادات والتقاليد وأنماط السلوك إلاّ وسائط أو قنوات تنتقل عبرها القيم الأخلاقية والقيم الدينية والقيم الروحية لمجتمع ما. فإذا رمنا الدفاع عن الأمّة تعيّن علينا تحقيق التماثل في الداخل، أي بين المسلمين وتكثيف التمايز بينهم وبين الآخرين ومراقبة العلاقات التبادلية التي تجمعهم بمن استقروا داخل المجتمع الإسلامي من يهود ومسيحيين ومانوية وغيرهم.

ـ* الاعتبارات الاجتماعية

عملت مؤسسة الفقه على مراعاة خصوصية بنية المجتمع القائمة على التراتبية. ومن هنا نفهم سرّ دعوة العلماء السلطة السياسية إلى تمييز الخاصّة عن العامّة والحرّ عن العبد والرجل عن المرأة والعالِم عن الجاهل والمسلم عن غير المسلم وإلزام كلّ فرد المرتبةَ التي يستحقها. فموقف التثبيت الطبقي والديني والجنسي والعرقي، يعكس خوفا من خلخلة البناء الاجتماعي واضطراب سلّم القيم ورغبة في استقرار النظام الاجتماعي وحلول الأمن الداخلي] أمّا الإصرار على التمييز المادي والرمزي بين المسلمين و"أهل الذمّة"،إن كان ذلك على مستوى المظهر والسكن والملبس ووضع الشارات وركوب البغال والحمير، أو غيرها فهو فعل تصنيف، والتصنيفُ يؤدي إلى حفظ النظام وبفضله تمارسُ المراقبة وينفّذ قانون العقوبات إذ ذلا يمكن أن يتغاضى المجتمع عن حالات الخرق. جاء في "أحكام أهل الذمّة": "ولا يلبسوا(غير المسلمين) لبسة المسلمين حتى يعرفوا من بينهموفي السياق نفسه ورد في "النوازل الجديدة الكبرى" بخصوص"أهل الذمّة" : "يُلزمون بما يُميزّهم ملبسا كبرنوطة وزنّار ويعاقبون على ترك ذلك"وجاء في "أحكام السوق" بشأن يهودي تشبّه بزيّ المسلمين وأسقط حِليته التي يعرف بها، وهو يحمل ما يعصِر به المُسكِر" فليعاقب بالضرب أو الحبس ويُطاف به في مواضع اليهود والنصارى، ردعا لأمثاله وتحذيرا لهم بسبب ما حلّ به

تكمن غاية منع التشبّه في حفظ المسافات والحدود بين مختلف الفئات الاجتماعية حتى يتحقّق الضبط الاجتماعي "فليلتزم كلّ صنف ما عُرف به وتتكرّس بذلك قيم الطاعة والانضباط والتسليم وغيرها فيتحقّق النظام وتراقب العلاقات. وفق هذا الطرح نفهم لِمَ يُمنع غير المسلم من التشبّه بالمسلم لأنّه عندما يتبنّى ذلك السلوك، يثبت بالفعل أنّه لا يُبدي شِعارَ الصَغار ، أي إنّه لا يخضع ولا يلتزم بالضوابط، بل يتمرّد على النظام: يَعبُر الخطّ ويُحدث الفوضى وينتهٍك القوانين ويستولي على مكتسبات الغير. ولذلك "يجب أن يُجبر الكافر على التشبّه بقومه ليعرفه المسلمون به" وبَيّن أنّ غاية منع التشبّه، إبراز الاختلاف بين الوضع القانوني للمسلم ومنزلة "الذميّ" الذي ضبطت بشأنه تشريعات تكفّلت كتب "أحكام أهل الذمّة" بتفصيل القول فيها. وهكذا تتمّ المحفاظة على وحدة المجتمع الإسلامي وتجانس عناصره. وغنيّ عن القول إنّ هذا المجتمع تمييزي، لا يختلف عن غيره من المجتمعات التي تقرّ باللامساواة وتعمل على إبراز الفروق وتثبيت الاختلاف وانتهاج سلوك الإقصاء تجاه الآخر المختلف.

