المؤتمرنت - بقلم: نــزار العبــادي -
تجادل كثير من الأنظمة العربية في أن بعض ممارسات الديمقراطية قد تجّر وبالها على حجم الهدوء النسبي الذي تتمتع به أنظمتها السياسية، وكلما تمعنت بحيثيات التجارب الغربية، كلما اشتدت مخاوفها من عواقب التحول الديمقراطي، وازدادت شهيتها في اختلاق الذرائع والبحث عن كل ما يؤكد لشعوبها عدم جدوى تبني ما يناقض فكر المجتمع، وتراثه، وعاداته..الخ.
وبين من يتهيّب الديمقراطية، ومن يتحفظ على بعض ممارساتها، ومن يتحايل لتجريدها من روحها، ظلت صنعاء تمد جسور تجربة فريدة في البناء الديمقراطي لا ترى فيها نسخ التجارب خياراً وحيداً أمام بلدان العالم النامي للتحول الديمقراطي، بقدر ما يمكن امتلاك الخصوصية الوطنية، والتدرج في بلوغ الغايات، واستلهام اتجاهات وقيم فكرية وفلسفية من التجارب القائمة، ومواءمتها مع الواقع وتفاعلاته واحتياجاته، تفادياً للصدام أو الإخفاق.
فالديمقراطية في اليمن لا يمكن ربط بدايتها بالتعددية الحزبية المتمخضة عن دستور وحدة الثاني والعشرين من مايو 1990م، مثلما ظل أغلب السياسيين اليمنيين يرددونه، لأن جميع الوثائق السياسية للدولة اليمنية تؤكد بأن التأسيس للديمقراطية في اليمن بدأ بعد أقل من عام من تسلم الرئيس علي عبدالله صالح مقاليد الحكم (يوليو 1978م)، حين بدأ بإيجاد التشريعات الموسِّعة لأعداد وصلاحيات مجلس الشعب التأسيسي، ومنح المرأة حق الانتخاب والترشيح طبقاً لتعديل قانوني عام 1980م، ليأتي بعد ذلك المؤتمر الشعبي العام (أغسطس 1982م) كأول نموذج للتعددية السياسية، وأول مظلة لتنمية الديمقراطية، وتأهيل كوادرها وتطوير تجاربها.
إن ذلك اللون السياسي من التأهيل الديمقراطي هو نفسه من ساعد اليمن على التحول إلى التعددية الحزبية، وتجارب انتخابية برلمانية ورئاسية، ومحلية، ثم أفق واسع من منظمات المجتمع المدنين ومساحة شاسعة من الحريات الصحافية التي لم تجد السيدة "دبريانسكي" –مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية- بُداً من الاعتراف بـ"أن اليمن من أفضل البلدان العربية، وبعض دول العالم الأخرى في حريات الصحافة" خلال زيارتها لليمن، أواخر عام 2004م.
وإذا كانت حريات الصحافة في اليمن حضيت بإعجاب شديد من السيدة "دبريانسكي"، فإن السيد "جوهان بلانكيبرج" –سفير مملكة هولندا بصنعاء، ورئيس الدورة الحالية للمفوضية الأوروبية باليمن- أثارت إعجابه مسيرة وحراك الحقوق الإنسانية في اليمن، فترجم ذلك الإحساس خلال افتتاح الدورة التدريبية الإقليمية التي نظمها منتدى جسور الثقافات الأحد الماضي، قائلاً: (شيء رائع أن تأتي جنيف إلى صنعاء، وليست صنعاء هي من تذهب إلى جنيف)!
