![]() نهوض القوى العظمى وسقوطها يشغل نهوض القوى العظمى وسقوطها مساحة واسعة في الفكر السياسي والاستراتيجي، ويشغل أيضا على الدوام المثقفين والمشتغلين بالنهضة والعمل العام في الوطن العربي والعالم ِأيضا، ويمكن تذكر عشرات بل مئات الكتب التي أخذت اهتماما عربيا واسعا، مثل سقوط القوى العظمي من تأليف بروفيسور التاريخ الأمريكي كنيدي، وكتاب الأمير شكيب أرسلان في اوائل القرن العشرين «لماذا تخلف المسلمون ولماذا نهض غيرهم». ويقدم كتاب غسان العزي «سياسة القوة: مستقبل النظام الدولي والقوى العظمي» والذي أصدره مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق في بيروت أفكارا وتساؤلات علمية وتحليلية حول هذا السؤال الملح الموجع، فيعرض معايير القوة الدولية وأدواتها بعد التحولات العاصفة التي جرت في مجال العلاقات الدولية بعد العولمة، ويحلل أوضاع القوى العظمى الأساسية، وهي: الولايات المتحدة، وروسيا، واليابان، والاتحاد الأوروبي، والصين، ويحاول استشراف ميزان القوى العالمي. لقد تعاقبت في القرون الخمسة الفائتة مجموعة من الدول الكبرى في الهيمنة على العالم، مثل تركيا، ثم إسبانيا والبرتغال، ثم هولندا والنمسا، وألمانيا، ثم بريطاينا وفرنسا، ثم اليابان وألمانيا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة، وقد سيطرت على المسرح العالمي بعد الحرب العالمية الثانية قوتان عظميان تميز الصراع بينهما بالاعتماد على الردع النووي كأداة لتنظيم العلاقة بين الشرق والغرب، وإخضاع نزاعات المسارح الطرفية إلى المركز، وغلبة العامل السياسي الاستراتيجي على الضغوط الاقتصادية. وهيمنت الولايات المتحدة منذ عام 1991 على المسرح العالمي، وبدا أن نظاما عالميا جديدا يتشكل تشكل فيه الولايات المتحدة مركز القيادة والهيمنة، وتبدو مجموعة من الدول مرشحة لمنافستها، وهي الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا، والصين، وروسيا، واليابان. ويرجح المؤلف أن المرحلة القائمة ليست نظاما دوليا جديدا، ولكنها مرحلة انتقالية لم تحسم بعد ولم تستقر على حالة نهائية، والخريطة العالمية ترشح الوضع للعودة إلى ثنائية قطبية أو متعددة الأقطاب. كانت القوة العالمية تتحقق أساسا بالقوة العسكرية، بالجيوش المدربة والمنظمة، والأسلحة المتفوقة، وشجاعة الجنود والمقاتلين ومهارتهم، ولكن المعيار العسكري لم يعد حاسما أو فريدا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بل إنه يصبح أحيانا عبئا اقتصاديا وسببا للنزف المؤدي للضعف والتراجع وربما الانهيار. وقد ظهرت تهديدات جديدة مثل التلوث والمافيات والمخدرات والإرهاب والصراعات العرقية والإثنية مما لاتفيد في مواجهتها الحلول العسكرية. والعدد الكبير للسكان يشكل موردا كبيرا للدولة يعطيها زخما سياسيا واقتصاديا ومصدرا للكفاءات والكوادر العلمية والإدارية والجيوش والموظفين والقوة الدفاعية، وقد يؤدي أيضا إلى إضعاف الدولة واستنزافها. وقد تزايدت أهمية المعيار الاقتصادي في القوة العالمية في المرحلة الجديدة أكثر من أية فترة سابقة، وربما كانت الأسباب الاقتصادية هي التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي. والمساحة الجغرافية للدولة أو الإقليم تحدد قوته وموارده وعمقه، وكانت المساحات الشاسعة المفرطة في اتساعها سببا في السقوط، والامبراطوريات الحديثة التي تضخمت كثيرا ضعفت بسبب هذا التضخم والامتداد، وقد استطاعت اليابان