*الاعتبارات النفسية

تفضح رغبة عدد من الفقهاء في السيطرة على المعيش الرمزي المتجسّد في اللباس والطعام، بل وحتّى الأحلام وغيرها مدى تضخّم الذات ورفضها من يستعلي عليها، أي ذلك المهزوم الذي يسعى إلى تعليم من هزمه شتى أنواع المعارف. كما أنّ الحرص على التقنين الصارم يخفي خشيةَ الجماعة من الاختراق وحدوث التداخلِ ثمّ الهيمنة، خاصّة وأنّ الآخر قد حاول أن يفرض نفسه وأن يكون مؤثّرا من خلال ثقافة استهوت الكثيرين فجعلتهم يدركون سرّ إحساس الآخر بالامتلاء في مقابل شعور الأنا بالفراغ.

ويعبّر موقف رفض التشبّه عن خوف من الضبابية والتشويش وحدوث عدوى التلوّث ذلك أنّ من أخصّ خصائص الثقافة أنّها لا تؤثّر في المظهر الخارجي للسلوك فقط وإنّما تَنفُذ إلى بنية اللاوعي. فمن نتائج التشبّه أن يشتبه عليك الأمر فيصبح ملغزا ومن هنا يصبح وضع الشعار ضروريا باعتبار أنّه يحقّق معرفة للناظر تخوّل له تحديد هويةَ المنظور إليه وتبيّن مكانته ووضعه القانوني وتبعا لذلك يعامل معاملة خاصة تتماشى مع منزلته.

ولئن أخفت رغبة غير المسلم في التشبّه دخلنة لمعايير مجتمع الإقصاء وحرصا على اندماج الأقلية في مجتمع الأغلبية وتكيّفها مع واقعٍ اجتماعي واقتصادي وسياسي ونفسي، فإنّ المسلمين لم يروا في ذلك إلاّ علامة على التحدّي وحرصا على التحوّل من المنزلة الدونية إلى المكانة الرفيعة. ومعنى ذلك أنّ التنازل عن الهوية في سبيل الاندماج يقابلُ في الغالب، بالرفض لأنّ شرط القَبول هو الانتماء الديني، أي اعتناق أفضل دين وإشهار الولاء. فالذين تمّ اعتراف المجتمع الإسلامي بهم، تنازلوا عن تاريخهم ولغتهم وموروثهم العقدي والثقافي السابق وتظاهروا بنسيان الأصول في سبيل الحصول على المكانة الاجتماعية المرموقة.

* الاعتبارات الثقافية

يتنزّل منع التشبّه في إطار عمليّة تشكيل الهوية الثقافية التي انبنت على عدّة مقوّمات من بينها اللغة والدين. وقد اقتضى دفاعٍ الجماعة عن الهوية التشبّث بمبدأ المغايرة الثقافية والحرص على إبراز العناصر التي تميّزهم عن غيرهم من أصحاب الديانات والملل والنحل. ف" يكره كلّ ما خالف زي العرب وشابه زي الأعاجم." ويمنع التكلّم بلسان غير المسلمين ذلك أنّ من نعم الله على العرب نزول القرآن بلغتهم. وهكذا يكون منع التشبّه وسيلة من وسائل تحديد مجال العلاقات التبادلية بين الأنا والآخر وضبط مجالات المثاقفة وتنظيم العلاقة بين الأصيل والدخيل. فلا غرابة أن نجد إلحاحا على بيان مواطن الاختلاف بين المسلمين وأهل الكتاب ولامبالاة بذكر مواطن الشبه، رغم أنّ التشابه موجود لا بين الأديان التوحيدية فقط، بل بينها وبين أديان الشرق الأوسط نظرا إلى انفتاح الثقافات على بعضها البعض.

