خواطر في التسامح السياسي..عهد الرئيس علي عبدالله صالح نموذجا
الإثنين, 26-مايو-2008نصر طه مصطفى* - سأحرص في هذه الورقة المختصرة على تجنب الجوانب التأصيلية والتاريخية للتسامح الديني والسياسي كمبدأ وسلوك وممارسة في تاريخنا وحياتنا نحن اليمانيين لأني على ثقة أن ما قدمه أساتذتنا الأجلاء المشاركين أمس قد أشبع هذين الجانبين بصورة أكمل وأشمل وأفضل... لكن ذلك لا يعني أن أغفل عن حقيقة أن التسامح الديني والسياسي كانا ولازالا سمة أساسية في حياة شعبنا على مدى القرون الماضية وحتى الآن، ولم يحد اليمانيون عن نهج التسامح إلا في حالات هيمنة أصحاب الأيديولوجيات المتطرفة والتعبئة العقائدية الخاطئة على القرار سواء كانت عقائد دينية أو سياسية أو خليط من هذه وتلك... وفي الحقيقة فإن الساسة والقادة المؤدلجين والمتطرفين هم الذين كانوا يقودون أتباعهم من المواطنين إلى مجاهل العنف والحقد لأن العنف والحقد والتطرف ليست من سمات اليمنيين بل كانت وظلت نتاجا للتعبئة السياسية والعقائدية الخاطئة كما هو الحال لدى أي شعب من شعوب الدنيا... فقد كان أبناء شعبنا دوما متآلفين متقاربين في الظروف الطبيعية التي يسودها الأمن والاستقرار لم تفرقهم المذهبية أوالقبلية إلا في ظروف إحياء العصبيات التي كان يقودها أصحاب المصالح من الساسة والقادة مستغلين استشراء الجهل والفقر معتقدين أن وجودهم وهيمنتهم واستمرارهم لا يقوم ولا يستمر إلا بتعزيز نهج الفرقة والتجزئة وبإشاعة روح التعصب سواء للقبيلة أو للمذهب أو للمنطقة أو للسلالة... ولذلك فإنه بمجرد أن يغيب هؤلاء القادة عن المسرح السياسي وتعود الأوضاع لطبيعتها سرعان ما يعود اليمانيون إلى أصالتهم وسماحتهم وتآلفهم وتكاتفهم وتآخيهم وتعاونهم في مواجهة كل الشدائد وسرعان ما تختفي تلك النعرات والعصبيات وتتراجع.
ومنذ قيام النظام الجمهوري في بلادنا يمكنني القول باعتزاز كبير أنه نجح في إعادة اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب وتمكن من نزع معظم عوامل التعصب المذهبي والمناطقي والقبلي بإشاعة روح الأخوة والحرية والمساواة والتسامح والألفة وتعميق روح الولاء للوطن بأكمله، كما أن كسر العزلة الداخلية بين أبناء الشعب أزال الحواجز النفسية الوهمية التي صنعتها عهود الاستبداد والتخلف وأنتج حالة غير مسبوقة من الاندماج الاجتماعي والمصالح الاقتصادية المشتركة والتقارب السياسي على أسس فكرية غير عصبوية، وأسهم الانفتاح على العالم الخارجي بالكثير من التنوير عبر نشر التعليم والتثقيف بمختلف الوسائل الحديثة التي لم تكن مألوفة ومعروفة قبل الثورة... ومع مرور الوقت يمكن القول أن مناهج التعليم الوسطية المتوازنة غير المذهبية أسهمت في إخراج أجيال جديدة تشربت منهجية التسامح والمساواة والتآخي والترفع على العصبيات ونبذ ثقافة الكراهية فنجحنا في تجاوز الكثير من مشاكلنا المعقدة وتراجعت إلى حد كبير روح العصبية المذهبية والقبلية والمناطقية.
وتجنبا للخوض في إشكاليات طارئة حدثت في شطري الوطن في بعض الأحيان شوهت منهجية التسامح السياسي في العهد الجمهوري فسأتجاوز إلى التعاطي مع تجربة الرئيس علي عبدالله صالح كأنموذج ساطع لمنهجية التسامح السياسي الذي كان دوما البوابة الرئيسية للاستقرار السياسي الذي عاشته بلادنا طوال السنوات الثلاثين الماضية.. فقد ظل التسامح السياسي طوال تلك السنوات الميزة الكبرى في السلوك القيادي للرئيس علي عبدالله صالح وظل المنطلق الأساسي في منهجيته ورؤيته لإدارة الحكم والسلطة في بلد عانى الكثير من ثارات السياسة وتقلبات الأنظمة!
