![]() الـهـويــة الإسـلامـيـة الــمـتـخـيَّــلـة صغنا في مقالات ماضية فرضاً أساسياً مبناه أن السر العميق في الارتباك الشديد الذي يسود دوائر السلطة والحكم في الدولة العربية المعاصرة، يعود الى انه يطرح عليها في الوقت الحاضر ثلاثة أسئلة حاسمة، تمثل لها تحديات خطيرة وهي أسئلة التقدم والحكم الرشيد والهوية. وذكرنا من قبل ان سؤال التقدم سبق طرحه في عصر النهضة العربية الاولى بعد الصدام الدامي مع الغرب منذ الحملة الفرنسية على مصر، وان سؤال الحكم الرشيد طرح على الدولة العربية المعاصرة في عصر النهضة العربية الثانية، ونعني في الخمسينات حيث استقلت غالبية الدول العربية، ويبقى سؤال الهوية الذي يطرح الآن في عصر العولمة كاشفا عن مخاوف عميقة من أن تؤدي عواصف العولمة الى التأثير على الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية. نظرة عالمية مقارنة والواقع ان تحديات الهوية وما تثيره من إشكاليات لا تنفرد الدولة العربية المعاصرة بمواجهتها، بل يمكن القول إنها مشكلة ثقافية وسياسية عالمية، يدور حولها الجدل، وتحتدم المعارك السياسية والفكرية بصددها في كل بلاد العالم، ولا فرق في ذلك بين دول متقدمة ودول نامية او متخلفة. ومن هنا قد يكون من المناسب ان نثير السؤال المهم: لماذا الآن ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين يثور موضوع الهوية في كل مكان؟ هناك أسباب متعددة سياسية واقتصادية وثقافية، أدت الى ان تصبح مشكلات الهوية على أجندة هموم الدول المعاصرة في كل مكان. ولعل اول هذه الاسباب سقوط الاتحاد السوفياتي وبلاد الكتلة الاشتراكية، والتي كانت نظماً سياسية شمولية، نزعت الى محو القوميات، بل لجأت في سبيل توحيد الدول الى التهجير القسري للسكان من مكان الى آخر، وتجاهلت الى حد بعيد الخصوصيات الثقافية للأقوام المتعددة داخل حدود كل دولة. وحين سقطت قيود الشمولية الحديدية، انفجرت نزعات الهويات المكتومة وعبرت عن نفسها ثقافيا، وسياسياً. نادت الجماعات العرقية المختلفة بحقها في الحفاظ على خصوصياتها الثقافية، وتجاوزت بعض هذه الجماعات كل الخطوط السياسية الحمراء وطالبت بالانفصال عن الدولة الأم، وحقها في الحكم الذاتي، وتحقق ذلك في حالات متعددة بالتفاوض السلمي أحياناً، وبالصراع الدموي والحرب الأهلية احياناً أخرى. غير ان سبباً آخر يكمن في انتشار ظاهرة العولمة، وما أدت اليه من تحركات سكانية متعددة، تمثلت في الهجرة الى البلاد الاوروبية من جانب افراد وافدين من الدول العربية والاسلامية، وهؤلاء عبر الزمن كونوا مجموعات سكانية كبيرة لهم اسلوب مختلف في الحياة، ودين مختلف، وقيم مختلفة. وهم في تفاعلهم مع المجتمعات الاوروبية المضيفة جابهوا إشكالية الاختيار بين التكيف والذوبان، أو الحفاظ على هويتهم وعدم الانغماس في المجتمعات التي يعيشون فيها. وهكذا خلقت إشكالية الهوية لهؤلاء البشر مشكلات متعددة لكل من الدول المضيفة وللمهاجرين. أنظر مثلا الى فرنسا، حيث يعيش حوالى خمسة ملايين مسلم، وأصبح الدين الاسلامي هو الدين الثاني في البلاد، وقد تابعنا جميعا في السنوات الاخيرة معارك تحريم النقاب في المدارس العامة في فرنسا، ومحاولة الحكومة الفرنسية تشكيل مجلس أعلى يمثل المسلمين حتى تستطيع من خلاله التفاوض مع المجلس لحل