ولئن أبان الحرص على التفرّد عن عقدة التفوّق والتمركز حول الذات فإنّ التشبّث برسم الحدود يُعدّ حجّة على الخوف من الدخيل المُغيِّر ذلك أنّ القرب يتسبّب في التأثّر والتأثير. فضرب النواقيس مثلا ممنوع في بلد الإسلام فإن كان النصارى بعيدا فلا يمنعون. ويرجع سبب المنع إلى أنّه "قد يَزِلّ ذلك بالنساء والصبيان وضعفاء العقل من الرجال فيتسلل الشكّ إلى القلوب فيؤدي ذلك إلى الذوبان في ثقافة الآخر أو ضياع الهوية. ولا يتعلّق الأمر بخوف من التأثّر ب"الكفّار" في الهيئة والملبوس والمأكول والعادات فقط، بل هو الخوف من التغيير الذي سيصيب العقيدةَ ومنظومة القيم وبنية المتخيّل. فلا غرو أن تظلّ الذات محكومة بالبحث عن الضدّ وتحديد الخصم الذي ستميّز ذاتها عنه وتحصّن نفسها من كلّ محاول للتسلّل إلى ثقافتها. ولمّا كان التماهي مقوّما من مقوّمات الهوية، فإنّ الجماعة تحثّ الفرد على إنتاج التشابه وتسعى إلى تحقيق الضبط والتنميط في الداخل وتحاول أن تكون سلطتها حاضرة في ثنايا الرموز والعلامات. وكلّما تعرّض المجتمع الإسلامي للخطر الخارجي الذي تشكّله الحضارات المجاورة، ازداد تشبّثا بخصوصياته وحرصا على تقوية السمات المميزة التي تجعل من العرب أفضل قوم ومن الإسلام أفضل دين.

تسعي مؤسسة الفقه إلى التحكّم في المظهر الخارجي للسلوك وهيكلة اللاوعي من خلال تدبير الفرد، أي التنشئة الاجتماعية. فإذا بالفرد لا يحبّ ولا يكره ولا يدعو لـ أو يدعو على أو يستهزئ أو يعظّم إلاّ من خلال ما ضبطته ثقافته. ومن هنا كان تعريف الثقافة في الخطاب التحليلي النفسي الفرويدي على أنّها مجموعة من الأوامر والنواهي التي يُلزم الفرد بالتقيّد بها والعمل وفقها. فالمرء ليس حرّا في اختيار نمط العلاقة التي تجمعه بالآخر، إنّما هي الثقافة التي تصنع نماذج السلوك المرغوب فيه وتفرض المعايير وتنتج التمثلات الاجتماعية وتحدّد قواعد انتماء الفرد إلى الجماعة. وهذا يعني أنّ الثقافة تقوم على تعيين علامات التمييز، والتمييز يقوم دوما على النظر إلى الآخر بمنظار سلبي غايته رصد مواطن الاختلاف وتسجيلها. وبذلك تتكفّل الثقافة بتشكيل صورة غير المسلم، وهي صورة تجعل الآخر داخل دائرة المثالب فهو: الكافر، عدوّ الله ورسوله ذلك الذي لا يتحرّز من النجاسات ومعروف بتديّنه بغشّ المسلمين وهولا يتواني عن إظهار رموزه الدينية. وبناء على ذلك لا يعقل أن يتحلّى غير المسلم بالمناقب إذ لا فضائل عنده أصلا. فهو أدنى إنسانية من المسلم، سواء من حيث العنصر والنشأة أو من حيث الاكتساب والاستفادة. وهكذا تطمس صفات لتثبّتَ أخرى تخدم التنميط ويقحم الآخر داخل متن من التمثلات الاجتماعية المعهودة. وبيّن أنّ صورة الآخر لا تعكس الآخر، بل هي بناء في المتخيّل واختراع يتجلّى في الخطاب فإذا بنا لا ننظر إلى المختلف على أنّه وجهنا الآخر، بل هو عدوّ يتربّص بنا وإذا نحن لا ننظر إلى الاختلاف بوصفه تنوّعا وثراء وممارسة للتعدّد وسنة كونية، بل هو خطر محدق بنا وهو سبب للجفاء والتباعد.

وفي مقابل ذلك تتكوّن للمسلم صورة عن ذاته يحدّد أبعادها ويضع قيمها ويعيش داخل أوهامها فإذا هي من منظوره، تمثل المرجعية التي يقاس بها الآخر. ويبدو الفقيه من خلال الخطاب الذي ينسجه، مفاخرا ناطقا بفضيلته على الآخر وتظهر الذات المتحدّثة مقاتلة لا ذات سجالية. وهكذا يتضح أنّ الانتماء إلى الهوية الثقافية يولّد شعورا بالرضا والأمان والاعتزاز، وهو شعور ذو طبيعة نرجسية اصطفائية إذ هو يشكّل أساس المفاضلة بين الثقافات، والمبرّر الذي يمنح لكلّ جماعة ثقافية حقّ الاستعلاء على الجماعات الأخرى ونبذها. وتشير الشواهد التي يختارها الفقيه إلى منزع جماعي في تكثيف الصورة المتميّزة للمسلم في مقابل تشويه صورة غير المسلم. وهذا الحرص على تثبيت رؤية في مقابل إقصاء أخرى، يُوضحّ حدودَ المثاقفة.