ولم يكن نهج التسامح في سلوك الرئيس علي عبدالله صالح نابعاً من ضعف أو كان اصطناعاً أو مداهنة من النظام بل كان قناعة وإيمانا وسلوكا أصيلا قبل أي شيء آخر.. فقبل ثمانية وعشرين عاما وفي غمرة المعارك التي ظلت تشنها المجموعات اليسارية في المناطق الوسطى أعلن الرئيس تشكيل لجنة للحوار الوطني من خمسين عضوا ضمت عددا من القادة السياسيين لتلك المجموعات، والذين تمثل بعضهم لاحقا ضمن أول قيادة للمؤتمر الشعبي العام عند تأسيسه في أغسطس عام 1982م.. وقبل ذلك بعدة شهور أي في مايو 1982م أعلن الرئيس قراره الشجاع بالعفو العام عن المجموعات اليسارية المسلحة من داخل مديرية النادرة في وقت كانت فيه مجاميع أخرى لازالت تقاتل في ريمة ووصاب ورداع ومناطق أخرى ضد الدولة.
وطوال الثمانينيات حيث لم تكن هناك تعددية معلنة صدرت عدد من الصحف التي تمثل الأحزاب الرئيسية فالميثاق كانت لسان حال المؤتمر الشعبي العام، والصحوة كانت لسان حال الإخوان المسلمين، والأمل كانت لسان حال الجبهة الوطنية الديمقراطية، والشعب كانت قريبة من حزب البعث... فرغم أن الدستور في الشمال كان حينها يحرم الحزبية لكن الرئيس علي عبدالله صالح كانت له رؤيته الثاقبة لإدراك حقائق الواقع ومتطلباته واتخذ بالفعل خطوات عملية باتجاه التعامل الواقعي مع التعددية السياسية، حيث جسدت انتخابات مجلس الشورى التي جرت عام 1988م تنافساً حزبياً غير معلن وعبرت عن وجود مبكر للديمقراطية التعدديةً وبحيث أنه لم يأت قيام الجمهورية اليمنية عام 1990م إلا وللديمقراطية تطبيقاتها العملية ليتوسع نطاقها ويتأطر بعد ذلك في إطار دستور الجمهورية اليمنية.
وخلال العامين الأولين من قيام الجمهورية اليمنية أدار الرئيس علي عبدالله صالح حوارا مكثفا مع قيادة الحزب الاشتراكي اليمني الشريك في الحكم آنذاك بخصوص إغلاق ملف أحداث 13يناير وفتح صفحة جديدة بإصدار قرارات عفو حول الأحكام التي طالت الرئيس الأسبق علي ناصر محمد ورفاقه... وبالفعل فقد تكللت تلك الحوارات المكثفة بإصدار قرار العفو خلال عام 1992م، وفي الحقيقة فقد أدى ذلك إلى عودة عدد غير قليل من القيادات المحسوبة على الرئيس علي ناصر محمد إلى صفوف الحزب الاشتراكي... ولاشك أن ذلك كان امتدادا لنهج الرئيس صالح في إشاعة أجواء التسامح والوفاق والتقارب بين مختلف الأطراف السياسية الفاعلة في البلاد.