بأرخبيل من الجزر لا يكاد يصلح للسكن أن تقيم قوة اقتصادية عظمى، وعجزت دول تعج بالثروات الطبيعية عن إطعام شعوبها. وأصبحت المعرفة معيارا مهما ولعلها المعيار الأساس في القوة والتأثير، فقد ارتبطت القوة العسكرية والاقتصادية بالتكنولوجيا، وقد أصبحت الصناعات المعرفية، مثل الكمبيوتر والبرامج والرقاقات المعلوماتية والهندسة الوراثية والاتصالات والإعلام هي الأكثر استقطابا لرؤوس الأموال والقوى العاملة حتى إنها تشكل مرحلة عالمية ثالثة بعد مرحلتي الزراعة والصناعة. ويرتبط بالمعرفة المستوى التعليمي والبحث العلمي والكفاءات العلمية المدربة وبراءات الاختراع كمعايير لامتلاك قوة المعرفة واقتصادها. نشأ فراغ كبير في النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبرغم أن الولايات المتحدة تبدو هي القوة الأولى المهيمنة عالميا، ولكنها تواجه تحديات كبرى تتمثل في حجم الإنفاق العسكري، وتراجعها الاقتصادي والسكاني نسبيا، وتصاعد الثقافات الوطنية، وتراجع حصة الدولار في التبادلات والاحتياطات العالمية، وغياب التناغم الاجتماعي الوطني، وقد تلجأ للخروج من أزماتها إلى العزلة أو الاتحاد مع بريطانيا وربما أوروبا. وقد بدأت روسيا منذ مجيء بوتين محاولات كبرى لوقف التراجع الذي بدأ مع غورباتشوف وتسارع في عهد يلتسين، ومازالت برغم ما يبدو من انهيارها تمتلك فرص العودة من جديد على المسرح العالمي باعتبارها قوة رئيسة منافسة للولايات المتحدة، فمازالت تملك قوة عسكرية ونووية هائلة، ومستوى تعليميا متقدما، وموارد كثيرة، وقد تدخل في شراكة مع أوروبا. وقد تحولت اليابان إلى عملاق اقتصادي وإن بقيت قزما سياسيا ولا شيء يذكر في القوة العسكرية، وتسيطر على قطاعات تكنولوجية ومعلوماتية مستقبلية، ويتمتع سكانها بمستوى تعليمي متقدم، ولكنها تعاني من العزلة والتحولات الديمغرافية التي تضعف قواها العاملة وأنظمة الضمان الاجتماعي والادخار، وإذا استطاعت اليابان بناء تحالف مع الصين كما فعلت فرنسا وألمانيا فإنهما يستطيعان إعادة تنظيم آسيا وجعلها القارة الأقوى في العالم، وبالطبع فإن الولايات المتحدة ستبذل كل جهودها الممكنة لمنع ذلك التحالف. وقد بدأ الاتحاد الأوروبي يفرض نفسه قوة مؤثرة ومستقلة بعد عقود من التبعية للولايات المتحدة، ويمتلك الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية معادلة للولايات المتحدة وتأثيرا سياسيا عالميا كبيرا، وبدأ اليورو الأوروبي يشكل تحديا للدولار، ويجري تنافسا سياسيا واقتصاديا بين الولايات المتحدة وأوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا كما لوحظ في حرب الخليج الثالثة على سبيل المثال. وبدأت الصين تأخذ دورا اقتصاديا عالميا مهما مضيفة إلى رصيدها السكاني والعسكري دعامة رئيسة مهمة، وبرغم أن الصين تعاني من الفساد والنمو غير المتوازن بين الأقاليم الصينية والصراع السياسي في قمة الهرم السياسي فقد تحولت إلى قوة عظمى وسوق كبير تتنافس عليه الشركات والاستثمارات الأجنبية. ويبدو أن العالم متجه إلى نظام تحكمه الدبلوماسية متعددة الأطراف والأقطاب والتحول إلى مجموعة معسكرات وأقاليم متنافسة اقتصاديا وسياسيا، ويتميز هذا النظام بالاستقرار لأنه يعتمد على تشكيل ائتلافات متغيرة تصد كل محاولة للهيمنة عليه، ويعتمد على استراتيجيات دفاعية أكثر منها هجومية، وقد يسمح ذلك بالسيطرة على العنف، ويشجع التعاون الدولي لحل المشكلات الإنسانية المشتركة. |