ـ في حدود المثاقفة

لكلّ حضارة تصوّرها الخاصّ حول اللقاء الثقافي، وخاصّة اللقاء الديني مع الآخر ونمط العلاقة التي يجب أن تجمع الأنا بالآخر. وتتحكّم التمثلات في طبيعة العلاقات بين الديانات والثقافات فتخضعها لمنطق مخصوص وتحدّد الموقف والسلوك الثقافي الديني من المختلف. ولا يمكن للمثاقفة أن تكون بمنأى عن التحديد والضبط باعتبار أنّ الحدود (الدينية والعرقية والقومية..) مهمّة. فالفرد يعرف نفسه بطريقة تضعه داخل حدود جماعة معيّنة، وهو بذلك يُعلن أنّه لا ينتمي إلى جماعة أخرى. وتتعيّن الحدود بين الجماعات بواسطة العناصر الموضوعية التي تميّز بعضها عن بعض كالعنصر البيولوجي والعنصر الثقافي. أمّا أهميّة كلِّ عنصر في رسم الحدود، فتضبطها الجماعات نفسها بحسب السياق الاجتماعي السياسي ومصلحة كلِّ جماعة في التأكيد على أهميّة التمييز أو التقليل منه. ثمّ إنّ أهميّة كلّ عنصر من عناصر التمييز ترسم طبيعةَ الحدود وكذلك طبيعة العلاقات التبادلية، ومن هنا فهي تحدّد أيضا صورةَ الآخر. بيد أنّ الحدود الفاصلة بين الجماعات حدود اجتماعية غير جامدة، أي أنّها قابلة للتغيير متى تحوّل السياق التاريخي الاجتماعي. وهذه الحدود قد تبرز أحيانا وقد تخبو في أحايين أخرى ممّا يؤكد أنّ الثقافة قابلة لأن تتفاعل وتتقاسم مع الآخرين وأنّ الهوية لا تتحدّد إلاّ من خلال المقابلة بين الأنا والآخر: نفي الآخر ثمّ صناعته من جديد، كما أنّها يمكن أن تتغيّر بحسب السياق السياسي الاجتماعي.

إنّ موقف عدد من الفقهاء من التشبّه بالآخر له خلفيات معينة تعكس القيم السائدة والمعتقدات وأساليب التعامل ومجالات التفاعل مع الغير وطرق الدفاع عن الذات. ويكشف التفاعل مع الآخر والتعامل معه بنى الوعي واللاوعي ويشيران إلى كيفيّة تنشيط الذاكرة من جهة، وحجب المثاقفة من جهة أخرى. فخطاب هذه الجماعة من الفقهاء يسعى جاهدا إلى حجب الواقع. فما يصرّح به هؤلاء هو أنّهم يدافعون عن العقيدة والحقيقة ويحرسون الهوية والذاكرة ولكن ما لا يقال، هو أنّ صاحب النصّ يدافع عن مرجعيته الدينيّة التقليدية وسلطته، وأنّه يتصرّف إزاء الآخرين بوصفه أعلم منهم وأولى منهم بأنفسهم ويحقّ له ضرب الوصاية عليهم والتصرّف في مصيرهم.

يُخفي منع المسلم من التشبّه بغير المسلم،في نظرنا، حرب الفقيه المتشدّد مع ذاته ومقاومته لأهوائه الخاصّة وشهواته وهواماته(fantasmes). فتقدير الذات ينكسر إذا عمدنا إلى مقارنتها بالآخر. أمّا استنقاص الآخر فهو في الواقع، طرد لمشاعر الخوف التي استبدّت بالفقيه: الخوف من الوقوع في فتنة الانبهار بالآخر والاقتداء به ولذلك سيصنع الفقيه صورة الآخر حتى تكون معبّرة عن العناصر الرديئة والسيئة وغير المرغوب فيها من شخصيته هو بالذات.