مشكلات الهوية. غير ان هناك اسبابا اخرى ادت الى اندلاع مشكلات الهوية اهمها مشاريع التوحيد الاقليمي، والتغيرات السكانية في بعض الدول مثل الولايات المتحدة، وبروز دعوات متطرفة في البلاد العربية لاعادة صوغ الهوية. الهوية المصنوعة وقد نقلت الينا وكالات الأنباء اخيرا ان غالبية الشعب الفرنسي رفضت قبول الدستور الاوروبي، وتبعت فرنسا هولندا التي رفضت فيها غالبية الشعب هذا الدستور ايضا. والواقع ان الاتحاد الاوروبي الذي اكتمل بناؤه بعد أكثر من نصف قرن، والذي تحول من مجرد اتحاد اقتصادي الى اتحاد سياسي كامل، اصبحت ذروته في الواقع صياغة دستور اوروبي يعبر عن هوية اوروبية مستحدثة، لم تكن موجودة من قبل. فالفرنسي كان ولا يزال يفخر بهويته الفرنسية التي لها جذور ممتدة في التاريخ، وكذلك الايطالي واليوناني وغيرهم من مختلف الجنسيات التي يتشكل منها الاتحاد. غير ان طموح قادة الاتحاد تركز في الجانب الثقافي في ضرورة "صنع" هوية أوروبية من شأنها ان توحد الاتجاهات والقيم وأساليب الحياة لدى الشعوب الاوروبية المختلفة. وهكذا تثبت معركة الهوية بين الذين لا يريدون التخلي عن هويتهم الاصلية، الذين يتجهون الى المستقبل، ويطمحون الى خلق هوية اوروبية جامعة، تكون اداة للتفاعل الخلاق مع باقي الهويات الجماعية التي نشأت نتيجة شيوع صيغة الاتحادات الاقليمية ولمواجهة تحديات العولمة في الوقت نفسه. الهوية المشتتة غير ان هناك صوراً اخرى تستحق التأمل العميق، وأبرزها مشكلة الهوية في المجتمع الاميركي المعاصر. استطاع من أسسوا الولايات المتحدة ان يصوغوا استراتيجية ثقافية مبتكرة تكفل لهم تحقيق التجانس بين مختلف الجنسيات التي يحملها المهاجرون الى اميركا، بكل ما يحمله هذا التعدد من تنوع في القيم واختلاف في العادات والتقاليد. وهذه الاستراتيجية اطلق عليها اسم "بوتقة الصهر" Melting Pot، بمعنى انه أيا كان البلد الذي هاجرت منه، وأيا كانت الجنسية التي تحملها، وأياً كان نسق القيم الذي تتبناه، فأنت ستدخل في بوتقة الصهر الأميركية لتخرج مواطناً اميركيا تطبق ما يطلق عليه "الأسلوب الاميركي في الحياة". وقد نجح المخططون الاميركيون في تحقيق هذا الهدف من خلال توحيد الأذواق والعادات بين الملايين من السكان من خلال إحداث التجانس في الملبس والمأكل والسلوك، في ظل سوق استهلاكية واسعة المدى. غير انه عبر الزمن ولأسباب شتى عادت كل جماعة عرقية للبحث عن جذورها الثقافية، ولعل ما دفعها الى ذلك ثورة الأفارقة الاميركيين، الذين كان يطلق عليهم اسم "زنوج" احتقارا لشأنهم، وإصرارهم على نزع قيود العبودية. ليس ذلك فقط بل مطالبتهم باعادة كتابة التاريخ الاميركي حتى ينكشف المستور، ويظهر حقهم التاريخي في المواطنة الكاملة. واذا أضفنا الى ذلك موجات الهجرة المتتابعة من بلاد اميركا اللاتينية وخصوصا من المكسيك، بحكم متاخمة حدودها للولايات المتحدة، وما أدت اليه من امتناع آلاف المهاجرين عن تعلم الانكليزية وإصرارهم على الحديث بلغتهم الاسبانية، وتمسكهم بهويتهم الثقافية الأصلية، لأدركنا المأزق الثقافي الذي وقع فيه المجتمع الاميركي. سقطت استراتيجية "بوتقة الصهر" وظهر بدلا منها ما يطلق عليه "الثقافات المتعددة" Multi–Culturasim وانعكست هذه السياسة الثقافية الجديدة على مفاهيم المواطنة