وقبل أربعة عشر عاما من الآن وفي ذروة حرب صيف 1994م وعقب صدور إعلان الانفصال أصدر الرئيس علي عبدالله صالح قراره التاريخي بالعفو العام عن جميع العناصر التي تورطت في الحرب.. وبعد ذلك بتسع سنوات أغلق الرئيس آخر ملفات تلك الحرب بإلغاء الأحكام الصادرة بحق ما عرف بمجموعة الستة عشر.. كما أنه وفي ذروة الكتابات الصحفية التي تعرضت له شخصياً بالإساءة والتجريح ذهب بنفسه إلى وزارة الإعلام في مايو 2004م ليوجه بإجراء تعديلات على قانون الصحافة بما يكفل إلغاء عقوبة الحبس ضد الصحفيين ليؤكد بذلك أن منهجية التسامح كقيمة سياسية وأخلاقية ظلت ثابتة ولم تتغير طوال أكثر من ربع قرن، رغم أننا جميعاً ندرك أن اليمن لم يعرف امتداد نفوذ الدولة وسلطتها على جميع أراضيه منذ قرون طويلة مثلما هو اليوم بمعنى أن الدولة اليوم تعيش في مرحلة قوة غير مسبوقة لم يعهدها اليمنيون من قبل.. ومع ذلك ظل التسامح هو القيمة الأساسية التي لا يقبل الرئيس علي عبدالله صالح المساومة عليها أو التراجع عنها لأنها بالتأكيد جزءا من تكوينه النفسي والروحي وتربيته وسلوكه وقناعته.. وهذا يقودنا للتوقف أمام الأسلوب الذي أدارت به الدولة الأزمة مع حركة الحوثي فالجميع يدرك أن المعارك التي خاضتها الدولة مع هذه الحركة كانت مضطرة إليها بسبب التعنت الذي واجهته ورفض الانصياع لسلطتها وإصرار هذه الجماعة على السيطرة على عدد من المناطق وهو أمر لا تقبله أي دولة في الدنيا تحرص على كرامتها وهيبتها وسيادتها، ومع ذلك فتأكيدا لنهج التسامح الذي اتسم به عهده أصدر الرئيس علي عبدالله صالح عفوين عامين ووجه بصرف التعويضات وإطلاق المعتقلين وإعادة أعضاء الجماعة إلى وظائفهم... كما قبل الرئيس صالح وساطة خارجية في أمر داخلي لإثبات حسن النوايا وإعطاء الفرصة لهؤلاء الشباب العودة عن تمردهم بما يحفظ ماء وجوههم... ومع ذلك فكلنا أمل في وقف ما يجري من قتال حاليا وأنا على يقين أن هؤلاء الشباب كلما مدوا شبرا من حسن النوايا تجاه الدولة سيمد لهم الرئيس صالح ذراعا وباعا.
يحضرني نموذج آخر لمنهجية التسامح يتمثل في إعادة أكثر من خمسة وثلاثين ألف عسكري إلى الخدمة في الجيش كمعالجة لأزمة المتقاعدين التي حدثت خلال عامي 2006 و2007 الماضيين رغم ما قيل أن ذلك مخالف للقوانين المنظمة لعملية التقاعد... ومع ذلك فقد جاءت المعالجات التي جرت لتؤكد أن منهجية التسامح لا غنى عنها لأي وطن يبحث عن أمنه واستقراره ويريد تعزيز وحدته الوطنية وسلمه الاجتماعي.
إن التعايش السياسي لا يمكن أن يتم في ظل غياب قيم التسامح أو في ظل الإصرار على استدعاء مخلفات الماضي أو رفض الترفع عن الصغائر.. إذ أن قيم التسامح بكل ما تتطلبه من استصحاب مكارم الأخلاق يجب أن تعكس نفسها على كافة السلوكيات سواء على مستوى الأفراد أو مؤسسات الدولة أو منظمات المجتمع المدني أحزابا ونقابات سلوكاً تربوياً يغرس في النفوس ويتربى عليه الأفراد سواء كانوا مواطنين عاديين أو مثقفين أو أحزابا في السلطة أو المعارضة وهو ما يجب أن يتعلمه الجميع من سلوك علي عبدالله صالح كقائد وكإنسان لأنهم يعلمون جميعاً أنهم يرجعون إليه عندما يجد الجد وعندما تحدق بهم المصاعب والمخاطر وأنه في النهاية المظلة التي يحتمون بها جميعاً ويجدون لديه الصدر الواسع والبصيرة النافذة والرأي السديد والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة، وهذا الحديث ليس تزلفا بالتأكيد للرجل لأن التزلف يكون عندما تصف أحدا بما ليس فيه وليس بما فيه، فالجميع الخصوم قبل الأصدقاء يقر له بهذه الصفة الإنسانية والقيادية الرائعة، وهذه الخاصية النبيلة كان لها دورها بالتأكيد في تجنيب اليمن الكثير والكثير من المحن والابتلاءات القاسية التي نجد أمثالها في عدد غير قليل من البلدان.
