الإثنين, 29-أبريل-2024 الساعة: 10:57 ص - آخر تحديث: 01:15 ص (15: 10) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
ثقافة
المؤتمر نت - .
محمد برادة -
صنع الله ابراهيم يبحث عن الجرح السري للطفولة
أكثر من إشارة وعلامة تشعر القارئ بأن صنع الله إبراهيم يقدم في «التلصّص» (دار المستقبل العربي، القاهرة، 2007)، سيرة ذاتية تستغرق فترة طفولته حتى سن العاشرة. وإذا كان الكاتب وظف في روايات سابقة أجزاء من حياته في نوع من التوازن مع العالم الخارجي عبْر استحضار الصراع السياسي- الاجتماعي، فإن «التلصص» تفسح المجال أكثر لتفاصيل الطفولة وفضاءاتها، وتلتقط ملامح الأب وسلوكه بدقّة وتعاطُف، خاصة بعد أن عوّض الأم التي انتقلت إلى مستشفى الأمراض النفسية.

لكن صنع الله يبتعد عن صيغة السيرة التقليدية ويختار شكلاً قريباً من الرواية السيرذاتية. وأول عنصر لافت، هو التزام الكاتب بالفعل المضارع في مجموع صفحات النص الذي يبدو كأنه سيناريو فيلم يقدم - عبر أربعة فصول مقسمة إلى فقرات - مشاهد تجرى في أمكنة معينة لا تكاد تتغير: الشقة، الحارة، المدرسة، بيت الأخت نبيلة. وعندما يسترجع الطفل صنع الله لحظات وذكريات مع أمه، فإنه يكتبها بحروف ذات بنط بارز، لكنها هي الأخرى تلتزم صيغة الفعل المضارع والجمل الاسمية: «أخرج إلى الصالة. أبحث عن أُمي. يأتي صوت الموقد المزعج من المطبخ. أتسلل إلى غرفة نومها. مُرتّبة. فوق السرير غطاء من الدانتيلا المخرمة. أتناول زجاجة العطر الزرقاء من فوق التسريحة وأتشمم حافتها». (ص46).

كأنّ السارد يؤكّد على تزامُن التذكّرات أثناء ما كان يعيش مع والده، فيملأ فراغ الأم باسترجاع نُتفٍ من حياة الأسرة قبل الفراق. إلا أنه إذا كان جرح الأم الغائبة عميقاً، فإن علاقة الطفل بأبيه لا تقل عمقاً لأنهما متواطئان من خلال تحمُّلهما لتصرفات الأم التي كانت تغلق عليهما الغرفة بالمفتاح خوفاً من أن يسمّمها زوجها. وكان الطفل منجذباً إلى أبيه لأنه يجيد الحكي والكلام، ويعلمه أشياء كثيرة. وهذه العلاقة المتواطئة تتجلى في تفاصيل حياة الطفل والأب في شقة صغيرة، متواضعة بعد دخول الأم إلى المستشفى، واضطلاع خليل المتقاعد بتربية الابن ومساعدته على حفظ دروسه وقراءة القصص والروايات... ولأن الطفل صنع الله كان في مرحلة استكشاف العالم الخارجي، وكان أبوه يُدلّله لأنه آخر العنقود، انغمر في فضاء الحارة والمدرسة مسخّراً ذكاءه و شيْطنته في التلصّص على الخادمات كما كان أبوه يطلب منه ذلك، أو على الجارات استجابة لغريزة جنسية بدأت تعلن مُبكّراً عن نفسها. ولم يكن طفلنا يترك السأم يتسلل إلى نفسه، فقد وجد في التلصص ما يشحذ فضوله ويوسع مداركه. وقد وجد في تحية، صديقة كريم جارهم الذي يعمل في الجيش، مصدراً للحنان والحضور الأُنثوي. كانت تحية تداعبه وتعطيه الشوكولاتة، وتلعب معه الورق، وكان هو أثناء غياب أبيه يراقبها وهي تستحمّ ثم وهي تنتف شعر ساقيْها. وذات ليلة طلب من أبيه أن يسمح له بقضاء الليل مع ماما تحية التي كانت تستضيف ابني صديقتها، فأَذِن له. وخلال النوم تقع الحادثة التي يرويها على هذا النحو: «أروح في النوم أستيقظ فجأة. لا أستطيع الحركة. أكتشف أنني في حضنها وساقي بين فخذيها. أسمعها تتنهد. تضمني بقوة. أقول لها:ماماً، عاوزة حاجة؟ لا ترد عليَّ. أجذب ساقي من بين فخذيْها لكنها تتشبث بي. تفلتني بعد لحظة. يتصاعد شخيرها». (ص143)