يقودنا التمحيص في هذه المجموعة من النصوص الفقهية النظرية إلى الانتباه إلى أنّها تعكس لحظةَ نفي الآخر ورفضِ ثقافته المخالفة للشرع، وتصبح هيمنة المسلم على غير المسلم مندرجة في بنية السلطة. فهي حلقة موصولة إلى حلقات أخرى ذلك أنّ الهيمنة تمثّل محور العلاقات الاجتماعية والسياسية: من يُهيمن على من؟ الرجل على المرأة، الراعي على الرعية، الأخ الأكبر على الأخ الأصغر، الشيخ على المريد، المعلّم على المتعلّم، العالم على الجاهل، المسلم على غير المسلم. ويغدو الاستئثار بالقوّة هو الذي يميّز بين مختلف الفئات الاجتماعية ويتحوّل التقوقع على الذات تبعا إلى ذلك، إلى أداة من أدوات التماسك الاجتماعي ووسيلة من وسائل الحفاظ على وحدة المجموعة. ويثبت في الاعتقاد أنّ التقوقع على الذات سبيل إلى الوحدة والائتلاف على عكس الانفتاح على الآخر الذي يعدّ فرقة وتفكيكا لمختلف البنى وفوضى. ولكن أليس الوقوف ضدّ حركة التفاعل مع الآخر والتأثر به في عدّة جوانب، حجّة على الانغلاق و دليلا على اعتبار الذات مصدر كلّ معرفة!

وفي المقابل تُبيّن نصوص الفتاوى والنوازل والتاريخ والرحلة وغيرها لحظةَ إثبات الآخر والإيمان بضرورة التفاعل مع ثقافته. فالتباعد الديني لم يحل، في الواقع، دون تقارب اجتماعي وتفاعل مع الغير بالاقتباس عنه والإفادة منه فكرا وعلما وثقافة. فلئن ألزم أغلب الفقهاء اليهود والنصارى بوضع شارات مميّزة ومنعوهم من ترميم كنائسهم فإنّ التاريخ أثبت أن هؤلاء شيّدوا معابد جديدة ولم يلتزموا، في الغالب، بلباس خاصّ يميّزهم عن المسلمين، كما أنّ مصالح الدولة اقتضت معاملات منفتحة مع أهل" الذمّة" مع مراعاة المسافات الاجتماعية، وهي ليست بالضرورة نفس المسافات التي حدّدها الفقهاء.

وتُظهر هذه النوعيّة من المصادر التحوّلات العميقة في نمط العيش ويتجلّى التأثّر بالنصارى واليهود في أنواع اللباس والطعام والشراب وتبادل الهدايا وأساليب إحياء المناسبات والاحتفالات والأعياد والسلوك وغيرها. وتبرز في جميع هذه المجالات بصمات الثقافة الدخيلة واضحة للعيان في شرائح اجتماعية معيّنة أكثر من غيرها. وهو أمر يثبت أنَّ التمييز بين المسلمين وأهل "الذمّة" كان على مستوى المتخيّل الجمعي. أمّا الواقع فقد حكمته جدليات الأخذ والعطاء والانفتاح والانغلاق والتأثّر والتأثير والثبات والتحوّل. ومعنى ذلك أنّ الوعي بالذات يمرّ بالآخر والشعور بالهوية يبرز في مواجهة الغير وأنّ الهوية أوسع من أن تحدّها ثقافة واحدة. فالثقافات تتفاعل وتتكامل، وأن لا واحدة تفضل غيرها في كلّ شيء، أو تنقص عن غيرها في كلّ شيء. ويمكن القول إنّ المقارنة بين الخطاب الفقهي المتشدّد والمصادر التي وصلتنا بشأن التاريخ الاجتماعي، تكشف الفرق بين هوية جامدة مغلقة مشدودة إلى الداخل والماضي ونازعة نحو المماثل والمألوف، وهوية مفتوحة على الخارج ومتحرّكة صوب المغاير والمختلف.



تملي الطبيعة الفروق والتعدّد والاختلاف أمّا الثقافة فهي مشروع يرمي إلى ضبط البشر وجمعهم وتوحيدهم ضمن دائرة مغلقة وصناعة نماذج محدّدة حتى وإن أفضى التماثل التام بينهم والتنميط الخانق إلى السكون والخواء وإلغاء المختلف. بيد أنّ بمقدور فئة من الناس أن تقاوم ذلك الدمج القسري وأن تخرق الحصار المفروض عيها وأن تتصرّف في هامش من الحرية ذلك أنّ الفرد يعرّف بأنّه كائن حريص على التفرّد ولا يكفّ عن صنع ذاته وخلق شروط وجوده، ومن هنا سعيه الدائم إلى الإفلات من الشبكات والقواعد والآليات التي تعمل على محاصرته أو قولبته والحدّ من حريّته. فإذا بالرجل يتشبّه بالمرأة وإذا بالمرأة تتشبّه بالرجل وإذا بالشيخ الكبير يتشبّه بالصغير وإذا بالخاصّة تتشبّه بالعامّة وإذا بالمسلم يتشبّه بغير المسلم وإذا بغير المسلم يتشبّه بالمسلم.