والهوية. بل ان المقررات الجامعية ذاتها تغيرت تغيرات جوهرية تحت وطأة مطالبات ممثلي الأقوام المتعددين ان يكون لتاريخ اقوامهم نصيب عادل في البحث والتدريس. وهكذا يمكن القول إن الهوية الاميركية في الوقت الراهن هوية مشتتة في الواقع. ويضاعف من خطورة الموقف بالنسبة للمهاجرين الاصليين من الانكلو سكسون وغيرهم، أنه بعد نصف قرن من الزمان، سيصبح عدد المواطنين الاميركيين من اصل اميركي لاتيني اكبر من عدد ذوي الاصول الانكلو سكسونية والاوروبية. وفي ذلك ما فيه من إحداث ثورة في مجال الحكم والنظام السياسي الاميركي. ولعل هذا ما دفع احد كبار المؤرخين الاميركيين الى أن ينشر بحثاً بعنوان "رسالة عدم الاتحاد" إشارة ساخرة منه الى "رسالة الاتحاد" التقليدية التي يوجهها الرئيس الاميركي للمواطنين الاميركيين. ويقصد المؤرخ بذلك ان الاتحاد الاميركي قد تفكك بالفعل، ومن ثم فوصف "عدم الاتحاد" أصدق من وصف الاتحاد! ويعرض فيه للمشكلات التي ألمحنا اليها، وخصوصا في ما يتعلق بالتغيرات السكانية المستقبلية. الهوية المتخيَّلة وتبقى امامنا أخطر مشكلات الهوية والتي تتعلق بعالمنا العربي والاسلامي. والواقع اننا خططنا منذ البداية للتعمق في تحليل مشكلات الهوية المتخيلة، غير اننا اردنا ان نمهد لذلك بمقدمة – قد تكون قد طالت قليلا – عن مشكلات الهوية في العالم. ويقصد بالهوية المتخيلة على وجه التحديد نزوع بعض الجماعات الاسلامية التي تراوح اتجاهاتها بين الاعتدال والتطرف، الى ابتداع هوية إسلامية متخيلة يريدون لها ان تحل محل الهويات العربية او حتى الاسلامية المعتدلة. واصحاب هذا التوجه ينطلقون من مسلمة بسيطة وان كانت خطيرة، مبناها ان الماضي وليس الحاضر ولا المستقبل ينبغي ان يكون المرجعية التي تحسم التوجهات وتحل المشكلات الراهنة، وبغض النظر عن النظريات المعاصرة، والحلول العلمية. الغرض المعلن ببساطة هو استرداد الفردوس المفقود، ويعنون به استعادة عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، بكل ما فيه من قيم وعادات وتوجهات. ويتم ذلك من خلال ليّ عنق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، لكي تتفق مع وجهات نظرهم المتشددة. ويستخدمون في سبيل الترويج لأفكارهم المتطرفة المفارقة لروح العصر تكوين الجمعيات والمنظمات، ونشر الكتب وإذاعة الفتاوى، بل الإرهاب المعنوي ضد المختلفين معهم، والإرهاب الفعلي ضد الدولة العربية المعاصرة. والواقع ان هذه الهوية المتخيلة التي نجحت هذه الجماعات الاسلامية المتشددة في ابتداعها وشاركتها في ذلك المؤسسات الدينية التقليدية قد صاحبت موجات التدين الشعبي التي اتسعت دوائرها منذ أكثر من ثلاثة عقود لأسباب متعددة. وقد ساعد على نمو نزعات الهوية الاسلامية المتخيلة تواطؤ الدولة العربية المعاصرة مع هذه الجماعات الاسلامية المتشددة التي اختلقت هذه الهوية وذلك إما لتدعيم شرعيتها السياسية المتهاوية، او رشوة علنية للجماهير المتدينة لكي تثبت لهم انها ليست اقل إسلاماً من هذه الجماعات التي اصبحت مصدر توتر اجتماعي حاد في المجتمع العربي المعاصر. هذه الهوية المتخيلة تحتاج في الواقع الى تحليلات سياسية واقتصادية وثقافية، تلقي الضوء على مختلف جوانبها المعتمة، وتبرز في الوقت نفسه مأزق الدولة العربية المعاصرة. |