سيرة الحروب

كانت تلك الفترة أيضاً فترة نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم نشوب الحرب في فلسطين وانهزام الجيوش العربية، وبداية تظاهرات الاحتجاج على الملك المصري وعلى الفساد، وأصداء ذلك بين تلامذة المدارس... واختار السارد أن ينقل إلينا أصداء كل ذلك من خلال تعليقات الأب وأصدقائه في الحارة على ما كانت تنشره الصحف. وواضح أن دقة الأحداث وتنوعها هما أكثر مما قد تستوعبه ذاكرة طفل في التاسعة من عمره. لذلك يبدو أن الكاتب استعان بصحف تلك الفترة ليس فقط في ما يتصل بالسياسة وإنما أيضاً في ما يتعلق بالأفلام السينمائية: «أدفع الباب وأدخل. لا تلتفت إلي إحداهن. تقلب شيرين صفحة المجلة. تستعرض الأفلام الموجودة في السوق بصوت مرتفع: «الصيت ولا الغنى»، محمد عبدالمطلب وحسن فايق. «أميرة الجزيرة»، تحية كاريوكا، بشارة واكيم، اسماعيل يس وشكوكو...(ص27).

أما بيت الأخت غير الشقيقة، نبيلة، المتزوجة من «عمو» فهمي فهي تعيش في شقة كبيرة ورفاهية تليق بالمستوى البورجوازي الذي كان الأب خليل ينتمي إليه قبل أن يتعرض للتدهور والمشكلات العائلية. وصف زيارات بيت الأخت في الأعياد والمناسبات، يُظهر الفارق الكبير في مستوى العيش بين العائلتين. لكن الأب متشبث بكبريائه، راضٍ بوضعيته، حريص على أن يلقن طفله خلاصة مبادئه في الحياة. من هنا، تبدو أهمية علاقة الأب بابنه الطفل وما لها من خصوصية تستحق التحليل: ذلك أن الأب الذي كان موظفاً في وزارة الحربية قد تقلب في النعيم وسافر في زيارات عمل إلى تركيا والسودان، وأيد ثورة 1919، وخلّف ابناً كبيراً هو أخو نبيلة، ثم ماتت زوجته وهو على أبواب الكهولة فتزوج من فتاة في السادسة عشرة تعلقتْ به وهو أيضاً أحبها وأنجب منها صنع الله وأختاً صغيرة آثر الكاتب ألا يتحدث عنها مع أنها كانت تعيش معهما، كما يذكر في «يوميات الواحات». ولكن مصاب الزوجة الشابة زعزع كل شيء ووضع الأب خليل على حافة الانهيار، لولا الولد المتعلق به والذي يعتبره بمثابة المدرسة الحقيقية التي علمته فن الحكي والكلام، والنكتة والوطنية... ليست مجرد علاقة أب بابنٍ، بل هي تجربة قوامها الحب والمعرفة ورفع التحدي لاستئناف الحياة في شروط مادية صعبة. وهي تجربة إنسانية عميقة، لأن ذلك الطفل العاشق لأبيه والمفتون به، سيكتشف لحظات ضعفه وانحداره، منتقلاً من القوة والكبرياء والفحولة، إلى التضعضع والعجز، على نحو ما يروي ذلك حين فاجأ أباه مع الخادمة فاطمة: «... أخطو داخلاً في اطمئنان لأنهم لن يروني. تُطالعني مؤخرة أبي العارية بين ساقي فاطمة العاريتين المرفوعتين إلى أعلى. راقدة على السرير ورأسها فوق الوسادة. أقترب خطوة. أسمعها تقول: معلهش. الظاهر انت مليكش مزاج. يقترب بفمه من فمها. تزيح فمها جانباً (...) تقول بعد لحظة: مفيش فايدة...». (ص290) وهناك مواقف ولقطات أخرى تخرج عن نطاق مجرد تصوير إيقاع ومناخ الحياة اليومية لأبٍ كهل وطفل يشحذ وعيَهُ عبر اكتشاف عالم الكبار. هناك شخصية جمعة الذي يزعم أنه تزوّج من الجنيّة زراكش، وشخصيتا عمو فهمي وعلي الصفا المهووسان بالجنس في سن الانحدار نحو الشيخوخة... وكل ذلك يلمْلمه الشكل الروائي السيرذاتي بمهارة ومتعة ليطرح على القارئ أكثر من سؤال.


ما وراء الاعتراف

يتبين من تحليلنا السابق، أن رواية «التلصّص» توظف السيرة الذاتية في شكل روائي يتيح الحذف والتوضيب وتوسيع دائرة الأفعال والأقوال من خلال استحضار صحف تلك الفترة على لسان بعض الشخصيات وتعليقاتهم على الأخبار.