الخاتمة

مازلت مسألة التشبّه بالآخر مطروحة على الضمير الإسلامي، نُعاين ذلك في الأسئلة الموجّهة إلى الدعاة والناطقين الرسميين باسم المؤسسة الدينية في الفضائيات العربية وفي ركن الإفتاء في الصحف اليومية وفي مواقع شبكات الأنترنات. ولعلّ في ظهور فكرة العولمة وتأزّم المسلم، ما يبرّر استمرار البحث في هذا الموضوع، بل الصراع عبر العلامات السيميائية بين مسلمين متمسّكين باللباس الشرعي ومقلّدين للغرب متشبثّين بلباس "العجم".

بيد أنّ المتأمّل في الخطاب المعاصر حول علاقة المسلمين بغيرهم، ينتبه إلى هيمنة الأطر التقليدية للمعرفة إذ يعتبر التشبّه اختراقا للذات وتهديدا للهوية، التي تفهم على أنّها تطابق وتماثل وبحث عن النقاء والطهر بينما تفيدنا العلوم الإنسانية الحديثة أنّ الهوية متى قامت على التعارض والاختلاف، أدّت إلى الانفتاح على الآخر والاعتراف بحقيقته. وتعطينا الدراسات الغربية الجديدة كالدراسات الثقافيةCultural Studies ودراسات التداخل الثقافيCultural. Cross- الدليل على أنّ تعرّف الواحد إلى نفسه يتمّ في ضوء معرفته بغيره في ذات الوقت.

أفضى البحث في موقف عدد من العلماء القدامى من التشبّه بالآخر إلى استقراء النتائج التالية:

ـ لا يتسنّى لنا فهم تشدّد المنظومة الفقهية مع من رام التشبّه بالآخر إلاّ إذا نزّلناه في سياق تاريخي محدّد. فكما هو معروف دخل الإسلام منذ نشأته، في صراع مع الديانتين السابقتين ولأنّه كان في البدء دينَ أقلية، فقد سعى إلى التأسيس الذاتي للخصوصيّ مؤكدا أنّ الإسلام ليس تقليدا للديانات السابقة، إنّما هو رسالة متميّزة، بل هو أفضل دين قادر على بناء ذاته دون الاتكال على الغير. وما إن تحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع الأغلبيّة المهيمنة حتى سعى إلى سنّ قوانين تنظّم علاقته بالأقلية داخل دار الإسلام. ويوحي الحرص على تنظيم العلاقة مع الآخر فردا كان أو مجموعة، برغبة في هيكلة مجتمع تمييزيّ ذلك أنّ التنظيم هو في الواقع، تأسيس لفوارق وتراتبية يأتي المقدّس ليثبّتها. كما يشير هذا التنظيم إلى أنّ الهوية الدينية كانت في الغالب، صراعية لا تواصلية.

ـ ليس منع التشبّه بالآخر حكرا على الثقافة الإسلامية إذ ينزع كلّ مجتمع إلى تكوين رأسمال ثقافي والتميّز بأنساق وبنى محدّدة تعكس خصوصياته. وفي كثير من الحالات، يحول التمركز الثقافي دون بلوغ حدّ التكافؤ بين الذات والآخركما أنّه يفضي إلى استشراء العنف إذ تتحوّل خصوصيات الشعوب إلى ما يشبه" العوازل الخرسانية" بين البشر فيعسر التعارف والفهم المتبادل والتعايش.