إن الربط بين صنعاء وجنيف كانت توصيفاً ذكياً للغاية من قبل السيد "بلانكيبرج" لواقع الدور الذي باتت تلعبه صنعاء، فبعد أن كانت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة تحتضن الدورات التدريبية، والمؤتمرات الدولية بحقوق الإنسان، فتتوافد عليها المنظمات من شتى أنحاء العالم، وجد السيد "بلانكيبرج" أن صنعاء احتضنت السبت (17 سبتمبر) دورة إقليمية لأكثر من (50) رجل دين، قدموا من بلدان آسيوية وأفريقية لتدريبهم على الأدوار المناطة بهم في مكافحة الإيدز. وفي يوم الأحد افتتح منتدى جسور الثقافات –الذي يرأسه الدكتور عبد الكريم الإرياني- دورة تدريبية إقليمية حول آليات الأمم المتحدة في حقوق الإنسان، بمشاركة دول الخليج العربي، والعراق، وفلسطين، واليمن، فيما أقام المركز اليمني لحقوق الإنسان يوم الاثنين مؤتمراً إقليمياً ودولياً حول تنفيذ قرارات الأمم المتحدة في حقوق الإنسان.
صنعاء تستقبل ممثلي منظمات مجتمع مدني من دول مختلفة من العالم.. وصنعاء تستقبل خبراء المفوضية السامية لحقوق الإنسان بجنيف، ليدربوا المنظمات.. وإلى صنعاء –أيضاً- يصل "فرج فينش" –المنسق العام للمنطقة العربية والشرق الأوسط بالمفوضية السامية، ويسبقه بيومين "معتز قفيشة"-مسئول اليمن والخليج العربي بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان في جنيف.. ألم يكن كل ذلك يستحق فخر السيد "بلانكيبرج" –سفير هولندا؟!
لاشك أن الجسور التي أُطلِقت بين صنعاء وجنيف ، ما هي إلاَّ اعتراف صريح بما آلت إليه مسيرة حقوق الإنسان في اليمن، وبالتطور الكبير الذي شهدته ديمقراطيتها.. وهي –أيضاً- ثقة كبيرة يمنحها المجتمع الدولي لليمن، بأنها بلغت شأناً يؤهلها لتحمل مسئولية تنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية، وتطوير تجارب شعوبها، ومهارات منظماتها المدنية، وهي مسئولية تستحقها اليمن في ظل النجاحات التي أحرزتها على هذا الصعيد، والتطورات الهائلة التي شهدتها خلال عهد الرئيس علي عبدالله صالح.
قد لا يعلم الكثيرون معنى أن يبادر منتدى جسور الثقافات إلى تنظيم أول دورة تدريبية إقليمية من نوعها بصنعاء، بعد أن كانت تقام في جنيف –حصرياً؛ لكن الأهمية تتجلى في الحال حين نعرف بأن سفير سلطنة عمان –عبدالله البادي- كان أحد المتدربين في الدورة، وأن الوزير المفوض بسفارة العراق –عبد الكاظم الموسوي- كان أحد المتدربين –أيضاً- وأن وكيلة وزارة الشئون الاجتماعية –نور باعباد- كانت متدربة، وأن عضو مجلس النواب –شوقي القاضي- كانت متدرباً، وكذلك سيدة الأعمال ابتهاج الكمال –متدربة أيضاً، وهناك العديد من الأسماء البارزة في اليمن، أو دول الخليج، واظبت حضور أيام الدورة الخمسة بأكملها.
ويقيناً أن حضوراً نوعياً كهذا يوجّه رسالة بليغة للعالم بأن قضايا حقوق الإنسان تحتل صدارة اهتمام رموزنا السياسية والثقافية والاقتصادية، وأن الوعي يتعاظم مع مواصلة مشابكة الجسور الثقافية بين أبناء المنطقة، ومع حرارة التواصل والتحاور وتبادل الخبرات.
وفي نهاية الأمر فقد علمت من معالي الدكتور عبد الكريم الإرياني-رئيس منتدى جسور الثقافات- بأنه هناك تطلع لأن يتم فتح مركزاً تدريبياً للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، يكون مقره بصنعاء، لتنطلق منه أي أنشطة إقليمية مستقبلاً.. واعتقد أن في ذلك تشريف كبير لليمن من قِبل المفوضية والمجتمع الدولي يجعل من جسور جنيف إلى صنعاء سالكة على الدوام.. وذلك استحقاق كل إرادة وطنية صادقة، ومخلصة لوجدانها الإنساني.