إن التسامح سلوك نبيل ينم عن سمو صاحبه وتغليبه العام على الخاص، وكما قد يكون صفة أصيلة في إنسان ما فإنه يُكتسب أيضاً إذا رغب في ذلك أي إنسان.. وهذا يعني أن الأطراف السياسية قادرة على انتهاج التسامح كمسلك في أدائها إن أرادت ذلك وستجد أنها كسبت مثلما كسب الوطن.. وأظن أن عبرة السنوات الماضية خير دليل على ما نقول فلولا ذلك المسلك لما امتدت شبكة الطرق الهائلة لتربط معظم محافظات الجمهورية ببعضها البعض فتبعث في كل مكان مرت فيه الحياة والأمل بمستقبل أفضل.. واليوم نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة في حياتنا السياسية لا نريدها فقط أن تعكس قيمة التسامح وأهميته بل إلى ذلك نريدها أن تخلق حالة من الثقة والاطمئنان خاصة في مجال حرية الصحافة والتعبير عن مختلف الآراء وتكريس التجربة الديمقراطية اليمنية وأن تحول بينها وبين احتمالات التراجع والعودة إلى الوراء... وفي هذا الصدد تحضرني دوما كما تحضر الكثير منكم تجربة أداء الإعلام الرسمي المحايد والمتوازن خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي كان الرئيس علي عبدالله صالح المتحمس الأول لها والداعم الأساسي وقد رأينا تأثيراتها الإيجابية على صورة اليمن داخليا وخارجيا رغم أن الكثير من المزايدين كانوا يعتقدون أن نشر وإذاعة خطابات مرشحي المعارضة ستجعل النتائج لصالحهما إلا أن ما حدث كان العكس تماما... وهذا يجعلني أؤكد مجددا أن نهج التسامح السياسي لا ينتج إلا الثقة بالنفس وهذه الأخيرة لا تنتج إلا كل ما هو طيب وجميل، فلماذا ينزعج أولئك المزايدين اليوم من بضعة صحف أو مواقع إلكترونية لا يصل تأثيرها إلى عشر تأثير الإذاعة والتلفزيون؟! ولماذا ينزعج هؤلاء رغم أننا نشاهد يوميا في التلفزيون نواب المعارضة وهم يعبرون عن آرائهم بكل حرية دون أن يهتز للدولة طرف؟!
وهذا ما يجعلنا نأمل من صاحب القلب السموح والعقل المفتوح الذي يتجاوز الكثيرين بحكمته وبعد نظره أن يتم إغلاق الملفات المفتوحة وفتح صفحة جديدة من الحوار مع القوى السياسية التي يفترض أن تتجاوب وتبادر هي الأخرى تجسيدا لنهج التسامح وتجاوز التعقيدات السابقة خاصة أننا على مشارف استحقاق انتخابي هام بعد أحد عشر شهرا من الآن، وهو استحقاق يجعلنا نأمل من فخامة الرئيس بما عرف عنه من السماحة والترفع عن الصغائر فتح صفحة جديدة مع أصحاب الكلمة بإطلاق زميلنا الصحفي محمد المقالح ووقف محاكمات الصحفيين وفي مقدمتهم زميلنا الصحفي عبدالكريم الخيواني وإطلاق تراخيص الصحف المستكملة لشروط الإصدار وإطلاق المواقع الإلكترونية المحجوبة والتعجيل بإنجاز التعديلات على قانون الصحافة لتشكل نقلة جديدة للكلمة الحرة الصادقة المسؤولة أما النماذج المشوهة فإن المجتمع ينبذها ولا يقبلها بفطرته وإدراكه وإحساسه وروح التسامح التي تتشبع بها روحه، وهو ما يفرض أن تتعاون كافة القوى السياسية والأقلام الوطنية من أجل تحقيقه ومن أجل المزيد من التقدم للأمام دون المكايدة أو المكابرة والعناد، الأمر الذي يحتم علينا أن نحرص على التحلي بالمزيد من المسؤولية والحرص على تطوير التجربة والترفع عن الصغائر ونشر قيم التسامح والمحبة والأخوة في كافة جوانب حياتنا.
*ورقة عمل مقدمة الى ندوة ( ثقافة التسامح الديني والسياسي في اليمن) التي نظمها منتدى جسور الثقافات بصنعاء للفترة 25-26 مايو2008م