ـ يعدّ منع التشبّه وسيلة من الوسائل التي تستخدمها الأغلبيّة لتحقيق الضبط الاجتماعي وترسيخ الاعتقاد بضرورة إبقاء المسافة الاجتماعية بينها وبين الأقليّة. وكلّما نجحت الجماعة في تحقيق ذلك، تطوّر الوعي عند كلّ فئة من خلال المقارنة بين هويتها وهوية الآخرين وكلّما وعى المرء حجم التباين لجأ إلى الامتثال لقيمه ودخلن معايير جماعته العضوية وتماهى مع ثقافته. وهذا يعني أنّ الدفاع عن هوية متماسكة يتطلّب اختلاق خطر ما يُتصوّر على أنّه تهديد للهوية الجمعية وبذلك يكرّس مبدأ الانضباط وسلوك الارتهان: أن يرتهن الفرد إلى الجماعة التي ينتمي إليها فيتماثل مع ما تتصوره وما تنتجه ويرى ما تراه ويفعل ما تأمره به دون أدنى تساؤل. وهكذا يحدث الانغلاق على الذات فلا إمكان للاختلاف والانفتاح ولا سبيل إلى الاعتراف بالآخر والتعرّف عليه واعتباره صاحب حقّ كامل في أن يكون مختلفا.

إنّ العمل على إدماج الأفراد داخل نسق واحد متجانس والحرص على التنميط بتوحيد مظهر المسلمين الخارجي والسعي إلى تحقيق اللحمة بالقوّة، أفعال تعدّ ضربا من التحايل على الواقع، بل هي ضرب من الإيهام: الإيهام بتساوي الجميع وبلحمة البنيان المرصوص وبوجود مجتمع الإجماع والتنميط. غير أنّ ظاهرة التشبّه تكشف علاقات التبادل الفعلي بين المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، بين الرجال والنساء، بين الكبار والصغار، بين الخاصّة والعامة، وهو أمر يضعنا إزاء مجتمعين: مجتمع النقاء والانسجام والانغلاق مقابل مجتمع الاختلاف والتعدّد والانفتاح ومجتمع الهيمنة والتسلّط والعنف في مقابل مجتمع المقاومة.

ـ ينمّ رفض التشبّه بالآخر عن خوف من فقدان تدريجي لكلّ الفوارق. فليست الفوارق هي التي تؤدي إلى الصراع وإنّما زوالها الذي يعتبر عاملا أساسيا في تفشّي العنف والفوضىكما أنّه يفضي إلى القضاء على وحدة المجموعة وتماسكها. فقوانين العزل المعنوية والمادية من لباس وهيئة وتنظيم للفضاء بتقسيمه إلى أحياء وغيرها، هي وسيلة من وسائل تثبيت الفوارق ورسم المسافات ضمانا للسلم والأمن والاستقرار الاجتماعي. وهكذا كانت الثقافة عاكسة لبنية مجتمع التفرقة والتمييز وهيمنة الأغلبية على الأقلية في سياق تاريخي اجتماعي محدّد.

ويومئ التشبث بالفوارق والتمييز بين الأنا والآخر إلى الرغبة في ممارسة الهيمنة وإلى تثبيت اللامساواة، وهو ما يحدّد صورة مجتمع ما هل هو مجتمع تمييزي يعتمد آليات التفرقة بين الخاصّة والعامة، الرجل والمرأة، الحرّ والعبد، الكبير والصغير، الغني والفقير، السوي وغير السوي، الأبيض والأسود إلى غير ذلك أم أنّه مجتمع يحاول جاهدا التخفيف من حدّة الفوارق بين مختلف الفئات.



ـ نلمس من وراء اهتمام القدامى بتنظيم المجال المرئي والتحكّم في المشهد أو الركح الاجتماعي كهندسة المكان وتوزيع العلامات بدقّة وفق ما يتلاءم مع مختلف الأنساق وتشكيل صورة الأنا والآخر إلى غير ذلك، تمجيدا للصورة مقابل المحتوى والشكلِ الخارجي بدل الجوهر والظاهر مكان الباطن. ذلك أنّ الصورة هي وسيلة إدراك الواقع. وهي الأساس الذي تقوم عليه شتى "الاستراتيجيات" التي بمقتضاها يحتلُ كلّ فرد موقعه ليدافع عن حضوره ويناقش حضور الآخر معه في نفس الفضاء. ومعنى ذلك أنّ منع التشبّه هو شكل من أشكال خدمة السلطة عبر توفير مسلك لمراقبة المجتمع والسيطرة على الركح. ويجب على هذا الفضاء العامّ أن يعكس الاختلاف بين مجتمع الأغلبية والأقلية، بين المُهيمِن والمهيمَن عليه، بين الثقافة الأصيلة المتفوّقة والثقافة الدخيلة. وهكذا يكون منع التشبّه تقنية من تقنيات السلطة المركّزة أساسا على الجسد، وهو عملية تضمن التحكّم بالأفراد ومراقبتهم بهدف تنظيم حقل الرؤية بشكل كامل، أي ما يجب أن تبصره الأنا. والواقع أنّ تمركز الذات مفهوم، فالاصطفاء الذي اختصت به الأديان التوحيدية، أفضي إلى استبعاد الآخر وحجبه من دائرة الإبصار. وليست محاربة التشبّه، في نظرنا، إلاّ محاولة لإسبال الكساء على مشاعر الإعجاب بهذه الثقافة الدخيلة. فبعض المجتمعات ترفض أن تكون ضحية الإغراء وتريد من هذا الإعجاب أن يظلّ خفيّا غير مصرّح به. وهذا يعني أنّ خطاب المنع قد يحجب، في بعض الحالات، حقيقة الانبهار بثقافة الآخر.