وإذا كان صنع الله قد وظف من قبل مقاطع من حياته في روايات سابقة، فإنه هنا يُفْرد نصاً لمرحلة الطفولة الحساسة التي خلّفتْ جروحاً عميقة في نفسيته، وسبَق له أن استحضرها في قصة قصيرة كتبها وهو في السجن، على نحو ما يشير إلى ذلك في «يوميات الواحات». نتيجة لذلك، يواجه القارئ أسئلة عن المنظور الذي يلائم قراءة هذه الرواية - السيرة: هل يعتبرها مجرد إثبات لخصوصية الذات ونرجسيّتها؟ أم هي اعترافات تتوخى الذهاب إلى أقصى الأصقاع حميميّة؟ أم أن الكاتب يستجيب، في العمق، لهاجس طالما شغَله،عبّر عنه سنة 1963 وهو في السجن متسائلاً: «هل يمكن أن أُوحّد الذاتي بالموضوع في كتابتي؟» (يوميات الواحات، ص129).

من هذه الزاوية، يمكن أن نقرأ «التلصّص» على أنها حفْر في الطفولة لاستخراج النواة الصّلبة التي جعلت من صنع الله ما صاره لاحقاً في انتمائه اليساري وخياراته الفكرية والعاطفية والجنسية. ونجد الكاتب يزكي هذه القراءة من تفسيره لمساره الحياتي قائلاً: «السجن هو جامعتي (...) أما أبي فهو المدرسة» ثم يضيف: «حقاً إن انضمامي الى النشاط السريّ كان امتداداً لقصص المغامرات التي شُغِفتُ بها، وتأكيداً للذات في مواجهة الكبار والأغنياء». (ص15).

لعل هذه القراءة التي يقترحها الكاتب تختزل الإمكانات المعقدة التي تنطوي عليها كل حياة، خصوصاً في جوانبها اللاشعورية. وقد تؤول إلى اعتماد معادلة تقوم على مزج الذاتيّ بـ «الموضوعي» لتحديد الصفات الأساس في الشخصية وتحديد اختياراتها. وأنا أرى أن «التلصّص» تقدم مدخلاً للقراءة عبر شكلها الالتباسي الجامع بين السيرة والصوْغ الروائي، فتغدو القراءة متوفّرة على إمكانات تأويلية تتراوح بين التماهي والتعاطف (السيرة الذاتية)، وبين الحوار والتواصل اللاواعي(التخييل الروائي). إن هذا الشكل القائم على الالتباس «الأجناسيّ» يُحرك - كما لاحظ فيليب كاسبريني عنصريْن فاعليْن :الاعتراف السيرذاتي والدينامية الروائية، ويدرج الذات الكاتبة في شبكة من التورّطات العاطفية والاجتماعية تُحوّل «الأنا» المتفرّدة أنموذجاً ورمزاً. من هذا المنظور تبدو رواية «التلصّص» جزءاً من سيرورة البحث عن الهوية في بذورها وتكوُّناتها وتعدُّديتها. ومعنى ذلك،أن علينا ألا نتأثر في قراءتنا بما يقترحه صنع الله، فلا نعتبر «التلصّص» تفسيراً لمسار حياة وإنما نتعامل معها على أنها سيرة غنية بعناصر تتصل برواية العائلة والحيّ والمدينة وفترة الأربعينات في مصر، وهي بِقدْر ما تنطوي على عوامل موضوعية، تخضع أيضاً للصدْفة وتحويرات الذاكرة وبياضات النسيان، وتعدُّد الهوية والذات.

إنني أميل أكثر إلى اعتبار تاريخنا الشخصي، بصفته شريحة من العالم، خاضعاً للإدراك الرمزي نفسه الذي نتوسّل به لفهْم قصة أو رواية. وهو الرأي المعروف الذي عبر عنه المحلل النفساني لاكان، عندما قال إن تمثيلنا لأنفسنا يتْبع خطّاً للتخييل ligne de fictio ولا يتقيّد بما هو واقعيّ أو صادق.

استطاع صنع الله، في هذا النص الممتع، أن يجد شكلاً ولغة ملائميْن لهذه السيرة التي تنطوي على جرح أُموميّ عميق وعلى حب أبوي ّكبير، والتي تُشرع نافذة التلصّص لتُطلّ على فضاءات مهملة، جاعلة من المحكيّ الشخصيّ وسيلة لاستعادة أجزاء مُضيَّعـــة من الذات. ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن هناك، داخل «التلصّص» رواية ثانية قصيرة، شذرية، تحاول أن تستحضر جرح الأم النازف، ذلك الجرح اللايُسمّى الذي يشدّنا إليه قدْر ما تجتذبنا شخصية الأب المفتون بابنه النبيه، المتواطئ معه من أجل أن تستمر الحياة.

*الحياة








أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "ثقافة"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024