ـ يشير موضوع التشبّه إلى بنية السلطة وطريقة توزيعها وشتى إجراءات الإخضاع التي تلجأ إليها: إخضاع الأجساد والتحكّم بالسلوك ومراقبة الهيئة. فوضع شعار الكفر والمباينة كالزنّار والصليب هو علامة دالة على طاعة الأقليّة للأغلبية واعتراف علني منها بالرضوخ واقتناعها بالمنزلة الدونية التي تحتلها. ويتحوّل إذلالُ المُهيمن للمهيمن عليه إلى أداة لممارسة الإكراه[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] تؤصّلُ دينيا عن طريق الحجج الدينية. فهي تنفيذ لأمر الله إذ "أمرنا بإهانتهم وإلزامهم بإظهار الصغار" بل إنّ ذلك قد يكون سببا في دخولهم الإسلام أو إشعارهم بغيّهم إذ"ينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجرا عن كفرهم وفسقهم وعزة لله." [§§§§§§§§§§§§§§§§§] وعلى هذا الأساس لا تكون العلاقة بين الأنا والآخر قائمة على المساواة وضمان حقّ الآخر في الاختلاف والتمايز، بل هي علاقة قائمة على التفاوض والمساومة: إذا أردت أن تعيش معي عليك أن تخضع لشروطي الخاصّة وأن تقبل هيمنتي عليك.



ـ يعبّر الخوف من التشبّه بالآخر عن ثنائية الطهر والنجاسة المسيطرة على المتخيّل الجمعي، كما أنّه يميط النقاب عن نزعة التطهيرية أو ظاهرة البحث عن النقاء(The Quest for purity) فهاجس الطهر يسيطر على وعي بعضهم فيجعلهم يراقبون كلّ حركة أو سلوك يصدر عنهم أو عن الآخرين. فنحن إزاء خشية من العلاقات الملوّثة التي تنتج اللاتوازن وتؤدي إلى العبث بالحدود، أي حلول الفوضى. وهذا يعني أنّ قوانين العزل تحمي الذات من التلوّث ومن خطر عدوى النجاسة. وتبعا لذلك توظّف العلامات السيميائية من لباس وطعام ورموز دينية وطقوس للحدّ من خطر التلوّث وتفشّي العدوى. ويومئ الحرص على رصد مظاهر التلوّث والتحكّم بها إلى تحديد من يكون بالداخل وبالمركز ومن يكون بالخارج وبالهامش (inner/outer ).



ـ يوضّح موقف منع التشبّه المخاوف المقنّعة في تأكيدات "نحن" في مسرح التمثلات المتبادلة. فنحن في علاقة خوف مؤقتة وغير محدّدة: لسنا في الحرب ولكنّها حالة شبيهة بحالة الحرب. وإن كانت المواجهة مع الآخر زمن الحرب مواجهة مباشرة وعسكرية ومُعلنة، فإنّ المواجهة زمن السلم تكون ثقافية مدعومة بنظام اجتماعي ونظام من التمثلات وبثقافة السلطة الانضباطية، ومعنى هذا أنّ التصنيف والتمييز والإقصاء والتهميش والنبذ وغيرها من الممارسات تتولّد، في الواقع، عن شعور دائم باستمرار حالة الحرب، أي الصراع مع الآخر المختلف سواء كان من الداخل أو من الخارج

[email protected]



جامعية وباحثة تونسية









أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "كتب ودراسات"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024